ظلَّ سلوك إيران في التعامل مع الهجمات الإسرائيلية غير معلن ومحطَّ انتقاد حتى شهر أبريل/ نيسان الماضي، حين هاجمت طهران محطة في أربيل العراقية وقالت إنها كانت بمثابة نقطة تتبع لجهاز الموساد الإسرائيلي وتعمل من خلالها في المنطقة.
وتبدّل الحال الذي ظلَّ قائمًا لسنوات بين الاحتلال وإيران، لا سيما تل أبيب التي وجّهت عدة ضربات واغتيالات متنوّعة لعلماء وضبّاط في الحرس الثوري الإيراني أو لمحسوبين على فيلق القدس، إحدى الأذرع الضاربة للحرس الثوري.
ومع فشل الوصول إلى اتفاق نووي جديد وانشغال العالم بالملف الروسي الأوكراني، بعد أن كانت طهران والدول الغربية وواشنطن على بُعد أمتار بسيطة من استئناف العمل باتفاق جديد تحقِّق من خلاله غالبية الأطراف أهدافها، عادَ التصعيد إلى الواجهة من جديد.
ورغم عملية اغتيال العالم النووي الإيراني محمد فخري زاده التي نُفِّذت في قلب طهران، إلا أن إيران لم تتعلّم الدرس، حيث نفّذ الاحتلال عملية جديدة نهاية مايو/ أيار الماضي حين اغتال العقيد في الحرس الثوري صياد خدايي.
عام 2014 بلغ العداء أشدّه في ظل التحذيرات الإسرائيلية بقرب امتلاك طهران للقنبلة النووية، وهو ما تخشاه دولة الكيان باعتباره يشكّل تهديدًا وجوديًّا عليها
وبين عامَي 2010 و2022 فقدت إيران عددًا من كبار العلماء والعسكريين والسياسيين في عمليات اغتيال، وهم مسعود علي محمدي الذي قُتل في 12 يناير/ كانون الثاني 2010، وهو أستاذ مادة فيزياء الجسيمات في جامعة طهران، في انفجار دراجة نارية مفخّخة عند خروجه من منزله في طهران؛ ومجيد شهرياري الذي اُغتيل في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه، ويعدّ مؤسس الجمعية النووية الإيرانية، وجاء اغتياله بانفجار قنبلة أُلصقت بسيارته.
ولم تتوقف الاغتيالات هناك، حيث في 23 يوليو/ تموز 2011 تمَّ اغتيال العالم داريوش رضائي نجاد برصاص أطلقه مجهولان كانا على دراجة نارية في طهران، واتّهمت إيران الولايات المتحدة و”إسرائيل” بالوقوف وراء الاغتيال.
في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 أدّى انفجار في مستودع ذخيرة تابع للحرس الثوري في إحدى ضواحي طهران إلى مقتل ما لا يقلّ عن 36 شخصًا، بينهم الجنرال في الحرس الثوري حسن طهراني مقدم، وذكرت صحيفة “لوس أنجلوس تايمز” حينها أن عملاء سابقين في الاستخبارات الأميركية قالوا إن الانفجار ناجم عن عملية نفّذتها الولايات المتحدة و”إسرائيل”.
وفي 11 يناير/ كانون الثاني 2012 قُتل العالم مصطفى أحمدي روشان الذي يعمل في موقع نطنز النووي، في انفجار قنبلة مغناطيسية وُضعت على سيارته قرب جامعة العلّامة الطبطبائي (شرق طهران).
أما في 3 يناير/ كانون الثاني 2020 قُتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الجنرال قاسم سليماني في ضربة أميركية بطائرة مسيَّرة في بغداد، لحقَ به العالم النووي محسن فخري زاده في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، حيث قُتل قرب طهران، وأخيرًا العقيد في الحرس الثوري صياد خدايي.
من التحالف إلى العداء
تحوّلت العلاقات الإيرانية الإسرائيلية من العلاقات الوثيقة خلال عهد سلالة بهلوي إلى العداء منذ الثورة الإسلامية، وقد قطعت إيران جميع العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع “إسرائيل”، ولم تعترف حكومتها بالاحتلال، مشيرة إلى حكومته بوصفها “النظام الصهيوني”.
يمكن تقسيم العلاقات الإيرانية الإسرائيلية إلى 4 مراحل رئيسية: فترة 1947-1953، والفترة الودّية خلال عهد سلالة بهلوي، والفترة المتدهورة منذ الثورة الإيرانية عام 1979 وحتى عام 1990، وأخيرًا العداء الحاصل منذ نهاية حرب الخليج الأولى وحتى الآن.
