تشير إحصاءات مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى أن أكثر من نصف عدد اللاجئين حول العالم هم من الأطفال، فإضافة لصعوبة تأمين حياة كريمة وتعليم جيد لهم، يضطر هؤلاء الأطفال للتعايش في بيئات جديدة والدراسة بلغات مختلفة عن لغة المنزل والعائلة، هذا عدا ما قد يواجهونه من إساءة في ظل تزايد الخطاب العنصري ضد اللاجئين وخطاب الكراهية حول العالم.
لكن أيضًا وبالمقابل يتمتّع الأطفال بقدرة ومرونة أكبر على الاندماج والمحبة والتسامح مع الآخرين، من خلال التعلُّم واللعب وفضولهم لاستكشاف البيئة من حولهم.
من أجل فهم تأثير هذه التجربة والممارسات المرتبطة بها على الصحة النفسية للأطفال، بالتزامن مع تصاعد خطاب الكراهية في العالم، والتعرُّف إلى آليات حماية من موجات العنصرية، أجرى “نون بوست” حوارًا خاصًّا مع الدكتور ملهم الحركي.
الطبيب ملهم زهير الحراكي، يحمل شهادة الطب العام ومتخصص في الطب النفسي لجميع الأعمار، مع تخصص دقيق في العلاج النفسي للأطفال والمراهقين، أسّس مع مجموعة من الأطباء عام 2012 الجمعية السورية للصحة النفسية “سمح”.
يعمل حاليًّا رئيسًا للمجلس الإداري للجمعية منذ عام 2021، وهي جهة علمية إشرافية هدفها دعم الصحة النفسية للسوريين بعد الأحداث التي شهدتها سوريا عقب الثورة.
وفي عام 2018 أسّس أيضًا فريق بصيرة للاستشارات التربوية والنفسية أونلاين، الذي يقدّم الاستشارة النفسية والتدريب عليها لغير القادرين ويؤهّل الكوادر لأجل ذلك.
وفي عام 2017 نشر كتاب “براعم النار” عن الأطفال السوريين والأسر السورية وكيفية تقديم الدعم النفسي لهذه الفئة الهامة، إضافة إلى كتاب تفعيل “قوى الدعاء” عن سيكولوجية الدعاء وكتاب “حلّق عاليًا” عن مهارات الدعم النفسي والعناية النفسية.
المحور الأول: بناء الهوية
ما أهمية بناء الهوية على نفسية الطفل وتكوينه وثقته بنفسه؟ وكيف نربّي طفلًا متصالحًا مع هويته/خلفيته الأجنبية؟ وكيف نعلّمه أن هذا الاختلاف أمر طبيعي ولا يدعو للانسحاب والاختباء وتقمُّص هويات/شخصيات أخرى؟
أولًا الهوية أو الانتماء (Identity) -وهو المصطلح الأدق علميًّا ولغويًّا- بحدّ ذاته متعدد عند الطفل، يبدأ من الانتماء إلى الأب والأم والعائلة، بعدها الانتماء إلى العائلة الأكبر أو القبيلة، ومن ثم الانتماء إلى الحي أو المنطقة التي يعيش فيها الطفل، ثم الانتماء إلى المجتمع والوطن الذي يعيش ضمنه، ثم الانتماء إلى قومية أو دين معيّن، ثم الانتماء البشري أو الإنساني بشكل عام، إذًا دوائر الانتماء متعددة ومتداخلة، تبدأ بدائرة الانتماء الصغيرة ثم الأكبر فالأكبر.
إذا أدخلنا مفهوم دوائر الانتماء إلى عقل الطفل، وجد نفسه كأي إنسان مع طفل آخر من أي جنسية أخرى، هو بالنهاية أخوه في الإنسانية، ولا بدَّ أن ينتمي هو وإياه إلى شيء واحد على الأقل أو عدة أشياء.
