أطلق رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، في الـ13 من يونيو/حزيران 2022، الحوار المجتمعي بشأن ما أسماه وثيقة “سياسة ملكية الدولة”، وهي الوثيقة التي تكشف موقف الدولة من القطاعات الاقتصادية المختلفة وأصولها المملوكة لديها خلال السنوات الخمسة المقبلة.
وقد قسمت الوثيقة تلك القطاعات المدرجة تحت بند “أصول الدولة” إلى ثلاثة أقسام: الأول يشمل تلك القطاعات التي ستخرج منها الدولة بصورة نهائية خلال 3 سنوات، والثاني تلك التي ستقلل الحكومة من حجم الاستثمارات فيها مع منح مستثمرين أجانب حق المشاركة، أما القسم الثالث فيتضمن القطاعات التي ستتوسع الدولة في الاستثمار فيها.
وقد استغلت الحكومة الحوار الوطني الذي دعا إليه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قبل شهرين لطرح تلك الوثيقة على مائدة النقاش الذي يشارك فيه عدد من الكيانات السياسية التي اختارتها الأكاديمية الوطنية للتدريب (التابعة لمؤسسة الرئاسة) الموكل لها إدارة الحوار فيما تم استبعاد بعض التيارات على رأسها الإسلام السياسي.
وكان السيسي قد أشار خلال حفل “إفطار الأسرة المصرية” الذي عقدته مؤسسة الرئاسة في أبريل/نيسان الماضي إلى استهداف جمع 40 مليار دولار من بيع الأصول المملوكة للدولة بمعدل 10 مليارات دولار سنويًا لمدة أربع سنوات لتعزيز احتياطي البلاد من العملات الأجنبية بما يساعد على الوفاء بالتزاماتها المالية والنقدية.
يذكر أنه في الآونة الأخيرة باعت الحكومة المصرية بعض أصولها المملوكة لدى البنوك والشركات والفنادق لسد العجز الواضح في سداد فاتورة الاقتراض الخارجي التي أوصلت الدين إلى مستويات قياسية، الأمر الذي أثار قلق المتابعين من أن يكون الحوار الوطني الحاليّ ليس سوى جسر لتمرير هذا التوجه الجديد تحت عنوان وثيقة “سياسة ملكية الدولة”.
رفض الوثيقة
الوثيقة لم تعرض على الشارع المجتمعي من قبل، وإن كانت هناك بعض المؤشرات الدالة على لجوء الدولة إلى هذا التوجه، ومن ثم حين تم عرضها بشكل رسمي على هامش الحوار الحاليّ قوبلت بالرفض من بعض الكيانات من بينها “حزب الكرامة” الذي قال في بيان له إن الوثيقة “خطة لاستحواذ رؤوس الأموال على أصول عامة قائمة بالفعل، بعضها حساس (مستشفيات ومدارس ومرافق عامة وموانئ) وليست وثيقة لتشجيع الاستثمارات التي من المُفترض أن تُنشئ تلك الأصول من العدم، وإضافة قدرات اقتصادية جديدة”.
من جانبه قال عضو الهيئة العليا للحزب، عبد المجيد راشد: “ما يتم تقديمه على أنه حوار عن وثيقة سياسة الدولة، فُرغ من مضمونه، حيث مضت الحكومة بالفعل في طريقها لبيع الأصول وطرحها للمستثمرين لشرائها، فما الذي سيتم التحاور بشأنه؟” وفق تصريحاته لموقع “مدى مصر“.
فيما ذهب القيادي بالكرامة، عماد حمدي، إلى أن الهدف الرئيسي للوثيقة المطروحة بشكلها الحاليّ هو تحقيق شروط صندوق النقد الدولي فيما يتعلق بمنح القطاع الخاص الفرصة في المشاركة تحت مظلة الدولة وهي الإستراتيجية التي لا تراعي الظروف الاقتصادية والاجتماعية للدول النامية مثل مصر على حد قوله.
