رغم أن مرض “بطانة الرحم المهاجرة” وُصف لأول مرة منذ أكثر من 100 عام، إلا أن المعرفة الحالية بمسبّباته وتطوره التلقائي وعلاقته بالعقم وآلام الحوض المصاحبة لا تزال تخضع للبحوث والدراسة العلمية كونها غير واضحة، وغالبًا ما يتمّ تجاهُل الحالة على أساس أنها مجرد “فترات حيض سيّئة” أو “مؤلمة”، وهكذا ظلت النساء تعاني بصمتٍ لسنوات، بسبب صعوبة التشخيص وبعض المفاهيم الخاطئة المتعلقة بها.
تُعرَّف بطانة الرحم المهاجرة، أو ما يُعرَف علميًّا أيضًا باسم “الانتباذ البطاني الرحمي”، بأنها اضطراب يحدث نتيجة نمو نسيج مشابه للنسيج الذي يبطِّن الرحم من الداخل إلى خارج الرحم، ويتضمّن الانتباذ البطاني الرحمي الأكثر شيوعًا المبيضَين، وأُنبوبَي فالوب والأنسجة المبطنة للحوض، ونادرًا ما ينمو النسيج البطاني الرحمي خارج أعضاء الحوض.
وعندما يؤثر الانتباذ على المبيضَين، قد تتشكّل الخراجات المعروفة بورم بطانة الرحم، ويمكن أن تصبح الأنسجة المحيطة متهيّجة، ما يؤدّي في النهاية إلى ظهور أنسجة ندبية والتصاقات يمكن أن تسبّب انسدادًا في أنسجة الحوض والأعضاء، وتعدّ هذه الحالة شائعة جدًّا حيث تؤثر على حوالي 1 من كل 10 نساء.
تجربة ومعاناة لم تؤخذ على محمل الجد
“لا يمكن لهذه الآلام أن تكون طبيعية أو تبقى محتمَلة”، تصف إيمان عرفان أعراض إصابتها ببطانة الرحم المهاجرة، وتقول: “على مدار الـ 5 سنوات من بداية الأعراض وإجراء التحاليل، وُصفت لي الكثير من الأدوية وشُخِّصت حالتي بعدة أمراض، حتى وصل اشتباه الإصابة بسرطان المبيض، قبل أن يؤكّد لي الطبيب بإصابتها ببطانة الرحم المهاجرة، كانت بشرى سارّة قبل أن أكتشف أن الخلاص من هذا المرض مستحيل”.
وتستذكر الشابة العشرينية لحظات المرض الأولى، وتقول لـ”نون بوست”: “اعتقدت أول الأمر أنها أعراض اقتراب دورة الحيض لدي، وسينتهي الوجع بعد أيام، أو ربما علامات الحمل لكنها لم تكن كذلك، كل مرة كنت أشعر بانتشار الوجع وامتداده بمنطقة الحوض خاصة أكثر من ذي قبل”.
بينما تكتب رولا (37 عامًا) أن تأخُّرها بالإنجاب “وطبيعة الأعراض التي تشبه إلى حد كبير أنَّ أحدًا ما يعصر في رحمي دون توقف”، جعل إصرارها على التشخيص الأدق لوضعها الصحي، حيث عانت لسنوات طويلة من آلام شديدة، غثيان مستمر، تعب مزمن، انتفاخ وغيرها من الأعراض الكثيرة.
زارت عدة أطباء باحثة عن جواب، عند كل زيارة كانت تسمع الإجابة نفسها: “كل شيء نظيف، هذه أعراض طبيعية”، علمًا أن هذه الأعراض كانت تتطور وتسوء، فمع الوقت أصبحت أكثر حدّة، وتطور الألم إلى حد التقيُّؤ، ومع ذلك الجواب الوحيد الذي سمعته من الأطباء كان أن هذه الأعراض طبيعية.
تشارك رولا منشورها على “غروب المصابات ببطانة الرحم المهاجرة عبر فيسبوك”، وتقول: “الأوجاع لم تكن طبيعية بالنسبة لي، لكن لم يكن بيدي حيلة، لا أملك خيارًا سوى تحمُّل الألم وتقبُّل ما يبدو طبيعيًّا للجميع”.