أحببت أن أبدأ بهذا التقديم لنؤسِّس لمفهوم الانتماء حتى أجيب عن السؤال الأول، فأهمية بناء الهوية والانتماء عند الطفل أمر مهم جدًّا، مثلًا بعمر السنتين إلى 4 سنوات يتحدد انتماء الطفل الجنسي، ذكر أو أنثى، وفي مرحلة المراهقة نرى ظاهرة أو أزمة صراع هي أزمة الانتماء إلى الأسرة أو الانتماء إلى الدين، أي يبدأ المراهق بالتفكير بصحّة وحقيقة الأشياء التي تعلمها أول 10 سنين: هل هي صحيحة؟ هل يحتاج إلى تعديل انتماءاته؟… إلخ، ويبدأ أيضًا بالبحث عن القدوة في حياته.
الانتماء قضية مهمة جدًّا، وتلعب دورًا كبيرًا في بناء ثقة الطفل، وأحد الأُسُس المهمة لبناء ثقة الطفل هو ترسيخ فكرة الانتماء داخله، ليكون جواب سؤالنا: كيف نساعده حتى يتصالح مع كونه طفلًا أجنبيًّا؟ يكون بشرح فكرة الانتماء بهذه الطريقة، نحن كلنا بشر، وكل إنسان حسب ظروفه يختار الدين، وأيضًا ظروف معيّنة أخرى تجعله ينتمي إلى مجتمع ما.
هذا يساعد الطفل على تقبُّل أن الانتماء له عوامل متعددة، وكون الطفل أجنبيًّا أو مواطنًا ليس له علاقة باختيار الطفل أو الإنسان، وإنما حصيلة ظروف معيّنة جعلت من طفلٍ أجنبيًا ومن آخر غير أجنبي.
هل هواجس الآباء في المهجر من تفلُّت اللغة العربية لدى أطفالهم محقّة؟ هل يمكن أن يكون الأطفال ثنائيي اللغة الأمّ؟ هل هذا مفيد لهم أو يزيد ذكاءهم مثلًا؟
طبعًا، اللغة من أحد أوعية الانتماء الهامة جدًّا والأساسية، بمعنى حتى يترسّخ انتماء ما عند الإنسان يجب أن يتعلم اللغة المتعلقة بهذا الانتماء، لذلك علاقة اللغة مع الهوية والانتماء حسّاسة جدًّا، لدرجة أن بعض المجتمعات لا تعلِّم اللغة الثانية إلا بعد عمر الـ 10 سنوات، أي دائمًا يبدأ التعليم عندهم باللغة الأمّ، وهذا يدل على أهمية الانتماء، وأهمية اللغة في تشكيل الانتماء عند الطفل.
من الممكن أن يكون الأطفال ثلاثيي اللغة أو رباعيي اللغة، نظرًا إلى قدرتهم العالية على تعلُّم اللغات، ولكن في البداية وحسب تقدير الأبوَين يجب أن يؤسِّسا اللغة الأمّ الأساسية التي يحتاجها الطفل في هذا المجتمع تأسيسًا صحيحًا بما يمكّنه من رواية القصة مثلًا، بعد ذلك يمكن إدخال لغات أخرى مع مراعاة الحفاظ على انتماء الطفل وتجنُّب تشويشه، لأنه لو أدخلنا لتحت عمر الـ 10 سنوات لغة أخرى قد يسبب ذلك تشوشًا أو أزمة انتماء عند الطفل.
وبكل تأكيد إن تعلُّم لغات متعددة له فائدة كبيرة على الذكاء، ولكن مشكلته -كما أسلفنا- هو تشويش الانتماء عند الأطفال تحت عمر الـ 10 سنوات، وأيضًا قد يعاني بعض الأطفال الذين يتلقّون عدة لغات بالوقت نفسه، وكأن كل واحدة منها اللغة الأمّ، من تأخُّر في التطور اللغوي.
