لم تشهد منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا تغيرات ديناميكية في خارطتها السياسية خلال السنوات العشر الأخيرة كتلك التي شهدتها خلال الربع الأخير من عام 2020، والتي يمكن قراءتها في ضوء التقلُّبات الدراماتيكية على الساحة الدولية، حيث دفعت الكثير من الدول لإعادة النظر في أولويات توجُّهاتها الخارجية، في محاولة لضبطها على بوصلة مصالحها الوطنية العليا وأمنها القومي، حتى لو كان ذلك على حساب مواقف كانت تُعدّ في السابق مرتكزات ثابتة.
ومن أبرز النماذج الكاشفة لتلك السيولة السياسية في المنطقة العلاقات المصرية التركية، تلك العلاقات التي شهدت تأرجُحًا كبيرًا في مسارها الرسمي بين الخصومة والتقارُب مرورًا بمحطات متباينة على أوتار التبريد والمغازلة وجسّ النبض، فيما بقيت أبوابها الخلفية، الاقتصادية والشعبية، مفتوحة على طول الخط.
ومن أقصى اليسار الصدامي إلى نقطة متقدّمة نحو اليمين المتحفّظ دخلت العلاقات بين البلدَين مؤخرًا أجواء من التنسيق والتناغم، وسط جهود مبذولة من الطرفَين لطيّ صفحة الخلافات في إطار سياسة “تصفير الأزمات” التي تسعى كل من أنقرة والقاهرة تبنّيها، تماشيًا مع التحديات الأخيرة التي فرضت تموضُعات وتحديات تتطلب من الجميع العودة خطوات -وليس خطوة- للخلف، لقراءة المشهد بصورة أكثر وضوحًا وشمولية بما يضمن الحفاظ على المصالح في منطقتها الدافئة بعيدًا عن أي هزّات تهددها.
في هذه الإطلالة نلقي الضوء على معادلة النزاع بين مصر وتركيا وصراع النفوذ المستمَدّ من جذوره التاريخية، وصولًا إلى دبلوماسية التهدئة التي يتّبعها الطرفان من أجل فتح صفحة جديدة في مسار العلاقات، تحاول قدر الإمكان بناء أرضية مشتركة، وتنحّي معها الملفات الخلافية -التي تؤجِّج الأجواء كلما وصلت إلى مراحل التبريد- جانبًا، مع استقراء سيناريوهات هذا المسار في ظل العراقيل التي تقف حجر عثرة أمام تحقيقه للأهداف المنشودة.
المسار التاريخي.. محاولة للفهم
لا يمكن الحديث عن العلاقات التركية المصرية بمعزل عن المسار التاريخي الذي أوقع البلدَين، وكلاهما يمثل ركنًا أساسيًّا في توازن الشرق الأوسط، في موقع الخصم والندّ، بعيدًا عن الرواسب الموروثة إبّان الحكم العثماني لمصر لأكثر من 300 عام، والتي لا تزال حاضرة بشكل أو بآخر في العقلية المستترة للشعبَين حتى اليوم.
كانت العلاقات بين البلدَين تحيا حالة من التناغم نسبيًّا بعد انتهاء الحكم العثماني لمصر في القرن الثامن عشر، لكن ما أن جاءت الحرب الباردة حتى ألقت بظلالها القاتمة على تلك العلاقات، إذ كان للتنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي دوره في الزجّ بكل قوة في معكسر ما، بعد توزيع القوى العالمية وفق المعطيات السياسية الدولية الجديدة.
حينها ارتمى الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر في أحضان السوفيت ردًّا على تعنُّت أمريكا معه في بناء السدّ العالي، لتردَّ تركيا فورًا بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وكان هذا التأطُّر بداية الطريق نحو موجة توتُّر في العلاقات لم تتوقف حتى كتابة هذه السطور.
وكان عام 1955 عامًا فاصلًا في مسيرة العلاقات بين أنقرة والقاهرة، حين تشكّلَ حلف بغداد الموالي لبريطانيا والغرب، حيث فضّل الأتراك الانضمام إلى الحلف دعمًا لواشنطن ولندن، فيما رفضَ عبد الناصر الضغوط الأمريكية للانضمام إلى هذا الكيان حفاظًا على علاقته بالاتحاد السوفيتي من جانب، ولرغبته في التخلُّص من العباءة البريطانية بشكل كامل من جانب آخر.
