يحظى بعض الفنانون بحيوات معقّدة، خصوصًا مع كونها مشاعًا إعلاميًّا واجتماعيًّا، فالفنان لا يملك من حياته سوى فتات يمارسه خلف الأبواب المغلقة، لأن الفضول الاجتماعي اتجاه الفنان يحوّل قصته إلى مادة إبداعية يمكن التعاطي معها وخلق أفلام قابلة للمشاهدة، جرّاء الإغراء التجاري والثراء القصصي.
هذا لا سيما إذا كانت حياة الفنان متقلّبة بين النجومية والخفوت، الغنى والإفلاس، حياة حافلة بالوقائع والحوادث والأعمال الفنية، ولكن هل هذا يكفي لصناعة فيلم جيد؟ فالمادة الخام مرهونة باليد العاملة، وإن كان الأساس نفسه موجود إلا أنه لا يكفي، بالأخصّ إذا كان الفيلم لا ينتمي إلى نوعية أفلام السيرة الذاتية.
الكثير من الأسباب تجعل حياة الممثل الرائع نيكولاس كيج ملهمة لصنّاع السينما، بداية من النجومية الصاخبة والانفجار التجاري خلال التسعينيات وبداية الألفية، بأفلام مثل “الصخرة” عام 1996 وCon Air و”وجه منزوع” عام 1997، مرورًا بأفلام ذات جودة فنية مميزة مثل “التكيُّف” عام 2002، ثم الانتكاسة الفنية والسقوط في هوّة الديون وأفلام الدرجة الثانية (B-Movies) التي اضطر المشاركة بها لسدّ احتياجاته.
ولكنه لم يخرج من تلك الفترة خالي الوفاض، فقد صنع عدة أفلام جيدة جدًّا، مثل “ماندي” عام 2018، “لون خارج الفضاء” عام 2019، والعديد من الأفلام الأخرى، ثم العودة مرة أخرى بأفلام قوية مثل “خنزير” عام 2021، وصولًا إلى إنتاجه الجديد The Unbearable Weight of Massive Talent أو “موهبة جسيمة لا يُحتمل ثقلها”.
يتعرّض الفيلم لحياة كيج كمساحة للعرض والحكي، ويدمجها بأقصوصة متخيَّلة تتناسب مع حياة كيج الحقيقية وتوفي له مساحة لاستعراض موهبته الحقيقية كممثل، أي أن الفيلم يتعاطى مع كيج نفسه كذات مركزية وأنا متضخّمة، ويزجّ بشخصيته الحقيقية في عالم مثير يتطلّب نوعية معيّنة من الأبطال، عالم أليَق بكيج الجسور، نجم أفلام أكشن التسعينيات.
إلا أن هذا كله يتعارض مع هويته الشخصية التي تتجاوز إطار السينما حتى لو أراد أن يثبت عكس ذلك، هذا التناقض يخلق نزعة كوميدية فكاهية، ويصنع سردية مضطربة ولكنها ممتعة في كثير من أجزائها.
يدور الفيلم حول الممثل نيكولاس كيج نفسه، فيما يسعى لاستعادة رونقه وقيمته كممثل داخل الوسط الفني، ويرصد عالم كيج الفوضوي وعلاقته القلقة بابنته الوحيدة (الممثلة ليلي مو شين) وزوجته السابقة (الممثلة شارون هورغان)، حيث تحفّز سردية الفيلم -في مستهلّها- إحساسًا فجًّا بإقصاء كيج خارج دائرة صناعة الأفلام، بعد أن كان مركزها في يوم من الأيام.
هذه الأفعال الإقصائية الموجَّهة بناءً على سمعة سابقة وصيت يغطّيان على الرغبة الملحّة في استعادة الذات الفنية التي ضحّى بالكثير من الأشياء لأجلها، مثل علاقته مع أسرته؛ تتأثر بمزاجه الفني التالف وعزلته السينمائية الإجبارية وديونه المتراكمة، ومن خلال تلك البنية التأسيسية يتحرّك الفيلم نحو مساحة لاكتشاف الذات.
تقود هذه المساحة كيج نحو مغامرة خطرة يتعرّف خلالها إلى ذاته، حين يتلقّى عرضًا من أحد معجبيه اسمه خافي جوتيريز (الممثل بيدرو باسكال) لحضور حفل خاصّ بجزيرة ميوركة الإسبانية مقابل مليون دولار، فيتورّط في عملية خطرة يساعد من خلالها وكالة المخابرات الأمريكية (CIA) للإيقاع بخافي وتحرير ابنة أحد المرشّحين لرئاسة إقليم كتالونيا.
يبدأ الفيلم من الإخفاق كعامل مركزي ومشترَك في حياة كيج، إخفاق فني وإخفاق اجتماعي وعاطفي، ويشتبك المخرج مع حياة كيج من خلال التعرُّض للفشل المهني كمستهلّ لكل شيء، فيما يتلازم الانهيار المهني مع الكبرياء الفنية المستعارة من الذاكرة، أي أن الإخفاق لا يحطّم “الأنا” ولكن يضخّمها بنفخة في ذكريات الماضي.
وهذه الثنائية، الإخفاق والكبرياء، تمثّل عقدة الشطر الأول من القصة، فنجد كيج يحاول فرض أساليب معيّنة على أسرته، خصوصًا ابنته التي يحملها على مشاهدة إحدى تحف التعبيرية الألمانية، فيلم “كابينة الدكتور كاليجاري” عام 1920.