الحزب في بيانه حمّل الحكومة مسؤولية ما آلت إيه الأوضاع الاقتصادية من تأزم، مرجعًا ذلك إلى ما أسماه “الانحياز لسياسات الاستدانة بشكل غير مسبوق”، ما نجم عنه مضاعفة حجم الدين لأكثر من 400% خلال 8 سنوات فقط، فضلاً عن غياب فقه الأولوية في التعامل مع المشاريع، إذ أنفقت الدولة الجزء الأكبر من ميزانيتها في مشروعات تفتقر إلى الجدوى وهو ما تسبب في النهاية إلى ارتفاع معدلات البطالة والتضخم وتهاوي العملة المحلية وفقدانها لقيمتها الشرائية ومعها زيادة أعداد الفقراء.
وفي المقابل أكد رئيس الوزراء أن التخارج لا يعني بيع أصول الدولة بالمعنى التقليدي الذي تتناقله وسائل الإعلام، لافتًا إلى وجود 7 آليات لسياسة التخارج و6 معايير تحكم هذا القرار منها:” ارتباط السلعة أو الخدمة بالأمن القومى وأن يكون النشاط نفسه غير جاذب للقطاع الخاص نتيجة لطبيعته والتخارج من الصناعات الاستهلاكية ودخول الدولة كمنظم وداعم لصناعات مستقبلية تكنولوجية وأن الدولة المصرية والاستثمارات الحاليّة الدولة لا تجيد إدارتها”.
الحوار الوطني.. شكوك في جديته
رغم حالة الاحتفاء الإعلامي التي قوبلت بها دعوة الرئيس المصري لانطلاق فعاليات هذا الحوار الوطني الذي يهدف بحسب القائمين عليه إلى وضع روشتة عاجلة لخروج البلاد من أزمتها الراهنة على كافة المسارات، إلا أن الإرهاصات الأولية له جاءت عكس عقارب ساعة السلطات الداعية له، إذ ساروته الشكوك من كل جانب.
سياسة الانتقاء التي تتبعها الأكاديمية المنظمة للحوار والتابعة لرئاسة الجمهورية، وإقصاء بعض التيارات بعينها واستبعاد شخوص آخرين معروف عنهم تغريدهم نسبيًا خارج السرب، فضلًا عن عدم وجود خطة أو جدول زمني للموضوعات المتوقع مناقشتها ومدى تلبيتها لمطالب الشارع بجانب عدم وجود ضمانات حقيقية لتنفيذ المخرجات المحتملة، كل هذا ألقى بظلاله القاتمة على رد فعل الشارع إزاء هذا التحرك الذي يراه البعض ليس إلا مغازلة للخارج ومحاولة لامتصاص الاحتقان الداخلي.
وقد أسفرت تلك السياسة عن فرض حالة من التشاؤم إزاء ما يمكن أن تسفر عنه جلسات هذا الحوار كما جاء على لسان رئيس حزب الإصلاح والتنمية، وعضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، محمد أنور السادات، الذي أعلن استبعاده وسياسيين آخرين من المشاركة في تلك الفعاليات، منوهًا في بيان له أن استبعاده وحظر ظهوره وآخرين في وسائل الإعلام يُعتبر “بداية غير مشجعة وغير موفقة” للحوار.
وعن رؤيته لأسباب استبعاده التي يعتبرها البعض نتيجة منطقية للانتقادات التي دومًا ما يوجهها المعارض للنظام والحكومة، يشير السادات إلى أن الرئيس ومساعديه المقربين يجب ألا يغضبوا من “كلمة الحق والنصيحة الصادقة التي أرسلناها لهم”، مشددًا على ضرورة وأهمية التوسع في دعوات الانضمام للحوار لتشمل الآلاف تحت مسمى “المشاركة الشعبية”.
وقد استعرض عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان 6 خطوات أسياسية يجب على النظام الالتزام بها أولًا لضمان جدية الحوار وهي: الإفراج عن المحبوسين احتياطيًا والمحكوم عليهم بسبب آرائهم السياسية، إتاحة حرية الرأي وفتح المجال العام، تمكين الأحزاب وتحرير وسائل الإعلام من الهيمنة الحكومية، إقرار قوانين انتخابات عادلة للتشجيع على المشاركة، عدم التدخل في أعمال السلطة القضائية، وإنهاء الاحتكار الاقتصادي لشركات القوات المسلحة وتلك المملوكة لجهات سيادية، بحسب بيانه.