وقد أدّى هذا التأدلُج في التوجُّهات إلى توتير الأجواء بين البلدَين المسلمَين، ما أدّى إلى سحب متبادل للسفراء هنا وهناك، لكن الموقف الإيجابي الذي أبدته أنقرة إزاء مصر في أزمة السويس عام 1956، نجح في تخفيف مستوى حدة هذا التوتر.
وبعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 خيّمت أجواء من الدفء على العلاقات بين البلدَين، حيث تبنّت تركيا موقفًا مناوئًا لدولة الاحتلال، تعزّزَ هذا الموقف أكثر وأكثر مع مساندة الأتراك لمعظم المواقف العربية حيال قضية القدس والقضية الفلسطينية بصفة عامة، وهو ما كان له صداه الكبير في التقارب بين سياسة البلدَين الخارجية.
ثم جاء الدور الدبلوماسي الذي قامَ به الرئيس المصري الراحل حسني مبارك لنزع فتيل الأزمة بين تركيا وسوريا عام 1998 بسبب دعم النظام السوري حينها لمنظمة “بي كا كا” الإرهابية، ليؤكّد على عمق العلاقة بين البلدَين ووجود أرضية مشتركة يمكنها امتصاص أي صدمات طارئة، حتى إن كان بعضها ذو جذور تاريخية تمتدّ إلى مئات السنين.
ثورة يناير.. مرحلة مفصلية
جاءت ثورة يناير/ كانون الثاني 2011 كمحطة فاصلة في مسار العلاقات بين البلدَين، إذ شهدت العلاقات التركية المصرية في عهد الرئيس الراحل محمد مرسي تطورًا لم تشهده من قبل في ظلّ الخلفية الأيديولوجية الإسلامية للحزبَين الحاكمَين هنا وهناك، الحرية والعدالة ممثلًا عن جماعة الإخوان في مصر والعدالة والتنمية في تركيا.
كان هذا التناغم مثيرًا لقلق الدولة العميقة في مصر ومؤسساتها السيادية، وعلى رأسها الجيش والشرطة والقضاء، وبعد الإطاحة بمرسي في 3 يوليو/ تموز 2013 دخلت الأجواء مرحلة من الخصومة، إثر ردّ فعل الحكومة التركية التي وصفت ما حدث بالانقلاب العسكري فاتحة أبوابها أمام قيادات الإخوان، وهو ما اعتبرته المؤسسة العسكرية التي سيطرت على الحكم في مصر مجاهَرة بالعداء الرسمي لها.
وفي 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2013، أي بعد 3 أشهر فقط على ما وصفته أنقرة بـ”الانقلاب”، أعلنت مصر أن السفير التركي لدى القاهرة “شخص غير مرغوب فيه”، ليتمَّ خفض مستوى العلاقات الدبلوماسية بين البلدَين، ثم تبدأ سنوات التوتر في التصاعد، حاملةً معها كافة أوجُه الاستهداف والسجال السياسي والإعلامي بين الطرفَين.
وخيّمت على الساحة أجواء الاتهامات المتبادلة، فالقاهرة تتّهمُ أنقرة بالتدخل في شؤونها، فيما كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حريصًا خلال كافة لقاءاته على الإشارة إلى نظيره المصري، مؤكدًا على دعمه المستمر لقيادات الإخوان والمطارَدين من بطش السلطات الأمنية المصرية التي استهدفت أبناء الجماعة دون استثناء، قيادات وأعضاء ومناصرين ومتعاطفين.
ومنذ عام 2013 وحتى بدايات عام 2020 دخلَ البلدان في معارك سياسية غير مباشرة، لعلّ أبرزها الملف الليبي، حيث دعمت القاهرة اللواء المتقاعد خليفة حفتر في الشرق، فيما كانت أنقرة تحتضن الحكومة الشرعية في الغرب.
وفي عام 2019 وقّعت تركيا وليبيا اتفاقًا لترسيم الحدود البحرية حفاظًا على حقوق الأتراك في شرق المتوسط، وهو ما أوغر صدر القاهرة التي اتخذت هي الأخرى حزمة من الإجراءات نحو تدشين تحالفات واتفاقيات مع خصوم تركيا في المنطقة (اليونان وقبرص).
التحديات المشترَكة.. فرصة لإعادة تقييم الموقف
وفي خضمّ الخصومة المتبادلة والسجال بين البلدَين، شهدت الساحة الدولية مجموعة من المستجدّات التي فرضت حزمة من التحديات دفعت كليهما إلى التراجع خطوة للوراء لإعادة ضبط البوصلة بما يخدم المصالح القومية للطرفين، ويقيهما مغبّة الولوج في أتون الاستقطاب الحاد الذي ربما يكلفهما فوق طاقتهما.
