شهدت العاصمة المصرية القاهرة يوم الأربعاء 15 يونيو/ حزيران 2022 مراسم توقيع مذكرة تفاهم بين مصر و”إسرائيل” لتصدير الغاز الطبيعي إلى أوروبا، خلال مؤتمر إقليمي لشؤون الطاقة على هامش اجتماع منتدى غاز شرق المتوسط، الذي يضم 8 دول (مصر و”إسرائيل” واليونان وقبرص وفلسطين والأردن وإيطاليا وفرنسا)، إضافة إلى مراقبين من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والبنك الدولي.
الاتفاق المتوقع أن يسهم في تصدير ما بين 2.5 و3 مليارات متر مكعب من الغاز لأوروبا عام 2022، مع احتمالية زيادته إلى 4 مليارات متر مكعب في السنوات اللاحقة، قوبل بإشادة كبيرة من رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، الذي وصفه بأنه “تاريخي وسيقوّي بشكل كبير اقتصاد “إسرائيل” وعلاقاتها مع دول العالم، ويجعلها لاعبًا أساسيًّا في سوق الطاقة العالمية”، فيما اعتبره الرئيس المصري “نقلة نوعية في علاقات بلاده مع الاتحاد الأوروبي لكونه شريكًا أساسيًّا للقاهرة”، أما رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، فتراه خطوة كبيرة إلى الأمام لتأمين الغاز لأوروبا.
تأتي هذه الخطوة في وقت يعاني فيه سوق الطاقة العالمي من هزّات عنيفة، جرّاء تأثُّر الإمدادات الروسية بسبب الحرب في أوكرانيا منذ 24 فبراير/ شباط الماضي، وهي الحرب التي أحدثت زلزالًا مدويًا في الأوساط الأوروبية بوصفها المتأثّر الأكبر من وقف الغاز الروسي الذي يلبّي أكثر من 40% من احتياجات القارة العجوز، لذا كان تأمين البديل قضية أمن قومي لحكومات الغرب بصفة عامة.
أثارت الاتفاقية المبرمة الكثير من الجدل، فبعيدًا عن أنها مرحلة متقدمة من التطبيع العربي الإسرائيلي، يمكن أن يكون لها تبعاتها على القضية الفلسطينية، فمن المتوقع أن يكون لها ارتداداتها على خارطة الطاقة في المرحلة المقبلة.. فهل يمكن أن تحدث هذا التأثير؟ ومَن أبرز الرابحين والخاسرين بإبرامها؟
تفاصيل الاتفاق
يتعلّق الاتفاق بإرسال “إسرائيل” كميات الغاز المراد تصديرها لأوروبا إلى الموانئ المصرية عبر خطوط الأنابيب الموجودة بالفعل، ثم يتم تسييلها في مصنعَي دمياط وإدكو اللذين يعدّان من أكبر مصانع تسييل الغاز في الشرق الأوسط، على أن يتمَّ نقلها بعد ذلك إلى الأسواق الأوروبية، والصفقة هي الأولى من نوعها في تاريخ دولة الاحتلال حيث ستتمكن من إرسال غازها الطبيعي إلى القارة العجوز.
وكانت كل من مصر و”إسرائيل” قد اتفقتا قبل توقيع تلك الاتفاقية على الترتيبات المحتملة لتنفيذ تلك الصفقة، بناء على خط سير محدد سلفًا، نقطة انطلاقه الأولى دولة الاحتلال التي تنقل كميات الغاز إلى نظام بيت شيعان بالأردن، ليتمَّ نقله جنوبًا إلى مصر عبر ميناء العقبة، من خلال خط الغاز العربي (AGP)، ومنه إلى دمياط شمال مصر.
