4 أشهر تكاد تمرُّ على اللحظة التي اعتقدَ فيها بوتين أنه قادر على إسقاط كييف في حرب خاطفة، لا تتجاوز أيامًا معدودة، والظاهر هو أن المسؤولين الاقتصاديين في روسيا يلعبون بكفاءة أفضل من الجنرالات، حيث جنّبوا الروبل صدمة العقوبات، غير أن تعافي العملة الروسية واستمرارها في كسر الدولار لا يبدوان حقيقيَّين بقدر ما هما نتاج عمل مُصطنَع.
حقيقة الأمر هو أن الإجراءات غير المسبوقة التي اتّخذها البنك الروسي المركزي لدعم الروبل، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تشكّل دعامة قوية للاقتصاد الروسي، بقدر ما تهدّده بمواصلة الاقتراب من الإفلاس، خاصة أن موسكو تقف على عتبة التخلُّف عن سداد ديونها.
التضحية بالاستقلال النقدي
حاليًّا يعادل الدولار أقل من 60 روبلًا، ما يعني أن السلطات المالية نجحت في حماية العملة من الانهيار الذي كان وشيكًا، بعدما تجاوز سعر الدولار الـ 100 روبل، بعد أيام قليلة من بدء الغزو الروسي على أوكرانيا في 22 فبراير/ شباط 2022، حينها تنبّأت التوقعات بانهيار وشيك للعملة الروسية، بينما ظنَّ المتفائلون أنها ستحقق تعافيًا طفيفًا، لكن ما حصل كان مفاجئًا لأن أداء الروبل بدا أفضل بكثير من أداء الجيش الروسي في أوكرانيا.
غريبٌ هذا التعافي، كما يقول بول كروغمان في صحيفة “نيويورك تايمز”: “شيء واحد تمكّنت روسيا من الدفاع عنه بفعالية، هو قيمة عملتها”، وهكذا ضحّت روسيا باستقلالها النقدي من أجل مواجهة الركود الذي يلوح في الأفق، ورفعت أسعار الفائدة بشكل باهض من 9.5% إلى 20%، ليبدو سعر العملة مستقرًّا مقابل العملات الأجنبية، وبالتالي بعثت حالة من اليقين لدى الشركات.
وهي أحد أشكال الدعاية الاستراتيجية التي تقوم بها الأنظمة الاستبدادية، لأنها في العادة تلجأ إلى إخفاء البيانات الحقيقية أو التلاعُب بها، بالتالي لا يعبِّر تعافي الروبل عن الواقع الاقتصادي.
تلاعبَ البنك المركزي بقيمة الروبل عندما حظر بيعه وشراء العملات الأجنبية في البنوك، كما منعت الحكومة مواطنيها من تحويل الأموال إلى الخارج، لهذا انتعشَ الروبل مستفيدًا من زيادة الطلب عليه.
علاوة على ذلك، منعت روسيا المستثمرين الأجانب من بيع الأسهم الروسية، بالتالي خلقت الضوابط الصارمة على رأس المال حالةً من عدم اليقين لدى الخبراء الاقتصاديين حول قدرة أسواق العملات على تسعير الروبل بشكل فعّال، بعدما لم يَعُد واضحًا حجم التداول مع العملات الأجنبية.
نتيجة لذلك، خفّضت الضوابط على رأس المال من قيمة التداول إلى أدنى مستوى لها منذ عقد، وهو ما أثار شكوك الخبراء حول مصداقية المكاسب التي حقّقها الروبل، إذ لم يَعُد سعر صرفه معوّمًا بحرّية، بالتالي ستكون العملة عند مستوى مختلف تمامًا إذا تمّت تنحية هذه الضوابط المفتعَلة.
يرى الخبراء أن السوق الروسية لا تعمل بشكل سليم، بما أن تداول الروبل لا يتمّ بحرّية بعد أن فرضت روسيا قيودًا عديدة تمنع تدفق رؤوس الأموال إلى الخارج، لهذا من المستحيل تقريبًا معرفة السعر الحقيقي للروبل.