كان المستجد الأبرز إزاحة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب -أحد أبرز حلفاء النظام المصري الحالي- عن البيت الأبيض، ومجيء الديمقراطي جو بايدن المفعَم بنظرة سلبية عن السلطات المصرية وسجلّها الحقوقي المشين، ولم يختلف الوضع على الجانب التركي حيث فتور العلاقات بين الإدارة الجديدة والرئيس أردوغان.
ثم تطور الأمر مع السياسة الأمريكية الجديدة إزاء الشرق الأوسط والانسحابات من المنطقة، كما في أفغانستان والعراق والتلويح بالانسحاب من سوريا، ما كان له أثره في إعادة هيكلة الخارطة الإقليمية والدولية في ضوء التموضُعات الجديدة، بالتزامن مع ظهور أطماع لبعض القوى في المنطقة.
وقد مثّل هذا الأمر تحديًا كبيرًا للقوى ذات الثقل الكبير في الشرق الأوسط، وفي المقدمة مصر وتركيا، تزامنَ ذلك مع تفشي جائحة كورونا التي أصابت الاقتصاد العالمي بحالة من الشلل التام، وفرضت هي الأخرى تحديات جسام تتطلب توحيد كافة الجهود لمواجهة تداعياتها.
أمام تلك الوضعية حيث ضغوط الليرة والجنيه، لم تجد كل من أنقرة والقاهرة سوى الرضوخ قليلًا لتلك التحديات التي ربما تقود نحو تهديد حقيقي لمستقبل نظامَي الحكم في البلدَين
وبالتوازي مع ذلك، أثبتت التجربة على مدار 7 سنوات كاملة أن الخصومة بين البلدَين لم تحقِّق الأهداف المنشودة منها، كما أن القاهرة لم تَجنِ من وراء تحالفاتها المناوئة لتركيا أي مكاسب على الإطلاق، فيما فشلت أنقرة في تحقيق أي من أهدافها بشأن إسقاط نظام 3 يوليو/تموز.
وهنا لم يجد البلدان بدًّا من الدخول في مفاوضات التطبيع والتقارب، كما أشار عضو الهيئة التدريسية في جامعة إسطنبول مدنيت التركية، والباحث في مركز “سيتا” التركي للأبحاث الاستراتيجية والدراسات، ويسل قورت، الذي أوضحَ أن الظروف الدولية والإقليمية أجبرت أردوغان والسيسي على توسيع دائرة آفاق التعاون بينهما، رغم خلافاتهما الأيدولوجية التي تنحّت جانبًا أمام الموج العارم لتلك التحديات.
وفي سياق آخر، فإن التمدد الإسرائيلي في المنطقة، وتوسيع دائرة التطبيع من المشرق إلى المغرب، والتوغُّل أكثر داخل خاصرة مصر الجنوبية من خلال القرن الأفريقي والبحر الأحمر، كان أحد دوافع التقارب، إذ أثار قلق القاهرة وأنقرة على حد سواء، خاصة فيما يتعلق بمشاريع نقل الغاز والطاقة إلى أوروبا التي تحمل تهديدًا مباشرًا لقناة السويس.
الجنيه والليرة.. كلمتا السرّ
بجانب التحديات الجيوسياسية التي فرضتها المستجدات الأخيرة، كانت الأزمة الاقتصادية التي شهدتها الدولتان أحد أبرز المحفزات وراء التخلي تدريجيًّا عن المواقف الجامدة التي يتبنّاها الطرفان إزاء بعضهما، بل يمكن القول إنها الدافع الأبرز نحو التقارب المرحلي الذي شهدته العلاقات الثنائية مؤخرًا.
فبعد النمو الاقتصادي الذي حققته تركيا منذ صعود حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم عام 2003، والطفرة الهائلة التي بلغت أكثر من 3 أضعاف ما كانت عليه بدايات الألفية الحالية، وجدت البلاد نفسها منذ عام 2016 في مأزق اقتصادي غير مسبوق، إذ تهاوت العملة المحلية (الليرة) إلى مستويات غير مسبوقة، فيما وصلت معدلات التضخم إلى أسوأ حالاتها، وهي الوضعية التي استغلّتها المعارضة لتحقيق مكاسب سياسية على حساب العدالة والتنمية، بما يهدد تاريخها السياسي الممتد إلى نحو 19 عامًا.