الاتفاقية في مسودتها الأولى تستمرّ 3 سنوات مع إمكانية تمديدها لمدة عامَين آخرين، رغم رغبة القاهرة وتل أبيب أن تكون مدة الصفقة 9 سنوات كاملة، وهو ما فُسِّر على أنه رغبة الاتحاد الأوروبي لتجنُّب الكلفة العالية لإبرام اتفاق طويل الأمد، في الوقت الذي يحاول فيه تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري لاعتبارات بيئية واقتصادية.
أشارت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، إلى أن الهدف من هذا الاتفاق الذي وصفته بالتاريخي هو “إيصال الطاقة للمستهلكين بأسعار معقولة، وتنويع مصادر الطاقة بالاعتماد على مورّدين موثوقين”، معربة عن رغبة الاتحاد في توسيع التعاون مع مصر في مجال الطاقة.
أما الرئيس المصري فشدّد على أن بلاده تعمل على تكريس الشراكة مع الاتحاد الأوروبي في شتى المجالات لا سيما الطاقة، وأنها تسعى إلى تحقيق نقلة نوعية في شراكتها مع دول أوروبا.
In a historic first, Israel ?? will be cooperating with Egypt ?? and the EU ?? to provide natural gas to Europe.
We are proud to be contributing to global energy security and a more sustainable future. ?? https://t.co/Eu7rM0EOJZ
— Naftali Bennett בנט (@naftalibennett) June 15, 2022
“إسرائيل” الرابح الأكبر
كعادة دولة الاحتلال وسياستها العنصرية الفجّة في تغليب مصالحها على كافة مصالح حلفائها، فإنها من المرجّح أن تكون الرابح الأول من وراء تلك الاتفاقية بحسب المحلل المتخصص في شؤون النفط والغاز، نهاد إسماعيل، الذي أكّد -خلال لقاء مع “المسائية” على “الجزيرة مباشر”- أن “إسرائيل” هي المستفيد الأكبر من الاتفاق من الناحيتَين الاقتصادية والجيوسياسية.
كشفَ الخبير النفطي أن الصفقة المبرَمة تعدّ فرصة هائلة لدولة الاحتلال لتصدير الغاز إلى أوروبا بعد تسييله في مصر، إذ إنها لا تملك منشآت لتسييل الغاز، وهي العقبة التي حالت دون تحقيق حلمها القديم في أن تكون لاعبًا أساسيًّا في سوق الطاقة العالمي، لا سيما السوق الأوروبي، لما لذلك من مكاسب سياسية واقتصادية كبيرة.
تلك الخطوة بجانب أنها ستعزِّز العلاقات مع القاهرة إلا أنها ستجعل تل أبيب لاعبًا محوريًّا في الشرق الأوسط، وهو ما يمكن توظيفه جيدًا للضغط على أوروبا والقوى المؤثرة عالميًّا في العديد من الملفات، أبرزها بالطبع الملف الفلسطيني الذي ربما يكون المتضرر الأكبر من هذا الاتفاق.
وعلى الجانب الآخر، فإن الاتفاقية بجانب أنها تعفي تل أبيب من كلفة بناء بنية أساسية لتسييل الغاز بميزانيات باهظة، فإنها تجنّبها كذلك المخاوف البيئية الناجمة عن وجود مثل تلك المصانع وسط الكتلة السكانية، فضلًا عن المخاوف الأمنية من سهولة استهدافها من قبل المقاومة بما يهدد أمن واستقرار المستوطنين.
يُذكر أن الاكتشافات البحرية الأخيرة، والغاز المسلوب من فلسطين، بجانب تنازل القاهرة عن جزء من ثرواتها المائية، وضعَت “إسرائيل” على قائمة الدول المصدّرة للغاز، هذا بخلاف مساعيها للسيطرة على حقل كاريش المتنازع عليه على الحدود اللبنانية، فيما تشير التقديرات إلى أن احتياطات دولة الاحتلال من الغاز تبلغ تريليون متر مكعب على الأقل.