ومنذ عام 2014 بلغ العداء أشدّه في ظل التحذيرات الإسرائيلية بقرب امتلاك طهران للقنبلة النووية، وهو ما تخشاه دولة الكيان باعتباره يشكّل تهديدًا وجوديًّا عليها، نتيجة العداء مع نظام الحكم في طهران.
كثّفت إيران في الشهور الأخيرة من عمليات الاختراق لشركات ومنظمات حكومية في الاحتلال، حيث نجحت مجموعة قراصنة إيرانيين باختراق خوادم شركة إسرائيلية لبناء المواقع وتخزينها، تحت اسم “عصا موسى”، وتمكّنت من الوصول إلى بيانات مئات الجنود والشخصيات الرسمية.
ورغم أن طهران كانت تتبع أسلوب الهجمات المدروسة، حتى تلك التي تنفّذها إلكترونيًّا، إلا أن هذه المعركة لا تزال مفتوحة حيث لا يمضي أسبوع إلا وتوجِّه إيران ضربات عبر مجموعات من “الهكرز” للاحتلال الإسرائيلي، الذي يفصح ضمن إطار محدَّد عن الهجمات.
من جانبه، يقول المختص في الشأن الإسرائيلي، جمعة التايه، إن معركة السايبر المندلعة بين طهران والاحتلال تعكس حجم المواجهة بين الطرفَين، خصوصًا أن الإسرائيليين زعموا أن مسؤولي جهاز الموساد الإسرائيلي نجحوا في توجيه ضربات إلكترونية لطهران، وهو ما أدّى إلى تأخير امتلاكها للقنبلة النووية.
السلوك الإسرائيلي المتصاعد في الإقليم، سواء بالتنقيب عن الغاز في حقل “كريش” في الحدود مع لبنان أو القصف الذي استهدفَ مطار دمشق، يشكّل عوامل تجعل المنطقة عرضة لانفجار عسكري غير مستبعَد
ويضيف التايه لـ”نون بوست” أن الإيرانيين من جهتهم نجحوا في حرب المعلومات ضد الاحتلال، عبر اختراق هاتف زوجة رئيس الموساد، ونشروا بيانات خاصة به وصور ومقاطع فيديو ووثائق متعلقة براتبه السنوي عبر شبكة الإنترنت.
ولم يقف الأمر عند هذا الأمر، بل وصلَ إلى مرحلة تعطيل مواقع إلكترونية تتبع لوزارات ومؤسسات إسرائيلية رسمية، وهو ما اعترفَ به الاحتلال رسميًّا باعتباره أكبر عملية قرصنة وتعطيل تتمّ خلال السنوات الأخيرة، دون الإشارة إلى طهران بصورة علنية.
حرب الظل
تكشف الهجمات المتبادلة بين الجانبَين في الآونة الأخيرة إلى تحولهما نحو حرب الظل شبه المعلنة والمكشوفة، وهو ما سيضع المشهد أمام تحولات قد تبدو أكثر عنفًا خلال الفترة المقبلة في ضوء استمرار عمليات الاغتيال.
ويصف الباحث في شؤون الشرق الأوسط، حسن عبدو، لـ”نون بوست” أن ما يجري أشبه بحالة الحرب الباردة أو “حرب الظل”، إذ إن كل طرف من الأطراف يعرف جيدًا ما يقوم به عدوّه ويحاول تفادي الهجمات أو التقليل من آثارها.
ووفق عبدو سيكون المشهد مفتوحًا على عدة سيناريوهات خلال الفترة المقبلة، أولها بقاء الواقع على ما هو عليه من خلال عمليات اغتيال وردّ إيراني محسوب، ثانيها تبادل للهجمات بين إيران والاحتلال بطريقة معلنة، ثالثها الذهاب نحو تصعيد عسكري معلن وواضح.
ويعزِّز الخوف الإسرائيلي من هجمات محتملة تستهدف جنوده ومستوطنيه في تركيا من سيناريوهات التصعيد بين طهران والاحتلال، خصوصًا بعدما حظرَ الاحتلال السفر إلى أنقرة تحت ذريعة الخطر الأمني ووجود خلايا تستعدّ لتنفيذ عمليات اغتيال وأسر.
وبمحاذاة ذلك، إن السلوك الإسرائيلي المتصاعد في الإقليم، سواء بالتنقيب عن الغاز في حقل “كريش” في الحدود مع لبنان أو القصف الذي استهدفَ مطار دمشق، يشكّل عوامل تجعل المنطقة عرضة لانفجار عسكري غير مستبعَد.