وعلى الجانب الآخر، تعرّض الجنيه المصري لهزّات كبيرة أمام العملات الأجنبية، أفقدته قيمته بصورة زادت من الوضعية المعيشية الصعبة، فضلًا عن تداعيات السياسات الاقتصادية والنقدية المتّبعة والتي أغرقت البلاد في أتون الديون الخارجية التاريخية، والتي زادت 3 أضعاف خلال سنوات حكم السيسي.
وأمام تلك الوضعية حيث ضغوط الليرة والجنيه، لم تجد كل من أنقرة والقاهرة سوى الرضوخ قليلًا لتلك التحديات التي ربما تقود نحو تهديد حقيقي لمستقبل نظامَي الحكم في البلديَن، في ظل زيادة معدلات الاحتقان الشعبي جرّاء التدنّي المعيشي المستمر، والذي بدأ يظهر في موجات احتجاجية ولو على هامش المجتمع الافتراضي على منصات التواصل الاجتماعي، وهو ما تؤكّده استطلاعات الرأي الأخيرة بشأن تراجُع شعبية كلا النظامَين بسبب الأوضاع المعيشية.
مؤشرات التقارب
تناولت دراسة لمركز برق للسياسات والاستشارات (مستقل) مؤشرات التقارب التي شهدتها العلاقات بين مصر وتركيا استجابةً للمستجدات والتحديات الأخيرة، وكان من أبرزها عدم استجابة القاهرة بشكل كامل للتكتُّل الفرنسي اليوناني ضدّ تركيا في جزيرة كريت، وهو ما اتّضح في الاتفاق البحري الذي وقّعته مصر مع اليونان عام 2020.
حيث راعت مصر في هذه الاتفاقية المصالح التركية في شرق المتوسط، بجانب عدم انضمام الجانب المصري إلى المنتدى الرباعي الذي أعلنت عنه “إسرائيل” في أبريل/ نيسان 2021، ويضمّ معها الإمارات واليونان وقبرص، بهدف تعزيز العلاقات بينها والاستفادة من ثروات شرق المتوسط.
الأمر ذاته في الملف الليبي، حيث التنسيق الأمني والاستخباراتي بين البلدَين، والاتفاق على أرضية مشترَكة للخروج بالمشهد الليبي إلى برّ الأمان من خلال خارطة طريق تمَّ الاتفاق عليها بين القاهرة وأنقرة، والالتزام بوقف العمليات العسكرية عند خطوط التماسّ (سرت-الجفرة)، بعدما رفضت السلطات المصرية الرضوخ للرؤية الإماراتية التي عزّزت من الخلاف المصري التركي في هذا الملف.
وفي هذا السياق هدَأَ الخطاب الإعلامي التصعيدي بين البلدَين، فتوقفت حملات الاستهداف والتشويه، فيما التزم الإعلام هنا وهناك بميثاق شرف ضمني راعى فيه تجنُّب إثارة الخلافات وعدم التدخل في شؤون الدولة الأخرى، وهو ما اعتبره المقرّبون من دوائر صنع القرار في البلدَين مؤشرًا جيدًا لحسن النوايا نحو فتح صفحة جديدة في العلاقات.
ومن أبرز الملفات الخلافية بين الجانبَين التي أفسدت مساعي التقارب خلال السنوات الماضية، احتضان تركيا للقنوات الفضائية المعارضة لمصر، وقيادات الإخوان والتيار الإسلامي بصفة عامة، ولطالما طلبت القاهرة من أنقرة غلق تلك القنوات وتسليم المطلوبين من المعارضين ممّن صدر بحقّهم أحكام قضائية في مصر، وهو الطلب الذي رفضه الجانب التركي بداية قبل أن يُبدي فيه مرونة مؤخرًا.
مقومات التقارب بين مصر وتركيا أكثر بمراحل من معاول الخصومة، وبعيدًا عن مؤشرات التقارب سالفة الذكر فالتناسق التاريخي الأيديولوجي كفيل بأن يدفع الجميع نحو قراءة مغايرة للمشهد بعيدة تمامًا عن الشعارات القومية المرفوعة
فعلى مستوى القنوات الفضائية أوقفت أنقرة بثّها من فوق أراضيها بشكل رسمي، وهو ما أكّده العاملون في تلك القنوات، وإن كانوا انتقلوا إلى بلدان أخرى لمواصلة البثّ كما حدث مع قناة “مكملين”، فيما اكتفى بعض الإعلاميين بالبثّ عبر قنوات يوتيوب خاصة بهم بعدما أُغلقت قنواتهم.
