تبدو الرمال متحركة من الجفرة جنوبًا إلى سرت شمالًا، ما قد يطيح بـ”الخط الأحمر” الدولي للسلام الذي يمثل نقطة تماسّ حساسة بين القوى المتدخلة في الشأن الليبي.
فبينما هدّد الرئيس التركي أردوغان من أي توتير عسكري، حثَّ السيسي الجميع على التهدئة، فيما استشعرت سيتفاني ويليامز أهمية “الفرصة الأخير” في حوار القاهرة، وفي الأثناء يكثِّف الطيران المسيَّر طيرانه بسماء المنطقة الغربية، وتطالب قبائل وازنة في الشرق بالتسريع بالاستحقاق الانتخابي.
كل هذه الأحداث لا يمكن أن تحيل إلّا إلى مشهد عادت رماله للتحرك من جديد، وما أصعب أن تتحرك رمال ليبيا صيفًا، في الوسط والغرب والجنوب وحتى من تحت أرجل حفتر في معقله شرقًا، خاصة مع قرب انتهاء المهمة الأممية لويليامز وخارطة طريق جنيف، والخشية من الانزلاق نحو الفراغ.
فراغ مُثير للمخاوف
عادَ التوتر على أكثر من محور، ومعه عادت المخاوف من عودة الحرب، وهذا يرجّحه كثيرون، في المقابل هناك تطمينات كبيرة بعدم عودة شبح القتال، ولن تكون بأي حال من الأحوال، وتجارب رئيس الحكومة المكلَّف باشاغا لدخول طرابلس خير دليل.
كلاهما مشهدان متناقضان بشكل كبير، ما بات يعمِّق الحيرة والتصور لكل متابع للمشهد الليبي المتغيّر على الدوام، والمعقّد لأبعد حدّ، حتى أصبح يصعب قراءة تشعّباته الداخلية والخارجية.
عادَ التوتر إلى محور الجفرة وسرت حاليًّا، حيث بات الحديث غالبًا عن تحركات كثيفة وغير معتادة لمرتزقة “فاغنر” الروسية، وإجرائها مناورات بالذخيرة الحية، وهذا المحور حسّاس في مسألة الحرب والسلم، الذي ترعى هدنته قوات مشتركة شرقية وغربية بعد جهد أممي كبير.
في هذا السياق يعود رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، الموالي للواء المتقاعد خليفة حفتر، للحديث من جديد عن ضرورة “تحرير” العاصمة طرابلس بقوة السلاح، بنفس خطاب عام 2019 الذي اعتذر عنه فيما بعد خلال ترشّحه لرئاسة حكومة الوحدة في لقاءات جنيف، واعتبر الحرب حينها خطأ جسيمًا.
والأغرب من هذا التناقض هو وجود عقيلة في سرت التي توجد فيها قوات روسية، وهي مرتزقة “فاغنر” التي تقوم باحتلال المناطق، وقد تأذّى منهم الأهالي في اعترافاتهم في أكثر من مناسبة أيضًا، في الوقت الذي كان كثيرون ينتظرون خطاب التهدئة والطمأنة أو إثناء باشاغا على محاولات دخول العاصمة التي تسبّبت مؤخرًا في بثّ الرعب في قلوب الناس ونسف الاستقرار والهدوء، ناهيك عن الخسائر المادية التي شملت حرق ممتلكات خاصة.
ولعلّ ما عزز الانقسام حول السلطة بين حكومة الدبيبة بطرابلس، التي تحظى بالدعم الدولي، والحكومة الموازية بقيادة باشاغا، التي استقرت مؤخرًا بسرت إثر فشلها مرارًا في التمركز بالعاصمة، هو رغبة كل طرف في حسم مسألة الانقضاض على السلطة قبل موعد 21 يونيو/ حزيران المقبل.
وهذا تاريخ انتهاء المدة الزمنية لخارطة الطريق السياسية، بعد إفشال موعد انتخابات 24 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، واستمرار الدبيبة في عرقلة إجراء الانتخابات قبل انتهاء المدة، وذلك بتأجيل الاستحقاق بزعم التوافق بين عقيلة وباشاغا للبقاء في السلطة، وبالتالي تصبح الانتخابات أمرًا منسيًّا.