تحريف العقوبات
أما قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين القاضي ببيع الغاز بالروبل فلم يؤدِّ فقط إلى زيادة الطلب على العملة الروسية، بل تسبّب أيضًا في تحريف نظام العقوبات ضدّ نفسه، لأنَّ مستوردي الغاز الغربيين يحتاجون إلى شراء الروبل من البنك المركزي الروسي أو من أي بنك روسي، لكن حزمة العقوبات تجعل هذه العملية معقّدة إن لم تكن مستحيلة.
تشمل العقوبات البنك المركزي ومختلف البنوك الروسية، وبالتالي إن التعامل مع هذه المؤسسات المالية من شأنه أن يرفع بشكل غير مباشر العقوبات الغربية عنها، وهذا ما لا تريد البلدان الغربية حدوثه عندما رفضت قطعًا قرار بوتين، لكنها في نهاية المطاف سوف تضطر إلى شراء الروبل من مكان ما في روسيا، طالما أنها لا تستطيع في الوقت الحالي الانعتاق من التبعية الطاقوية لموسكو، ربما في المستقبل البعيد، أما الآن تحتاج أوروبا تأمين حاجتها من الغاز الروسي التي تقدَّر بـ 40%.
رفضَ المسؤولون الأوروبيون خطة بوتين عندما تمَّ الإعلان عنها لأول مرة، علمًا أنها لن تغيّر من قيمة المدفوعات كما هو منصوص عليه في صفقات التوريد، والتي ستستمرُّ كما كانت من قبل.
أرادَ بوتين كسر العزلة التي فرضها الغرب على المؤسسات الروسية، في حين أنه سواء تمَّ الدفع بالروبل أو بالدولار أو باليورو، بالتالي ستكون العوائد المالية لروسيا هي نفسها أو أكثر بشكل طفيف لا يكاد يذكر، بينما في العادة تتعمّد الدول خفض قيمة عملتها من أجل تعزيز صادراتها، كي تكون هذه الأخيرة أرخص وأكثر تنافسية، لكن في حالة روسيا فلا يمكن للغرب أن يستغني عن غازها في الوقت الحالي.
لن ينجو الاقتصاد الروسي
يجانبُ الصواب أي حديث عن قطع واردات الطاقة من روسيا، ففي عام 2021 كانت روسيا أول مصدّر للغاز الطبيعي إلى أوروبا بحجم 8.9 تريليونات قدم مكعّب في السنة، وأول مصدّر للنفط الخام إلى القارة العجوز بمعدل 4.7 ملايين برميل في اليوم، وفق بيانات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية.
تسعى روسيا إلى تقويض هيمنة الدولار واليورو على سوق التجارة الدولية، بالتالي إن قرار بوتين بالتعامل مع البلدان غير الصديقة بالروبل، وإبداءه رغبة في التعامل مع البلدان الأخرى بعملتها المحلية، يشكّلان مصدر إزعاج للولايات المتحدة التي أصبح اقتصادها يستمدّ قوته من مكانة الدولار في السوق الدولية، وليس العكس.
حتى لو ارتفعت قيمة الروبل، لا يزال التضخُّم آخذًا في التفاقُم، حيث تجاوز الـ 17% والحدّ المسموح به من قبل البنك المركزي هو 4%، كما يستمرّ ارتفاع أسعار المواد الأساسية دون تدخّل من الحكومة الروسية لدعم أجور الموظفين، حيث إن أزيدَ من نصف مليون مواطن أضحوا مهدَّدين بفقدان وظائفهم بسبب الحرب.
صحيح أن الروبل عوّض الخسائر التي تكبّدها جرّاء الحرب وحزمة العقوبات الاقتصادية، التي لم يبدِ الغرب أي نية لرفعها أو على الأقل تخفيفها ما دامت روسيا مستمرة في إطلاق النار، بيد أن الاقتصاد الروسي لن ينجو بأي حال من الأحوال من الانكماش الحاد الذي قد يصل هذا العام إلى 15% كما تشير التوقعات.