أما فيما يتعلق بتسليم المعارضين، فرأت أنقرة أن هذا الشرط سيؤثّر سلبًا على صورتها وسمعتها الخارجيتَين، فكان الرفض هو القرار النهائي، لكنه الرفض المقنَّع بمنطق براغماتي بحت ولو على حساب البُعد الإنساني.
فبعد مشاورات وسجالات بين الطرفَين توصّلا إلى حل وسط، يتمثّل في إرسال هؤلاء الأشخاص إلى بلدان ثالثة، حسبما نقل “العربي الجديد” عن مصادر مصرية مطّلعة على الاتصالات الجارية بين الدولتَين على المستوى الأمني، مشيرة إلى أنه بإسقاط هذا الملف فإن مسار تطبيع العلاقات بين البلدَين تقدّم خطوات جيدة للأمام.
جدير بالذكر أن الخلاف بين البلدَين -وعكس ما تروّج له بعض وسائل الإعلام- هو خلاف سياسي ناجم عن تبايُن وجهات النظر بينهما إزاء بعض الملفات، دون حدوث قطيعة كاملة كما يصفها خبراء، وهو ما تكشفه الأرقام الرسمية الخاصة بالعلاقات الاقتصادية التركية المصرية، والتي تحيا أوجَها رغم الخلافات السياسية المعلنة للظاهر، مع استمرار تبادل زيارات الوفود الاقتصادية -دون توقف- طيلة السنوات الماضية.
ووفق تلك الأرقام احتلّت تركيا المركز الأول -للمرة الأولى في تاريخها- في قائمة البلدان الأجنبية التي اتّجهت إليها الصادرات المصرية عام 2021، حيث بحسب الجهاز المركزي المصري للمحاسبات (حكومي) زادت الصادرات المصرية لتركيا من 1.7 مليار دولار عام 2020 إلى 2.9 مليار دولار 2021.
وفي المقابل زادت الواردات من تركيا بنسبة 13% العام الماضي، فيما ارتفع حجم التجارة بين البلدَين بنسبة 33% واستحوذت أنقرة بذلك على نحو 7.29% من صادرات مصر إلى العالم، بحسب ما نقله موقع “سكاي نيوز العربية” نقلًا عن مسؤولين مصريين.
ماذا عن القادم؟
وفق دوافع التقارب ومؤشراته هناك سيناريوهان لا ثالث لهما يرسمان ملامح العلاقات خلال المرحلة المقبلة، في حال عدم وجود طارئ إقليمي أو دولي يقلب الطاولة على الجميع، الأول وهو الأقل حضورًا يتعلق بتطبيع كامل في العلاقات وصولًا إلى تبادل السفراء وعقد لقاءات مباشرة بين السيسي وأردوغان، فيما ذهبَ خبراء إلى أن هذا السيناريو ربما يكون مستبعدًا على الأقل في الوقت الراهن، في ظل وجود بعض العراقيل والتحديات التي ترجئ هذا التطور.
أما السيناريو الثاني وهو الأرجح يتعلق بالمضيّ قدمًا في مسار التقارب الاقتصادي مع تحييد الملفات الخلافية بين البلدَين جانبًا، وتعزيز دروب التطبيع السياسي من خلال تبادل للزيارات بين مسؤولي البلدَين، سواء على المستوى الحكومي أو الأمني، وهو السيناريو الذي يتبنّى رؤية قريبة ومتوسطة المدى، على أمل الوصول إلى نقطتها القصوى حين عقد لقاء رئاسي يطوي صفحة الخلافات بصورة شبه كاملة.
في ضوء ما سبق، فإن مقومات التقارب بين مصر وتركيا أكثر بمراحل من معاول الخصومة، وبعيدًا عن مؤشرات التقارب سالفة الذكر فالتناسق التاريخي الأيديولوجي ودور كليهما في توازن الشرق الأوسط كفيلان بأن يدفع الجميع نحو قراءة مغايرة للمشهد بعيدة تمامًا عن الشعارات القومية المرفوعة، فيما يبقى الطموح السياسي لكلا النظامَين هو العقبة الأبرز في إطار صراع النفوذ والتكالُب على مقعد الريادة.