لذلك لا غرابة أن تسابق المستشارة الأممية ستيفاني ويليامز الزمن، أولًا لقرب انتهاء مدتها نهاية هذا الشهر والتخوف من الفراغ الذي ستتركه، ثم للوقاية من شبح التوتر العسكري الذي يخيّم من جديد.
بالتالي تسعى لسرعة استكمال المحادثات الدستورية الدائرة حاليًّا بالقاهرة، وكان منطقيًّا وصفها بـ”الفرصة الأخيرة”، مطالبةً في الوقت نفسه بعدم نسفها بلُغة صارمة، من خلال وقف الشحن والحشد العسكريَّين.
طفحَ الكيل!
كفى يعني كفى!
أدعو إلى الهدوء التام وحماية المدنيين في كل مكان من ليبيا وفي كل وقت. https://t.co/is0QGzMH2U
— Stephanie Turco Williams (@SASGonLibya) June 11, 2022
وقد بلغ التوتر مداه بين كتيبة النواصي، المؤيدة للحكومة الموازية، وقوة جهاز دعم الاستقرار، الداعمة لحكومة الوحدة، تدخّل خلالها اللواء 444 لفضّ الاشتباك بأمر من الدبيبة، وهذا يجرّنا إلى طرق باب الولاءات الجديدة التي تغيّرت بعد الانقسام في التحالف العسكري الغربي ومحاولات اختراقه من حلف عقيلة صالح وفتحي باشاغا، وقد دار الجدل والتسريبات عن لقاءات لعقيلة بعسكريين من المنطقة الغربية جرت في المملكة المغربية في مسعى لضمّهم إلى حلفه.
عودة قوية للدور التركي
بالتزامن مع كل ذلك، أصبحت طرابلس محجًّا للإيطاليين والفرنسيين والألمان وغيرهم، قبل الموت الافتراضي لخريطة جنيف، وللضغط من أجل الحفاظ على السلم مع تسجيل كل طرف لأهداف وفق مصالحه طبعًا، لكن يبقى الموقف التركي هو الأقوى.
فقد تحدّث رجب طيب أردوغان لأول مرة بعد هدوء الأمور عن تمديد جديد لقواته في طرابلس الغرب لمدة عام ونصف، في إشارة واضحة إلى التهديدات التي قال بصريح العبارة إنها أصبحت مرئية بالعين المجردة.
وهنا لا يمكن إلا أن نربط ذلك بالتدريبات الأخيرة للجنود الليبيين بتركيا، والذين عادوا مؤخّرًا إلى قاعدة الوطية جنوب غرب طرابلس، واستقبال الدبيبة لأول مرة لجهاز الطيران المسيّر، الذي اكتسب طابعه الليبي بعد أن كان يسيَّر من خبرات تركية خلال حسم معارك 2020، هذا إضافة إلى بدء الطيران الليبي المسيَّر في تسيير طلعات مكثفة في سماء المنطقة الغربية.
في مقابل ذلك، ومع المواقف الدولية القوية المساندة لحكومة الدبيبة، بدا الرئيس المصري السيسي بموقف ضعيف، غير متحمّس كعادته لجاره الغربي بعد تصريح أردوغان، كما زاده وهنًا وضعفًا فتور الموقف الإماراتي، وتراجُعه النسبي عن الاهتمام بالوضع الليبي منذ الهجمات الحوثية المتعاقبة.
فقد التزمَ السيسي، بعيدًا عن لغة التهديد والوعيد المألوفة في ما يخصّ الملف الليبي، بالحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار، وعدم التصعيد، للحيلولة دون وقوع أي اشتباكات قادمة، بل تعهّد بشكل غير مألوف بأنه مسيطر على هذا الأمر.
بعد تصريح اردوغان .
مصر السيسي تتراجع عن الخط الأحمر
السيسي الحوار هو الحل في ليبيا ?
اخوتنا المهجرين من المنطقة الشرقية
موعد العودة قريبا ان شاء الله #تذكروا هذه التغريدة
— نبيل السوكني إعلامي ليبي مستقل (@NabilSokni) June 13, 2022
كلها دلائل وإشارات توحي باحتمال حدوث تصعيد، خاصة مع اتخاذ المنطقة الغربية لموقف الهجوم هذه المرة بدل الدفاع، والإقدام من الحليف التركي بدل المهادنة من السيسي، هذا يدعمه موقف قوي من القبيلة يعارض حلف مصر وحفتر في تطور لافت غير مسبوق.
