لم يقتصر مفهوم السلام الاقتصادي الذي حاولت الإدارة الأمريكية جهدها تعزيز مفهومه في الصراع العربي الإسرائيلي على السلام بين الاحتلال والفلسطينيين بشكلٍ خاص، بل أخذ يتمثل في أشكال مختلفة، بدأت بذورها مع رعاية الولايات المتحدة لاتفاقيات السلام كامب ديفيد بين مصر و”إسرائيل” عام 1978، ولحقتها اتفاقية وادي عربة بين الأردن و”إسرائيل” عام 1994.
ومع أول اتفاقية تطبيع بين الاحتلال والدول العربية، وحتى بين الاحتلال والسلطة الفلسطينية في اتفاقية أوسلو عام 1993، بدأت البوصلة بالانحراف شيئًا فشيئًا عن كيفية إنهاء الاحتلال ووجوده على أرض فلسطين، إلى كيفية التعايش معه سياسيًّا وبشكل أكبر اقتصاديًّا.
وهذا ما تبنّته الإدارة الأمريكية حين بدأ يلوح فشل مسار المفوضات الفلسطينية الإسرائيلية في عهد الرئيس باراك أوباما، والذي روّج حينها لمقترح التنمية الاقتصادية الذي أكمل عليه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من خلال مقترح “صفقة القرن”، وزياراته إلى الدول العربية قبل أن تفضي إلى توقيع اتفاقيات التطبيع في الألفية الثانية: الإمارات، البحرين، السودان والمغرب.
قبل أن يدرج مفهوم السلام الاقتصادي، وتبرز اتفاقيات التطبيع، كانت هناك في الأراضي الفلسطينية المحتلة تنقّب “إسرائيل” عن الغاز الطبيعي، حتى اكتشفت عام 2010 حقل ليفياثان للغاز غرب مدينة حيفا المحتلة.
اكتشافٌ أضاء للاحتلال الطريق لمدّ جسوره القادمة مع العالم، حين صرّح رئيس الوزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو بأن إنتاج الغاز من حقل ليفياثان “سيزوّد “إسرائيل” بالغاز، ويعزز التعاون مع دول المنطقة”، ونستطيع ببساطة الآن أن نفهم “تعزيز التعاون” حين نعلم أن الاحتلال تحوّل خلال 10 سنوات من مستورد للغاز الطبيعي من الدول الإقليمية، إلى لاعب فاعل في تصدير الغاز عالميًّا.
الأردن.. اتفاق على مخسَر
بعد اكتشاف حقل ليفياثان بدأت شهية الاحتلال بتصدير غازه، خاصة بعد استثماره 3.75 مليارات دولار في الحقل، وكانت الأعين صوب الأردن، الدولة الحدودية مع فلسطين التاريخية.
وعليه بدأت المفاوضات عام 2014 وانتهت بتوقيع اتفاقيات لبيع الغاز من حقل تمار الإسرائيلي للغاز الطبيعي لشركة برومين الأردن وشركة البوتاس العربية، إحدى الجهات الصناعية الفاعلة في الأردن، وانطوت مذكرة التفاهم التي وقعتها الحكومة الأردنية على التزام الأردن بشراء الغاز الفلسطيني الذي سرقته “إسرائيل” لمدة 15 عامًا.
بنود الاتفاق، صُمِّمت لتثبيط وردع تطوير مصادر الغاز المحلية في الأردن، من خلال وضع اشتراطات تعيق تخفيض الكميات المستورَدة من “إسرائيل”
لاحقًا، عام 2016، وُقِّعت اتفاقية سرّية بين شركة الكهرباء الوطنية والاحتلال الإسرائيلي بدأت تفاصيلها تتّضح عام 2019، وبدأت حينها تفاصيل المخاسر الأردنية في هذا الاتفاق، فبحسب تحقيق نُشر في العام ذاته بعنوان “صفقة التبعية والإذعان”، ترتّبت على المشتري/ شركة الكهرباء الوطنية ضمانات هائلة متمثّلة بالكفالات العميقة والمركّبة المتعلقة بربطها الوثيق بالحكومة الأردنية (مالكة الشركة)، وصولًا إلى كفالة الحكومة الأمريكية نفسها، بينما نجد أن الاتفاقية تعفي شركاء حقل ليفاياثان بالكامل من أي التزام أو مسؤولية.
كما أن بنود الاتفاق، وبحسب التحقيق، صُمِّمت لتثبيط وردع تطوير مصادر الغاز المحلية في الأردن، من خلال وضع اشتراطات تعيق تخفيض الكميات المستورَدة من “إسرائيل” في حال تمَّ إنتاج غاز طبيعي في الأردن، الأمر الذي يجعل من جدوى استخراج الغاز محليًّا شبه معدومة، ويثبّط من جهود تطوير مصادر الغاز الأردنية السيادية مقابل الاعتماد على استيراد الغاز من الاحتلال الإسرائيلي.
“جول” إسرائيلي في شباك مصر
قبل عام من توقيع مذكرة التفاهم السرّية بين الأردن والاحتلال، اكتشفت مصر حقل ظهر الغازي العملاق عام 2015 كأكبر حقل مصري للغاز في عمق المتوسط، والذي كان يمكن له أن يعيد للدولة المصرية أمجادها بتوريد الغاز في المنطقة، وهو ما دفع رئيسها عبد الفتاح السيسي للحديث في خطابه للمصريين عام 2018: “إحنا جبنا جول يا مصريين في موضوع الغاز”، على أن تتربّع مصر مركزها الإقليمي للطاقة.