كيف نقيّم أو نقيس اندماج أطفالنا؟ بكلمات أخرى، كيف أعرف أن طفلي مندمج وسعيد في بيئته وبين أصدقائه ولا يواجه مشاكل عنصرية؟ وكيف أكتشف كأمّ أو معلمة أو أب أن ابني يتعرّض لسلوك أو خطاب كراهية بسبب اختلافه أو كونه لاجئًا أو أجنبيًّا.. ما العلامات التي تظهر عليه؟
العلاقة بينك وبين طفلك من أهم الأشياء التي تقيس وتكشف درجة اندماجه، فعندما تكون العلاقة بين الأب وابنه وبين الأم وابنتها أو بالعكس علاقة فيها تواصل واستماع فعّال من الأب ومن الأم، حينها يكفي السؤال البسيط للطفل لنعرف الكثير عن اندماجه وتكيُّفه وما يتعرض له من مشاكل.
أما إذا كان الخوف يحكم علاقة الطفل مع أبوَيه، ومن الممكن أن يتعرض إلى اللوم منهما أو التهديد أو غيرهما من التصرفات التي تخيف الطفل، حينها يلجأ الطفل إلى الكتمان.
عادة في حالات تعرُّض الطفل لإساءة معاملة أو عنصرية في مجتمعه الجديد، تظهر بعض الأعراض عليه مثل المزاج الكئيب، وأحيانًا يعود بعض الأطفال للتبول الليلي، وتندرج هذه الأعراض ضمن فئتَين: أعراض خارجة (Acting out) مثل فرط الحركة أو السلوك العدواني، وأعراض داخلة (Acting in) مثل الخوف وأعراض الكآبة وفقدان الشهية للأكل واضطرابات النوم والكوابيس، هذه كلها تقريبًا قد ترمز إلى مشاكل يتعرّض لها الطفل ويكتمها.
المحور الثاني: التفاعل الإيجابي مع المجتمع
هل هناك أهمية للتنوع الثقافي والاجتماعي في تكوين شخصية الطفل وثقته بنفسه؟ كيف نستطيع النظر إلى إيجابيات الاغتراب من هذا المنظور؟
بالتأكيد التنوع الثقافي والاجتماعي يساعد الطفل ويحسّن من ذكائه اللغوي والاجتماعي والعاطفي، وبالتالي هذا الطفل يكون مشروع إنسان ناجح وقابل للاندماج والتكيُّف بشكل أكبر، وهذا ممكن تسميته بفوائد الاغتراب، بما يوفّره من غنى وثراء ثقافيَّين، طبعًا مع الانتباه ألا يتعرض الطفل لأي إساءة.
لنفترض أن طفلي أُصيب بالارتباك الاجتماعي وبدت عليه علامات الانسحاب والانعزال بسبب هويته الأجنبية وشعوره بأنه غير مرحّب به.. كيف نعالج المشكلة ونصلح ما جرى إعطابه؟ هل يمكن أن يستردّ عافيته النفسية وثقته بنفسه ومن حوله؟
الطفل الذي يشعر أنه غير مرحّب فيه لا بدَّ أن الأعراض بدأت تظهر عليه، نبدأ بالمعالجة أولًا بتحسين علاقتي به كأبٍ وأمٍّ، وإفساح المجال له للحديث معًا، كأن نمارس بعض الأنشطة التي تشجّعه على الحديث، مثل التمشية معًا أو الرسم، أو أن أروي له قصصًا مشابهة حتى يتشجّع ويحكي لي، أو أحكي أنا قصتي الخاصة إذا كنت قد تعرضت عندما كنت صغيرًا أو مؤخّرًا لمشاكل من هذا النوع.
تعدّ زيارة المدرسة ثانيًا من الأمور الهامة التي يجب على الوالدَين القيام بها، ولا نفترض أن المدرسة ستكون عنصرية أو غير متعاونة، إن زيارة المدرسة وعرض المشكلة على المسؤولين وإشراكهم في الحل أمر مهم يساعد الطفل ويساعد المدرسة على الشعور أنك معهما في طرف واحد، وعادة تكون المدارس متعاونة، خاصةً إذا جاء الأهل إليها بنيّة طيبة وبنيّة التعاون.