في يوم من الأيام رأت منشورًا لامرأة تتكلم عن تجربتها مع مرض، “أعراضه كانت شبيهة جدًّا بما أمرّ به، شعرتُ أنها تتكلم عني، راسلتها على الفور، ونصحتني بأن أعاين طبيبًا أخصائيًّا وأن أطلب منه بنفسي التحقُّق من وجود هذا المرض. لو لم أرَ ذلك المنشور يومها لكان من المحتمل كثيرًا أنني ما زلت أعاني كل ما عانيته دون أن تؤخذ آلامي على محمل الجدّ.. أنا ممتنة جدًّا لتلك المرأة وأتمنى أن تستمرّ النساء في إلقاء الضوء على هذا المرض”.
تتفق التقارير الطبية على اختلاف أعراض التهاب بطانة الرحم من امرأة إلى أخرى، إذ تعاني بعض النساء من أعراض خفيفة، ولكن يمكن أن تعاني أخريات من أعراض معتدلة إلى شديدة، مع العلم أن شدّة الألم لا تشير إلى درجة أو مرحلة الحالة، فقد يكون لديك شكل خفيف من المرض وتعانين من آلام شديدة، مع ذلك تكون أكثر أعراض بطانة الرحم المهاجرة مصحوبة بألم شديد أثناء فترات الدورة الشهرية والجماع والتغوط و/أو التبول، ويسبِّب آلامًا مزمنة بالحوض وانتفاخ البطن والغثيان والتعب، وأحيانًا الاكتئاب والقلق والعقم.
وفق تقرير منظمة الصحة العالمية، كذلك من الممكن ألا تظهر على المصابة أية أعراض، لذلك من الضروري زيارة طبيب النساء بشكل دوري للتأكُّد من عدم وجود مشكلات من هذا النوع.
في السياق، يقول الدكتور أنس سفاف، أخصائي جراحة نسائية والتوليد ومعالجة العقم ورئيس مشفى “أرسان” بتركيا، إن هناك العديد من النظريات حول أسباب المرض، أولها “أن مرض بطانة الرحم المهاجرة يحدث بسبب الحيض الرجوعي. يحدث هذا عندما يتدفق دم الحيض مرة أخرى من خلال قناة فالوب في تجويف الحوض بدلًا من مغادرة الجسم من خلال المهبل”.
بطانة الرحم المهاجرة وسرطان المبيض يتشابهان في بعض الأعراض، إلا أن الأنسجة الناتجة عن بطانة الرحم المهاجرة تعدّ أورامًا حميدة
وأضاف الدكتور، خلال حديثه لـ”نون بوست”، أن النظرية الأخرى تقول إن تحول الخلايا خارج الرحم إلى خلايا مماثلة لتلك التي تبطّن تجويف الرحم، والمعروفة باسم خلايا بطانة الرحم، بينما يعتقد آخرون أن الحالة قد تحدث إذا تحولت مناطق صغيرة من البطن إلى أنسجة شبيهة بأنسجة بطانة الرحم، وقد يحدث هذا لأن الخلايا في البطن تنمو من الخلايا الجنينية، والتي يمكن أن تغيّر شكلها لتصبح مثل خلايا بطانة الرحم.
يعتبرُ أخصائيُّ جراحة نسائية والتوليد العقمَ من المضاعفات الشائعة لبطانة الرحم المهاجرة، ويمكن أن يسبِّب معاناة لكثيرات من خلال الالتصاقات التي تحدث داخل البطن، وتسبّب انسداد بقناة فالوب أو الرحم، إلى جانب أثر عمليات إزالة الأكياس بشكل جراحي قد تضعف جودة البويضات ومخزونها، ومع ذلك إن الكثيرات من المصابات ببطانة الرحم المهاجرة، بمستواها الخفيف والمعتدل، ما زلن قادرات على الحمل.
عن الوقاية، يشير إلى أن الطريقة المعروفة للوقاية من الإصابة بالانتباذ البطاني الرحمي تتمثل بتعزيز الوعي، متبوعًا بالتشخيص والتدبير العلاجي المبكّرَين للحالة، إلى إبطاء التطور الطبيعي للمرض، والتقليل من العبء طويل الأمد للأعراض المترافقة معه، وينصح النساء اللواتي يعانين من هذه الحالة بعدم التأخر في الإنجاب، لأن هذه الحالة قد تتفاقم مع مرور الوقت.
عن علاقته بالسرطان
يتبنّى الدكتور سفاف الرأي بعدم وجود دليل واضح على أن بطانة الرحم المهاجرة تسبّب “السرطان”، ولا يوجد بحثّ يربطُ بين الاثنين، ولا توجد سمة وراثية مرتبطة ببطانة الرحم المهاجرة يمكن أن تؤدي إلى الإصابة بالسرطان.