وكان السادات قد استنكر قبل ذلك إسناد إدارة الحوار لجهة تابعة لمؤسسة الرئاسة قائلًا في في بيان صحفي نشره على حسابه على فيس بوك : “كنت وما زلت من المرحبين والداعين للحوار الوطني الشامل الذي دعا اليه الرئيس السيسي، ولكنني غير راض ومطمئن عن إسناد تنظيمه وإدارته لبعض المؤسسات الشبابية التي تنتمي وتدار “بمعرفة أجهزة بعينها” في شكل كرنفال مفتوح ربما لن يحقق الهدف منه حتى لو صاحب هذه الدعوة والاحتفالية انفراجه مؤقتة ومحدودة تتمثل في الإفراج عن بعض المحبوسين احتياطيًا أو إصدار عفو رئاسي عن المحكوم عليهم في قضايا سياسية، فالمشكلة ستظل قائمة ومتكررة”.
مصر تعيش لحظة كارثية
أما البرلماني السابق والمعارض السياسي أحمد الطنطاوي، فشكك هو الآخر في جدوى الحوار الدائر حاليًا، في ظل عدم توافر المناخ الملائم وإقصاء بعض التيارات والأشخاص بسبب توجهاتهم المعارضة للنظام، مشيرًا في مقابلة مع قناة “بي بي سي عربي”، مساء الخميس 9 يونيو/حزيران الحاليّ إلى أن المعارضة المصرية الحالية تنقسم إلى قسمين، الأول فريق جاد يبحث عن حوار موضوعي يصل من خلاله إلى نتائج حقيقية موضع التنفيذ أما الثاني فتيار يريد المشاركة في أي فعاليات “مثل منتديات الشباب التي يرعاها الرئيس وغيرها” على حد قوله، محذرًا من أن “مصر تعيش لحظة كارثية الآن، حذر هو منها في عام 2017، حين أطلق رؤية شاملة باسم الطريق الثالث”.
وفي ختام المقابلة قال الطنطاوي، البرلماني المشاغب الذي كان قد أشار إلى أن خسارته في الانتخابات البرلمانية الأخيرة كانت بفعل فاعل: “كان من المفترض أن تنتهي ولاية الرئيس السيسي هذا العام بمرور ثماني سنوات، مثلما قال الدستور، ومثلما وعد هو نفسه. ونحن نرى أن أفضل شيء ممكن أن تقدمه السلطة الحالية هو أن تتحول إلى سلطة سابقة بانتخابات ديمقراطية ونزيهة، ويا حبذا لو كان هذا في أقرب وقت ممكن”، على حد تعبيره.
وتعليقًا منه على إسترايتجية بيع أصول الدولة التي تتبعها الحكومة في الآونة الأخيرة قال في حوار مع موقع المنصة أجراه معه الصحفي عمرو بدر، عضو مجلس نقابة الصحفيين المصرية: “هو كل ما تتنزق تبيع أو تستلف إلى حد يهدد سلامة الوطن واستقلال قراره، هي كل الدول اللي مرت بالظروف اللي احنا فيها دي ملقتش حلول هو لازم يحكمها حد ملهم أو بيجيله وحي، المؤشرات دي بتقول إن الناس دي فاشلة”.
وأضاف متحدثًا عن السيسي “عندما قدم نفسه مرشحًا في انتخابات عام 2014 بوعود تحسن الأوضاع في غضون سنتين، كان يعرف الموقف على الأرض وكان مفترضًا بحكم الدستور وبحكم وعوده التي قطعها على نفسه في مناسبات عديدة مرشحًا ورئيسًا، أن تنتهي مدته الرئاسية بعد فترتين، وهو أيضًا الذي قال إن الناس ستبدأ في جني الثمار خلال سنتين، وإن مشروعه سيكتمل في 8 سنوات”، وتابع “هل حدثت أي مستجدات بعد وصوله للسلطة، أم أن الوضع الذي نتحدث عنه كان موجود أصلًا؟ يعني هل 25 يناير حدثت بعد انتخاب الرئيس؟ أم أنه وصل للسلطة بعد 25 يناير؟ الأمر ليس البحث عن ذرائع ومبررات لأن هذا سهل جدًا، والحقيقة أن هذه الطريقة لم تعد مقنعة للناس أصلًا، فالناس لديها القدرة على الفرز والفهم حتى لو قرروا أن يمرروا أمورًا كثيرة بمزاجهم”.