ما دور الأهل؟ هل اندماجهم بالمجتمع يساعد الطفل على الأمر ذاته، أم هي مسؤولية فردية تقع على عاتق الطفل فقط؟
طبعًا للأهل دور، ولا يقع الأمر على عاتق الطفل وحده، يجب أن يتقبّل الأهل وجودهم في المجتمع وأن يكون موقفهم إيجابيًّا من الآخرين، نجدُ بعض الأهل يضع أفكارًا مسبقة عن الآخرين، كافتراض أن الآخرين أعداء ولا يحبوننا وعنصريون، ويقعون في فخّ التعميم.
هذا الموقف من الأهل يجعل الطفل في حالة موقف سلبي أيضًا، وهذا الموقف بالتأكيد سيظهر على لسان حاله، ما يعرّضه بشكل أكبر للعنصرية.
من منظورك كطبيب نفسي، كيف يمكن حماية الأطفال من أن يتصرّفوا بعنصرية تجاه “الآخر”؟
نحمي الأطفال من ممارسة العنصرية تجاه الآخرين بتنمية مهارة التعاطف لدى الطفل، يجب أن يتعلم مهارات التعاطف مع الآخرين، ويشعر بهم، وبالتالي لا يمارس عليهم هذه العنصرية، حيث تدريب الطفل على التعاطف أمر جدًّا مهم.
ما الأنشطة التي يمكن ممارستها مع الأطفال من كافة الخلفيات، محليين وأجانب ولاجئين، من أجل تقبُّل اختلافاتهم وبناء انسجام وتآخٍ فيما بينهم؟
تساهم الأنشطة كثيرًا في بناء الانسجام بين الأطفال مهما تنوعت أعراقهم، وخاصة الألعاب غير المعتمِدة على التواصل اللغوي، باعتبار لغة اللاجئين عادة ليست جيدة كفاية، إضافة إلى الحفلات والنشاطات التي تعتمد قليلًا على التواصل اللغوي.
تنمي هذه النشاطات المتعة بين الأطفال، مثل فعاليات الطعام معًا، والمسابقات خاصة الرياضية، وهذه الفعاليات تساعدهم كثيرًا على تقبُّل اللعب فيما بينهم، أي نأتيهم بالاندماج معًا من باب المتعة، وهو أسهل الأبواب.
أفضل ما يمكن تقديمه للأطفال الأجانب أو اللاجئين هو تعليم وتقوية لغة البلد الذي يعيشون فيه، وإلحاقهم وأبويهم بصفوف تعليمية خاصة بذلك.
المحور الثالث: التعامل مع المواقف العنصرية أو السلبية عمومًا
كيف نفهم نفسية الشخص العنصري؟ وهل يمكن اعتباره اضطرابًا نفسيًّا قابلًا للتقويم أو العلاج؟
هذا السؤال جميل جدًّا، أنا شخصيًّا لديّ تقسيم خاص يحتاج طبعًا إلى دراسة إحصائية حتى نثبته، ولكن الشخص العنصري إما أن يكون هو نفسه عنده اتجاه أو سمات Anti-social personality أي الشخصية المضادة للمجتمع، بمعنى آخر هذا الشخص عنصري حتى مع أهل بلده، عنصري مع أي شخص، ومن الممكن أنه داخل عائلته نفسها عنصري، هذه الفئة عادة تكون نسبتهم قليلة جدًّا، ربما أقل من 1% في المجتمع، وهؤلاء ليس لهم حل سريع، وعلاجهم جدًّا طويل وصعب.
ويكون هؤلاء عادة من رواد السجون وأصحاب السوابق، ولاحظنا هذا الشيء ممّا سمعناه في الفترات الأخيرة، أن الأشخاص الذين يقومون بتصرفات عنصرية أو جرائم عنصرية، هم أصلًا من أصحاب السوابق الإجرامية ورواد السجون.