مصر وحلم مركز الطاقة الإقليمي
وضعت الاتفاقية -رغم ظروفها الاستثنائية وفقدانها لعنصر الاستمرارية، فضلًا عن تبعاتها على ثقل القاهرة السياسي إقليميًّا لا سيما إزاء الملف الفلسطيني- مصر على أول الطريق نحو تحقيق حلمها القديم في أن تصبح مركزًا إقليميًّا للطاقة، وهو الحلم الذي بدأ عام 2002 حين وضعَ المصريون حجر الأساس لبناء مصنع دمياط بهدف إسالة الغاز.
وتبلغ السعة الاسمية لمعدل معالجة التسييل بالمصنع الواقع على ساحل البحر المتوسط على بُعد 60 كيلومترًا شمال بورسعيد، بالقرب من قناة السويس، حوالي 7.56 مليارات متر مكعب سنويًّا (ما يعادل 5.5 ملايين طن سنويًّا من الغاز الطبيعي المسال)، بكفاءة تتجاوز 90%، وهو ما يعادل توفُّر 6.8 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويًّا يمكن تسويقه على أنه غاز طبيعي مسال.
دخلَ المصنع حيّز العمل في يناير/ كانون الثاني 2005، وشهدَ تصدير أول شحنة من الغاز الطبيعي المسال متّجهة إلى إسبانيا، لكنه تعرّض لأزمات لاحقًا دفعت إلى إغلاقه قرابة 8 سنوات قبل أن يُعاد افتتاحه قبل عامَين بعد تطويره بما يتناسب مع المستجدات التقنية والفنية التي يحتاجها سوق التسييل العالمي.
وبعد 3 سنوات من إنشاء مصنع دمياط دشّن المصريون مصنع إدكو وذلك عام 2005، ليكون الضلع الثاني نحو تحويل مصر إلى مركز إقليمي متميّز في إسالة الغاز وتهيئته للتصدير عالميًّا، ويُعتبر هذا المصنع أضخم مشروع لإسالة الغاز الطبيعى فى مصر، إذ يضمُّ وحدتَين للإسالة بطاقة استيعابية تصلُ إلى 4.1 ملايين طن سنويًّا من الغاز بكل وحدة.
وتمَّ تشغيل الخط الأول من المصنع في عام التدشين مباشرة حين تمَّ تصدير أول شحنة منه إلى فرنسا، ثم دُشِّن الخط الثاني فى سبتمبر/ أيلول من العام نفسه، وتمَّ التصدير منه إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ويضمّ مستودعَين لتخزين الغاز المسال بطاقة تخزينية تصل إلى 140 ألف متر مكعب لكل مستودع، كما أنه مهيَّأ لاستقبال ناقلات بسعة 165 ألف متر مكعب.
من جانبه يتوقّع وزير البترول المصري الأسبق، أسامة كمال، أن الاتفاقية ستعزز من موقف مصر الاقتصادي عبر الاستفادة من مقابل تسييل الغاز المصدّر من الدول المجاورة إلى جانب رسوم العبور عبر الشبكة القومية للغاز، فضلًا عن المكاسب السياسية الناجمة عن لعب القاهرة دور مؤثر في المنطقة بوصفها مركزًا مهمًّا للطاقة ولاعبًا محوريًّا في سوق الغاز العالمي.
وفي السياق ذاته تحاول مصر من خلال الاتفاقية زيادة صادراتها من الغاز للسوق الأوروبي في ضوء الاكتشافات الأخيرة، وخطتها نحو زيادة معدلات التنقيب التي تبنّتها قبل سنوات، علمًا أن مصر صدّرت العام الماضي 8.9 مليارات متر مكعب من الغاز المسال، معظمها للأسواق الآسيوية، وتأمل في زيادة تلك المعدلات خلال الفترة القادمة.