نلاحظ في هذا المشهد فارق العقلية الكبير، ولكن كيج لم يلاحظ تطور ذائقته السينمائية بالنسبة إلى ابنته المراهقة، وهذه واحدة من الإشكالات التي يطرحها الشطر الأول، طريقة كيج في التعاطي مع عاطفة الحب والاهتمام، أسلوبه في الإفصاح، كلها غير عصرية ومتخلّفة، إلى جانب رغبته المركزية في أن يكون محلَّ الاهتمام في كل المواقف، لأنه النجم نيكولاس كيج.
يبدأ الشطر الثاني من الفيلم حين يحلّق كيج بالطائرة نحو الجزيرة الإسبانية، وهنا تبدأ المشاكل في الظهور، العلاقة بين خافي وكيج هي علاقة معجب مع نموذجه الفني المثالي، تمَّ بناء العلاقة بشكل جيد، بيد أن ظهور الـ CIA في الصورة لم يقدَّم بالطريقة المثالية، كان دورهم ثانويًّا ومهمَّشًا في محاولة لدفع القصة إلى الأمام، حيث لم يتمَّ الاستفادة من شخصية المحققة فيفيان (الممثلة تيفاني هاديش) بأي شكل.
صحيح أن الفيلم الكوميدي لا يخضع للمعايير نفسها التي تخضع لها النوعيات الأخرى لما لها من خصوصية، ولكن خلق خط سردي وشخصيات لتغذيته دون استعمال حقيقي لهذه الأدوات إلا إقحام البطل داخل مغامرة لا يكفي، حيث كان من الممكن محو هذه الشخصيات بشكل كامل، إلى جانب بعض الخطوات الساذجة في رفع النسق، ولكن هذا يمكن إرجاعه لطابع الفيلم الكوميدي.
تخلّلَ الربع الأخير من الفيلم مجموعة من مشاهد الأكشن، ولكنها لم تكن على المستوى المطلوب، تمَّ تحقيقها بشكل مقبول يمكن تجاوزه، بيد أن المساحة التي توفّرها الجزيرة، هذا التنوع الكبير في المواقع، كان لينتج مطاردات ومشاهد أكشن أكثر تعقيدًا وأشد تهورًا.
يحيلنا هذا الأمر إلى جانب آخر يمنح القصة جانبًا جماليًّا، هو اختيار جزيرة من أجمل جزر أوروبا، حيث المناظر الطبيعية والمناطق المتباينة ونمط البناء والتماثيل أعطت المخرج والمصوّر فرصة ممتازة جعلَ من خلالها الفيلم مثقلًا باللقطات الجميلة، وهذا شيء جيد، خصوصًا مع نوعية الفيلم الفكاهية.
تقديم شخصية كيج في إطار سينمائي يتماسّ مع الواقع ويستلهم منه جزءًا هائلًا من الطبقات الدرامية فكرة شديدة الذكاء، بيد أن السردية لا تضيف إلى شخصية كيج من الناحية الذاتية والصراع الداخلي، رغم محاولة خلق تصور للعلاقة بين الأنا الفنية المتضخّمة المنجرّة في سيل الذكريات، والشخصية الحالية التي تواجه العالم وتتلقّى الصفعات.
اقتصرَ الصراع على نقاط سطحية والعديد من الصرخات، حاول المخرج توم جورميكان إضافة عمق إلى الشخصية، واستغلال “البيرسونا” الخاصة بنيكولاس كيج لخلق حالة مساحة داخلية للمواجهة والانكشاف أمام الجمهور، مثل مواجهات المسرح المكشوفة، لكنها لم تمنح عمقًا للشخصية، رغم ثراء الشخصية بشكل مستقلّ.
إنها فرصة ضائعة لتطويع شخصية شديدة الثراء، متعددة الطبقات، تعرّضت للكثير من الحوادث الفردية، الكثير من خيبات الأمل، الكثير من القرارات الخاطئة، كان من الممكن إخضاع كل هذا في أشكال وأنماط وموتيفات بصرية مختلفة، خصوصًا على المستوى الداخلي، لذلك الفيلم لم يقدِّم صراعًا داخليًّا جيدًا، ولكنه قدّمَ قالبًا معهودًا وتقليديًّا للتعاطي مع الشخصية.
كان بالإمكان الوصول إلى أكثر من ذلك على المستوى الداخلي، ولكنه في النهاية يبقى فيلمًا كوميديًّا ترفيهيًّا، ويذكّرنا هذا التصور للعلاقة بفيلمه القديم مع كاتب السيناريو المبدع كوفمان، فيلم “التكيُّف”، الذي يتشابه مع هذا الفيلم في بعض النقاط، ولكن المنهجية والنوعية كلتيهما مختلفتان، ففيلم “التكيُّف” يحمل عمقًا غائرًا، ويتعاطى مع الذاتي والداخلي بشكل أفضل بمراحل من هذا الفيلم.
ولكنه رغم ذلك أضاف لكيج على المستوى المهني، ردَّ له رونقه بعد أن أفقدته سنوات من الإقصاء ثقة هيمنة ونجومية الممثل التي تمتّع بها في التسعينيات وبداية الألفية، وهذا مكسب للسينما بشكل عام، بعيدًا عن كونه وجهًا سينمائيًّا مثاليًّا، فهو في هذه المرحلة من العمر وصلَ إلى نضج سينمائي سيضيف للكثير من المشاريع القادمة.