إذن، الشخصيات العنصرية المصنَّفة كـ Anti-social، أي المضادين للمجتمع، ليسوا أشخاصًا مصابين باضطراب نفسي، وإنما هو اضطراب في شخصيتهم، بينما الاضطراب النفسي هو شيء آخر عارض على الشخصية، مثل الاكتئاب والقلق والوسواس والفصام، أما الشخصية المضادة للمجتمع فلديها اضطراب في بنية الشخصية نفسها منذ سنوات الحياة الأولى.
الصنف الآخر من العنصريين لا يكون سلوكه ناجمًا عن اضطراب بالشخصية، بل بسبب خطأ معرفي اكتسبه جرّاء تعرضه لموقف سلبي مع أحد اللاجئين، وكان تصرُّف اللاجئ أو موقفه منه سيّئ للغاية، هذه التجربة غيّرت نظرته تجاه اللاجئين بالعموم من تعاطف إلى العدائية والعنصرية، أو أن هذا الخطأ المعرفي ناجم عن تأثير الإعلام الممنهَج لترسيخ العنصرية.
وهنا يكون العمل على تصحيح الخلل المعرفي أو التشوهات المعرفية عن اللاجئين عند أصحاب البلد المستضيف، من خلال حملات إعلامية مدروسة وضخمة تستهدف اللاجئين وأهل البلد على حد سواء، وإقامة حوارات بين الطرفَين لتصحيح ذلك.
هل أحذِّر طفلي من العنصرية المحتمَلة لدى بعض أفراد المجتمع قبل خروجه إلى المجال العام، مثل المدرسة أو النادي؟
لا شكّ، من حق الطفل علينا التحدث معه حول موضوع العنصرية، التي من المحتمل مواجهتها في حياته، وأشرح له كيفية التصرف في مثل هذه المواقف، خاصة عندما نتحدث عن طفل يتقن لغة الكلام، أي تعدّى سنّ الـ 7 سنوات ويفهم الكلام بشكل واضح ولديه قدرة على رواية القصص، وعليه الآن أن يدخل المدرسة ويواجه المجتمع الجديد.
أما الأطفال دون سن القدرة على التعبير الكامل، أي بعمر 5 سنوات أو 4 سنوات وما دون، يجب كمُربٍّ أن أضع طفلي في مكان آمن وموثوق ولا يوجد فيه أي احتمال للعنصرية، ودائمًا أنبّهه أن يلجأ إليّ في حال التعرض للإيذاء، ولكن هنا العبء الأكبر في حماية الطفل على الأهل باختيار المدرسة وعلى المدرسة نفسها والنظام التعليمي والصحي.
كيف أعدّه وأعزز مناعته النفسية ضد خطاب الكراهية دون أن أبني داخله حاجزًا أو رهابًا؟
في البداية يمكن أن تشرح لطفلك فكرة العنصرية، وأن بعض تصرفات الأشخاص العنصرية قد تكون ناجمة عن تعرضهم لمواقف سيّئة سبّبت موقفهم السلبي من اللاجئين.
مثلًا قد يتصرف أحد اللاجئين بسوء مع مواطن البلد المستضيف، ما سيغيّر هذا المواطن بشكل سلبي تجاه كل اللاجئين بسبب التعميم، هنا يمكنك من خلال سلوكك وتعاملك معه أن تثبت أن اللاجئين ليسوا كلهم سيّئين، بل أنت شخص جيد متميز.
وهناك نمط آخر من الناس وهو Anti-social personality، الذي أشرنا إليه قبل قليل، إذا لمسنا أنه فعلًا شرير وعنده سمات مضادة للمجتمع، فيفضَّل تجنبه والتبليغ عنه.
أما طريقة التعامل مع النمط الثالث الذي يتأثر بالإعلام أو يسمع معلومات مغلوطة من أهله ويردد عبارات فيها جانب عنصري، أشرح لطفلي أنه في حال استمرَّ في ممارسة هذه الكلمات أن يطلب منه بشكل توكيدي حازم التوقف عن هذا التصرف.