ويشرح قائلًا: “هناك العديد من العلامات على أن الشخص قد يكون مصابًا بالسرطان أم لا، هذه العلامات ترتفع أحيانًا عند الإصابة ببطانة الرحم المهاجرة، مثل فحص وجود جسم مضاد في المصل للمستضد الموجود على بعض الخلايا السرطانية، والذي يُدعى CA-125، حيث يرتفع مستوى هذا الفحص عند المصابين ببطانة الرحم المهاجرة والسرطان معًا”.
ويكمل: “إذا كان مستوى CA-125 أعلى من الطبيعي فقد تعني النتيجة الإصابة بسرطان المبيض أو بطانة الرحم أو قناة فالوب، حينها قد يوصي الطبيب المختص بفحوصات وإجراءات أخرى لتحديد تشخيص الحالة بشكل أدقّ، نافيًا فرضية أن تتحول الإصابة بالانتباذ الرحمي إلى السرطان.
بينما يشير الدكتور محمد عبد الفتاح السنيطي إلى بعض الدراسات التي افترضت أن بعض النساء المصابات بهجرة بطانة الرحم أكثر عرضة من غيرهن لسرطان المبيض الظهاري، حيث تشير تلك الدراسات أن السيدات اللاتي لم يحملن من قبل والسيدات المصابات بهجرة بطانة الرحم أكثر عرضة لهذا النوع من الأورام.
ويلفت إلى إحدى النظريات التي تدّعي أن تلك الأنسجة التي تهاجر إلى المبيض تتحول إلى ورم سرطاني خبيث، والاحتمال الآخر قد يكون مرتبطًا بعوامل وراثية أو بيئية أخرى تعمل على زيادة خطر التعرض لسرطان المبيض.
وينبّه أن بطانة الرحم المهاجرة وسرطان المبيض يتشابهان في بعض الأعراض، إلا أن الأنسجة الناتجة عن بطانة الرحم المهاجرة تعدّ أورامًا حميدة، أما بالنسبة إلى سرطان المبيض فقد يزيد حجم الانتباذ البطاني الرحمي بمرور الوقت ويؤدي إلى إتلاف الأعضاء المحيطة.
صعوبة التشخيص
التقديرات الصادرة عن منظمة الصحة العالمية توضّح أن وجود تاريخ دقيق لأعراض الدورة الشهرية وآلام الحوض المزمنة، يشكّل الأساس لاشتباه الإصابة بالانتباذ البطاني الرحمي، ورغم وجود العديد من أدوات واختبارات الفحص التي تمَّ طرحها واختبارها، فلم يتم التأكد من قدرة أي منها تمامًا، أو التنبُّؤ بدقّة بالأفراد أو الفئات السكانية الأشد عرضة للإصابة بهذا المرض.
ويعدّ الاشتباه المبكر في الإصابة بالانتباذ البطاني الرحمي عاملًا أساسيًّا للتشخيص المبكّر له، حيث يمكن للانتباذ البطاني الرحمي أن يُظهر، في كثير من الأحيان، أعراضًا تحاكي أعراض حالات أخرى، ما يؤدي إلى تأخر التشخيص، وإضافة إلى التاريخ الطبي فقد يتطلب الأمر الإحالة من مستوى الرعاية الصحية الأولية إلى مراكز الرعاية الثانوية، حيث تتوفر الإمكانات لإجراء مزيد من الفحوص الاستقصائية.
في هذا الخصوص يقول الدكتور محمد عبد الفتاح السنيطي، استشاري النساء والتوليد والحقن المجهري بمصر، إنه من الممكن أن يكون انتباذ بطانة الرحم صعب التشخيص، وهذا بسبب اختلاف أعراض انتباذ بطانة الرحم كثيرًا، إلا أن هناك أعراضًا شائعة يمكن أن تكون مشابهة للألم الناتج عن حالات أخرى، مثل متلازمة القولون العصبي (IBS).
وأضاف الدكتور السنيطي خلال مقالٍ له: “عادة ما تشمل الاختبارات التي قد يتم عرضها على المريضة فحص التصوير بالرنين المغناطيسي أو فحص الموجات فوق الصوتية على الحوض. قد يكون هذا الفحص عبر المهبل لفحص الرحم والمبيضين. قد يُعرض عليك منظار البطن، وهي الطريقة الوحيدة للحصول على تشخيص محدد، ويتم ذلك تحت التخدير العام. قد تخضع الحالة لأخذ خزعة لتأكيد التشخيص ويمكن التقاط صور لفحصك الطبي”.