وبهدف إنشاء سوق غاز إقليمي، تأسّسَ منتدى غاز شرق المتوسط عام 2019، جامعًا بين أعضائه مصر واليونان وقبرص وفلسطين والأردن وإيطاليا وفرنسا والاحتلال الإسرائيلي، لتأمين العرض والطلب بين هذه الدول الأعضاء بقيادة مصرية.
وكل من يحالفُ عدوّه يعود خائب الخطى، حيث لم تتحقق أية آمال مصرية من المنتدى، ولم تنَل مصر دورها الإقليمي في مجال الغاز كما كانت تسعى، بل إن “الجول” أو الهدف الذي تفاخر فيه السيسي كان حقيقةً هدفًا رمته “إسرائيل” في الشباك المصرية، حين وقّعت عام 2020 مع قبرص واليونان -مستثنين مصر- اتفاق خط أنابيب شرق المتوسط “إيست ميد” لمدّ أوروبا بالغاز.
ومع نهاية 2021 وقّعت الإمارات، أول المطبّعين في الألفية الثانية مع الاحتلال الإسرائيلي، أول صفقة تجارية كبيرة بينها وبين الاحتلال، حين أتمّت عقدًا لشراء حصة في حقل تمار للغاز الطبيعي شرق البحر المتوسط، بمبلغٍ يصل إلى 1.1 مليار دولار.
الحرب الروسية الأوكرانية.. الاحتلال ينفثُ غازه
مع نشوب الحرب بين أوكرانيا وروسيا في فبراير/ شباط 2022، قرر الاتحاد الأوروبي التحرُّر من الطاقة الروسية التي تمثل نحو 40% من استهلاك الغاز لدول الاتحاد، وكانت الأعين تتّجه إلى “إسرائيل”، عرّابة اتفاقيات الغاز في الشرق الأوسط.
مؤخرًا، قالت “هيئة البث الإسرائيلية” إن وزيرة طاقة الاحتلال أوعزت لموظفي وزارتها بتسريع الاستعدادات الاستراتيجية لإطلاق جولة عطاء رابعة (مناقصات) للتنقيب عن الغاز الطبيعي في البحر، قبل أن تتمَّ توقيع اتفاقية تصدير الاحتلال الإسرائيلي للغاز الفلسطيني المسروق إلى أوروبا من خلال الأراضي المصرية، في 15 يونيو/ حزيران 2022.
في مقابل ذلك، أعلنت المسؤولة توفير 100 مليون يورو للقاهرة لمواجهة أزمة الغذاء والأسعار، مؤكدة أن “لديهم التزامًا قويًّا بالشراكة مع مصر”، إضافة إلى تخصيص “3 مليارات يورو لبرامج الزراعة والري”، فيما يبدو أنها مكافأة لمصر على توقيع اتفاقية تصدير الغاز.
استطاع الاحتلال اللعب على وتر الحرب الروسية الأوكرانية، لينفث الغاز الطبيعي الذي نقّب عنه في الأراضي الفلسطيني المحتلة، وليصعد تدريجيًّا ليكون أحد أهم الفاعلين في مجال الطاقة عالميًّا.
شراء الغاز الفلسطيني
عودٌ على بدء، ووقوفًا مرة أخرى عند مفهوم السلام الاقتصادي، كان لاتفاقيات الغاز الموقعة عربيًّا مع الاحتلال الإسرائيلي دورٌ في تعزيز نفوذ الاحتلال في الوسط العربي، وتعزيز هيمنته الاقتصادية على اقتصادات الدول والشعوب الضعيفة، مستغلًّا تواطؤ أنظمتها.
ولم تكن الاتفاقيات فقط لتحقِّق الأرباح للاحتلال، بل كانت لعزل وتجريد العرب من أي سلاح اقتصادي، كي يضحوا في محصلة الأمور تابعين اقتصاديين للاحتلال، من مبدأ “القوي اقتصاديًّا قوي سياسيًّا، والعكس صحيح”، فعملت “إسرائيل” على تعزيز قوتها السياسية والاقتصادية، وسلب الإقليم هاتين القوتين.
فلسطينيًّا، علمت المقاومة الفلسطينية أبجديات الصراع مع الاحتلال، وعلمت مخططه وأهدافه، وسعت، في حربها الأخيرة مع الاحتلال في مايو/ أيار 2021، لاستهداف حقول ومشاريع الغاز الإسرائيلية، وعلى رأسها منصة تمار النفطية، ومنشآت تخزين النفط على الساحل، بالإضافة إلى موانئ ومرافق حيوية أخرى تخدم هذا القطاع على وجه الخصوص.
واضطرت حينها شركة شيفرون الأمريكية العملاقة إلى إغلاق المنصة الواقعة على بُعد 25 كيلومترًا شمال غرب قطاع غزة، ناهيك عن اضطرار دولة الاحتلال تأجيل الجولة الرسمية الرابعة للتنقيب عن الغاز في شرق المتوسط.
في وقت تمنع “إسرائيل” فيه الفلسطينيين من الاستفادة من الغاز الكامن في حقل غزة البحري، لتدفعهم إلى شراء غازهم المستخرج من أرضهم منها، يسارع العرب في خط تواقيعهم على اتفاقيات الغاز مع الاحتلال، ولربما نسوا أو تناسوا أو علموا بتخطيط مسبق أن الغاز الذي يُضَخّ في أنابيبهم بموجب اتفاقيات العار التطبيعية ما هو إلا غاز فلسطيني أصيل، كان من الممكن أن يكون تكلفته أقل بكثير لو استثمروا قليلًا في الدفاع عن فلسطين، وقفوا بجانبها، واشتروا الغاز ذاته لاحقًا من الفلسطينيين أنفسهم.