أيضًا أعلِّم طفلي عن طريق التمثيل (لعب الأدوار) كيفية التصرف في كل موقف، أي ألعب الأدوار مع طفلي، وكأن هناك شخصًا مسيئًا أمامه وعليه أن يحلَّ مشكلته معه بذكاء وقوة.
أدرِّب الطفل على التحدث والدفاع عن نفسه دون تلقينه ما يفعل، بل من خلال نقاش حرّ، فلا أقول له افعل هذا ولا تفعل هذا، بل أسأله ماذا تفعل في هذا الموقف؟ لنخرج معًا بعدها بعدة طرق للتصرف الذكي القوي.
أحيانًا بعض العنصريين قد يقول كلمة ما لها عدة تأويلات فلا أردّ عليه، التجاهل ممكن، وأحيانًا أردّ عليه، إذا كان يقصد تمامًا ما يقول، أي يقول كلامًا عنصريًّا واضحًا، فأردّ بلغة توكيدية مثل “قف عند حدك – هذا شيء يجب ألا يُقال، هنا القانون لا يسمح فيه – نحن في دولة قانون ومؤسسات”.
أحيانًا ممكن أن تكون العبارة العنصرية تحتمل المزاح ولا تجرح، فحينها أقابل الموقف بالضحك، فهذا الشيء لا يؤذي.
ولنعلم كمربّين أن تقدير الذات عند الطفل هو أهم شيء يحميه، أي عندما أعمل على رفع تقدير الذات عند طفلي، فمهما رمى عليه العنصريون من العبارات السيّئة، سيكون لها أثر سيّئ لا شك، ولكن أثرها سيتضاعف عندما يكون تقدير الطفل لذاته منخفضًا، أي أن الطفل الذي يُضرَب في بيته سيكون وقع العنصرية عليه خارج بيته أشد، على سبيل المثال.
كيف أتعامل وأتحدث مع طفلي في حالة التعرُّض لاعتداء عنصري؟ كيف أعيد ترميم ثقته بالمجتمع؟
في حالة تعرّضَ طفلي لاعتداء عنصري من أحد لا سمح الله، يجب أولًا أن نعيد الحديث عن موضوع العنصرية، ونحاول أن نشرح للطفل السبب الذي جعل هذا الطفل الآخر أو الأستاذ أو أي أحد آخر يتصرف معه بعنصرية، ونشرح له الأشياء التي تعلّمناها وذكرناها سابقًا.
عندما يفهم الطفل الطرف الآخر قد يتعاطف معه حتى، لأنه يرى أن تصرفه ناجم عن موقف سيّئ تعرّض له من أحد اللاجئين مثلًا، ما جعله يتصرف بعنف، وبالتأكيد نحن نحاول أن نفسّر للطفل ولا نبرر، لأن العنصرية شيء بغيض وخاطئ تمامًا، وليس لها أي مبرر مهما كان.
ولكن نعمل على تفسير التصرف العنصري، ونبيّن أنه تصرف خاطئ مهما كان السبب، لأنه عمّمَ السوء على كل اللاجئين، وهذا التعميم خاطئ، ويجب أن نعلّم الطفل أن ليس كل الناس عنصريين، ونضرب له أمثلة تدلّ على أن التصرفات السيّئة تكون عادة محصورة بفئة محددة.
يختبر الأطفال أحيانًا أحداثًا أو خطابًا عنصريًّا ضمن بيئتهم أو يتلمّسون مخاوف وقلق أهلهم من العنصرية وتأثيراتها عليهم، كيف يمكن معالجة قلق الأطفال في تلك الحالات؟
دائمًا يكون علاج القلق والخوف عمومًا هو التعرض له، ومثله علاج القلق عند الأطفال من موضوع العنصرية والمتعلق بقلق الأهل، لأن الطفل خاصة دون الـ 10 سنوات هو تقريبًا جزء من نفسية الأب والأم، فأي شيء يطرأ على العلاقة بين الزوجَين أو على نفسية الأب ونفسية الأم، يتأثر الطفل به ويتفاعل معه.