ماذا عن سُبل العلاج؟
لا يوجد علاج للقضاء على المشكلة من جذورها، لكن هناك العديد من العلاجات التي تساهم في تخفيف الأعراض، وبيَّن الدكتور أنس سفاف أن الخيارات الدوائية والجراحية تتوفر للمساعدة في تقليل الأعراض وإدارة أي مضاعفات محتملة، وغالبًا ما يلجأ الأطباء إلى الأدوية في بداية الأمر، وفي حال فشلها يتوجّهون إلى الجراحة.
تشمل العلاجات التي تساعد على إدارة أعراض بطانة الرحم المهاجرة ما يلي: موانع الحمل الهرمونية التي تقلل من الخصوبة عن طريق منع النمو الشهري وتراكُم أنسجة بطانة الرحم، والتدخُّل الجراحي والهدف منه هو إزالة أو تدمير نمو بطانة الرحم دون إتلاف الأعضاء التناسلية.
ويوضِّح تقرير منظمة الصحة العالمية أن من بين خيارات معالجة العقم الناجم عن الانتباذ البطاني الرحمي، الإزالة الجراحية بالمنظار البطني، وتحريض المبيض مع الإخصاب داخل الرحم، والإخصاب في المختبر، غير أن معدلات النجاح تتفاوت في هذا الشأن، وقد تحدث أمراض مصاحبة أخرى بجانب الانتباذ البطاني الرحمي، ما يستلزم تشخيصًا وتدبيرًا علاجيًّا لها.
وينبغي أن تضم المعالجة المتعددة التخصصات، للتعامل مع الأعراض المختلفة للمرض والصحة العامة، اختصاصيين مختلفين، كالاختصاصيين في مجال الألم، والعلاج الطبيعي للحوض، والطب التكميلي والطب البديل، وممارسين عامِّين، واختصاصيين في علم النفس، فضلًا عن اختصاصيي أمراض النساء، كي تكون المعالجة أكثر فاعلية.
تصنّف منظمة الصحة العالمية الانتباذَ البطاني الرحمي بـ”مرض مزمن” يصيب 190 مليونًا من النساء والفتيات في سنّ الإنجاب على مستوى العالم، وتحذّر المنظمة من أن “العاملين الصحيين قد يجدون صعوبةً في تشخيص هذا المرض بسبب أعراضه المتغيرة والواسعة، كما أن كثيرًا ممن يعانين منه يفتقرن إلى الوعي اللازم به، وليس له علاج معروف في الوقت الحالي، وعادةً ما يكون الغرض من المعالجة هو السيطرة على الأعراض”.
وتؤكد دراسة سابقة نُشرت عام 2019 أن “الفشل في تشخيص هذا المرض في الوقت المناسب والإدارة المناسبة له قد يعزِّزان تطوُّره، إذ يضرّ بخصوبة الفتيات ويزيد من آلام الحوض المزمنة لديهن”.
لذلك تفتح الدراسة الجديدة التي أجرتها كلية بايلور للطب بالتعاون مع آخرين، آفاقًا متفائلة لوضع حدٍّ لمعاناة شريحة ليست هيّنة من النساء، خاصة أن علاجات المرض المطروحة -سواء العمليات الجراحية لإزالة آفات بطانة الرحم أو استخدام الهرمونات للتحكم في نموها- تكون نتائجها غير كاملة، وقد تؤدي هذه الوسائل العلاجية إلى مخاطر وآثار جانبية.
وعلى كل حال، يمكن القول إن النساء حول العالم قد قطعن شوطًا طويلًا فيما يتعلق بكسر “التابوهات” الثقافية المحيطة بفترة الحيض، فالتحدُّث صراحة عن اضطرابات ومشكلات قد تؤثر على صحتهن الإنجابية بدأ يأخذ منحى أكثر جدلًا وجرأة، ساعدَ الأوساط العلمية على نفض الغبار عمّا فاتها لتضع حدًّا لعقود من آلام مرضاها من الإناث، بعدما كانت تشخّص الكثير من آلامهن على أنها مجرد “أوهام” تدور في رأس السيدة التي تعاني، وعدم أخذ معاناتها على محمل الجدّ.