تلك الوضعية الكارثية للاقتصاد المصري عبر عنها الإعلامي المقرب من السلطة، عماد الدين أديب، في مقال له تحدث فيهم عن ضرورة دعم الدول العربية لمصر في مواجهة تأثيرات الحرب الروسية الأوكرانية، محذرًا من عواقب كارثية تهدد أوروبا والدول العربية إذا لم تدعم القاهرة بشكل عاجل ومباشر بمبلغ 25 مليار دولار، تحملته الموازنة المصرية نتيجة لتلك الحرب، وفق قوله.
وقد أثار حديث أديب حالة من الجدل، بين من يعتبره مناشدة لدعم مصر وآخرين تهديدًا مباشرًا للخليج وأوروبا، لا سيما أنه يتناغم مع تصريحات السيسي أمس الإثنين على هامش مشاركته في حفل افتتاح مشروعات الإنتاج الحيواني والألبان والمجازر الآلية بمدينة السادات (شمال القاهرة) الذي دعا خلاله دول الخليج إلى تحويل ودائعهم في البنك المركزي المصري إلى استثمارات، مضيفًا “نحاول من جانبنا أن نجعل هذه الودائع استثمارات، ونحن لدينا مشروعات كثيرة، فمصر بها 100 مليون وفرص كثيرة”.
الحوار الوطني.. هل يكون بوابة تمرير الوثيقة؟
في تحليل تفصيلي له عن منهجية بيع أصول الدولة كأحد الحلول السريعة للهروب من المأزق، أكد الكاتب الصحفي المتخصص في الشأن الاقتصادي عادل صبري أن الحكومة رغم تبنيها لهذا التوجه الجديد فإنها غير قادرة حتى الآن على تدبير تمويل العجز في الموازنة من عوائد بيع تلك الأصول، وذلك بسبب عدم انتهاء المؤسسات المالية من تقييم تلك الأصول المطروحة للبيع للصناديق السيادية العربية.
وأوضح الكاتب المفرج عنه في يوليو/تمًوز 2020 بعد فترة حبس احتياطي دامت عامين، أنه رغم إعلان رئيس الوزراء عن خروج الحكومة بشكل كلي أو جزئي من 79 نشاطًا اقتصاديًا على مدار 3 سنوات قادمة، لكنه لم يقدم للجهات الفنية قائمة نهائية بالأصول التي ينتوي بيعها، وهو ما يثير الكثير من الشكوك.
وكشف أن الحكومة تستهدف بيع أصول بقيمة 10 مليارات دولار، لصندوق الثروة السعودي السيادي، خلال الفترة المقبلة، هذا بجانب بيع بعض الأصول البنكية والمؤسستية الأخرى لصناديق خليجية أخرى، الأشهر الماضية، فضلًا عن الحصول على تمويلات بقيمة 15 مليار دولار من قطر والإمارات والكويت لدعم الاقتصاد.
في ضوء ما سبق، وبينما يقلل البعض من جدوى الحوار الوطني تتصاعد المخاوف من أن يكون القنطرة التي يمرر من خلالها النظام تشريع بيع أصول الدولة تحت ستار وثيقة “سياسة ملكية الدولة” هربًا من المأزق الحاليّ الذي لا يتوقع عبوره سريعًا في ظل غياب الخطط الاقتصادية القادرة على تغيير الوضع دون الحلول الكارثية كالاقتراض وبيع الأملاك العامة، تلك الفاتورة التي لن يسددها إلا المواطن الفقير الذي يتحمل من جيبه الخاص أكثر من 80% من دخول الدولة سنويًا.