بيان سلوق التاريخي
مثّل اجتماع منطقة سلوق غرب بنغازي قراءة عقلانية للواقع، واستشرافًا غير مسبوق للمستقبل القريب، درءًا كذلك للسقوط في أي فراغات، لكونه تغيرًا جذريًّا بكل المعايير السياسية والعسكرية عن الأدبيات بالمنطقة الشرقية ضمن عُرف الأحكام العسكرية، حيث لم يسبق لبيانات القبائل والأعيان أن خرجت عن حدود اللياقة واللباقة مع حفتر، دون اعتبار بعض المحاولات الفردية هنا وهناك غير المؤثرة.
ربما لم يكن الاجتماع ليتمَّ لولا استشعاره حقيقة “الفرصة الأخيرة”، وعليه كانت مخرجات الاجتماع تحديًا كبيرًا لحفتر، خرجت فيه القبيلة المؤيدة والمباركة دائمًا لكل ما يقوم به حفتر، فصدعت هذه المرة بكل ما لا يريده أو يرغب في سماعه من كلمات السمع والولاء والطاعة.
حيث لم يرفعوا صوره ولم يشيروا إلى ذكر اسمه حتى، لا بل هاجموه في طريقة بناء الجيش الذي لا يحمي الشعب، بل أقرب إلى شركة أمنية لحفتر وأبنائه وسط تصفيق الحاضرين، ورفضوا قطع النفط للابتزاز السياسي، كما تفعل القيادات الموالية لحفتر.
نهاية #المتمرد في برقة سوف تكون بسبب تزايد مشاكله مع قبيلة #العواقير و قبيلة #الدرسة ، و هما من أكبر قبائل الشرق الليبي ، برقة.
ما يميز القبيلتين ، كثرة العدد, الفزعة ، القدرة على القتال .
— noman benotman (@nbenotman) June 14, 2022
إذًا كان بيانًا جريئًا دعا إلى دمج مع القوات العسكرية بالقوات الغربية التي يحاربها حفتر كـ”ميليشيات”، وحرّم الدم الليبي لإنهاء المعارك، ما أصاب حفتر بالانزعاج والحرج في عقر داره، ما أدّى إلى قطع خدمات الاتصالات والكهرباء في مسعى للتضييق على المجتمعين.
لكن القشة التي قسمت ظهر البعير هي مسارعة حفتر إلى ترتيب لقاء شعبي موازٍ في الأبرق شرق بنغازي، لترميم صورته التي وُضعت في الاجتماع إلى جانب صورة شيخ المجاهدين عمر المختار، جرى خلاله مهاجمة “خفافيش الظلام” من الحاضرين، في إشارة إلى مطالبة اجتماع سلوق بالانتخابات وإنهاء الأجسام الحالية.
بينما طالب حفتر على غير العادة، في كلمته، بعدم تدخُّل الجيش في السياسة، معرّبًا عن عدم نيّته القيام بانقلاب، وموضّحًا أن مهمة الجيش هي مدنية الدولة.
يبدو هذا متماهيًا مع الدعوات الشعبية والشبابية بشكل عام للقطع مع جميع الأجسام الحالية من برلمان ومجلس دولة ومجلس رئاسي، بعد تآكُل شرعيتها والمطالبة بانتخابات عامة في أقرب الآجال، وهذا ما بدا متزامنًا أيضًا مع البيان الختامي للاجتماع التشاوري للأمازيغ بالمنطقة الغربية، الذي دعا أيضًا إلى حل كل الأجسام وإنهاء المراحل الانتقالية عبر انتخابات.
صحيح أن كل هذه المطالب باتت ملحّة، لكن الجسد الليبي عمومًا يشتكي من جميع أعضائه، بالتالي لا بدَّ من بدء العلاج بفرز فريق سياسي جديد، عبر حسم الجدل الدستوري، وتحييد المؤسسة العسكرية عن السياسة، وتجنُّب التصعيد العسكري عبر حلول وسط يمكن البناء عليها، لمنع التصادم بين حكومتَي الدبيبة وباشاغا للحفاظ على السلم الهشّ قدر الإمكان، في انتظار حل مشكلة الموعد الانتخابي، طالما أن أي حل آخر يعني قيام حكومة ثالثة برئاسة المجلس الرئاسي، وهذا يعقّد الأزمة أكثر.