توقيع اتفاقية لنقل الغاز من #إسرائيل إلى #أووربا عبر #مصر.. ومصريون يتساءلون: “ماذا سنجني من هذا الاتفاق؟” pic.twitter.com/nlDOGLhDty
— برنامج هاشتاج (@ajmhashtag) June 16, 2022
هل تؤثر على الإمدادات الروسية؟
الهدف الأول من إبرام تلك الاتفاقية، كما أشارت إليه المتحدثة باسم المفوضية الأوروبية، يتعلق بتعويض الإمدادات الروسية من الغاز، والتي تأثرت كثيرًا بالحرب الدائرة الآن، بجانب مساعي الغرب لتقويض نفوذ موسكو أوروبيًّا، وهو النفوذ المستمَدّ من الطاقة التي يعتمد عليها الأوروبيون بصورة كبيرة، ومحاولة البحث عن بديل مستقبلي.
بلُغة الأرقام، لن تحقق الصفقة الهدف المنشود، إذ من المتوقع أن تتراوح صادرات الغاز في إطارها بين 2.5 و3 مليارات متر مكعب بنهاية العام الجاري، مع توقُّع زيادة هذا المعدل خلال السنوات القادمة إلى 4 مليارات متر حسب تقديرات وزارة الطاقة الإسرائيلية، مقارنة بكمية الغاز التي تستوردها أوروبا من روسيا والمقدَّرة بـ 155 مليار متر مكعب سنويًّا.
ومن ثم إن الاتفاقية عند أقصى طموحاتها لن تلبّي سوى 6% فقط من حجم الإمدادات الروسية من الغاز، ومن ثم مِن الصعب الاعتماد عليها لتجريد موسكو من هذا السلاح، غير أن الأمر لا يعدّ بحسب البعض سوى خطوة أولى نحو البحث عن بديل، فالقطار لن يتوقف عند محطة القاهرة وتل أبيب، فهناك العديد من المحطات الموضوعة تحت مجهر الاهتمام الأوروبي، كأذربيجان والجزائر وقطر وغيرها من دول أفريقيا.
تغيُّرات محتمَلة في سوق الطاقة
الحالة الرخوة التي بات عليها سوق الطاقة العالمي خلال السنوات الأخيرة، والتي يبدو أن العالم فيها يتجه نحو التعدد القطبي النفطي الغازي بعيدًا عن الهيمنة التقليدية السابقة، جعلته سريع التأثر والتأثير إزاء المستجدات التي تشهدها الساحة، سواء على المسار السياسي أو الاقتصادي، وعليه فإن مذكرة التفاهم الثلاثية الحالية يتوقع أن تكون لها ارتدادات على مستقبل هذا السوق.
القراءة الأولية لهذا الاتفاق تشير إلى أنه قد يكون البديل الأسرع لخط أنابيب غاز شرق المتوسط هو المشروع الذي وقّعته اليونان وقبرص و”إسرائيل” بمعزل عن القاهرة عام 2020، ورُصدَ له ميزانية 6 مليارات دولار، وكان يعوَّل عليه في تلبية 10% على الأقل من احتياجات أوروبا من الغاز.
وأمام التحديات والعراقيل التي واجهت هذا المخطط، سواء من خلال الاعتراض التركي أو التحفُّظ المصري، بجانب خطة أوروبا بشأن التوسع في الطاقة الجديدة النظيفة وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، تمَّ التلكُّؤ في تدشينه رغم التحمُّس الأولي له، ليأتي الاتفاق الثلاثي الحالي ويكتب بصورة ضمنية شهادة وفاة هذا المشروع.
وفي النهاية إن إبرام مصر و”إسرائيل” لهذا الاتفاق بهدف تقليل مخاوف أوروبا من نفوذ الإمدادات الروسية لا شكّ أنه سيلقي بظلاله على العلاقات مع موسكو، التي تتجنّب قدر الإمكان فتح نوافذ صراع جديدة في ظل المأزق الذي تواجهه في أوكرانيا ومعركة الاستقطاب مع الغرب، لكن وبمنطق براغماتي بحت حاولت القاهرة وتل أبيب على حد سواء الانتصار لمصالحهما بعيدًا عن أي اعتبارات أخرى.