ففي حال حصل قلق عند الأهل وانتقل إلى الطفل، يكون الحل بالتعرض، أي أتعرّض للمعلومات، وأفهم هذه العنصرية (كما طرحنا سابقًا)، وأفهم كم نسبتها بالإحصاءات العلمية، وأحضر للطفل معلومات صحيحة، ونقرأ معًا حول الموضوع.
أيضًا أتعلم حول القوانين الخاصة بالعنصرية، لأن القانون يحمي الناس عادة من العنصرية، ففهم القانون يساعد الطفل كثيرًا ويرشده كيف يتصرف، وأساعده بالتعرُّف إلى المدرسة والمرشد الطلابي لمساعدته، وأخبره بوجود شرطة خاصة لحماية الأطفال من العنف والإساءة، وأن يتعلم كيف يدافع عن نفسه دون أن يتسبّب في مشاكل أكبر تنعكس سلبًا عليه، أي بأسلوب ذكي وفق ما يسمح به القانون.
طبعًا هذا التدريب هو اللازم ويساعد في بعض الأحيان، لكن قد يكون القلق شديدًا وناجمًا عن صدمة تعرّض لها الطفل، هنا طبعًا بالحالات المتوسطة والشديدة، حين يدخل الطفل في حالة قلق تمنعه من الدراسة أو يرفض الذهاب للمدرسة.. إلخ، هنا ينبغي التحويل إلى المعالج النفسي أو طبيب نفسي مختصّ بهذه الحالات.
في عام 2016، أجرت الحكومة التركية تغييرات جذرية تجاه اللاجئين السوريين و قضية دمجهم في المجتمع، حيث أغلقت مراكز التعليم المؤقت، وبدأت بإرسال الأطفال السوريين إلى المدارس التركية، ويبلغ عددهم اليوم 750 ألف طفل يتلقّون تعليمًا تركيًّا، ومن ناحية أخرى نعلم أن المشترَكات بين الثقافتَين التركية والعربية واسعة على خلاف واقع اللاجئين في أوروبا، هل من توصيات خاصة بأهالي أطفال اللاجئين في تركيا تحديدًا؟
سؤال مهم جدًّا، طبعًا العرب والأتراك والبشر كلهم خلق الله سبحانه وتعالى، يجب أن يعي الجميع هذا الأمر، والعرب والأتراك لديهم تاريخ مشترك وحضارة مشتركة، وجميعهم مسلمون، وعاداتهم جدًّا متقاربة، والطعام متشابه وغيره.
هناك تقارب كبير جدًّا، وحتى كثير من الأتراك أصلهم عربي، وكثير من العرب أصلهم تركي، فالمهم هنا هو التخلُّص من الأفكار السلبية المسبقة تجاه بعضنا، حيث نحن كعرب وكأتراك لدينا أفكار مسبقة سلبية تجاه بعضنا، وهناك دعايات مشوّهة ينشرها بعض الناس على وسائل التواصل.
يجب عليّ كعربي أن أتعامل مع كل تركي على أنه إنسان ذو تجربة إنسانية فريدة، أن أتعرّف إليه كإنسان، بغضّ النظر عن أي شيء آخر، لأنه ربما يكون متعاطفًا معي، وربما يكون قد مرَّ بموقف سلبي مع أحد اللاجئين، وربما يكون لديه نقص معرفي عني، فأنا يجب أن أتعامل معه كتجربة فريدة.
أما واجبنا نحن كأهالي فهو أولًا تعلُّم اللغة وثانيًا تعلُّم اللغة وثالثًا تعلُّم اللغة، اللغة أهم شيء في عملية الاندماج، وبعدها تعلُّم ثقافة وعادات هذا الشعب، وتعلُّم الأمور الحساسة عندهم، وهي متوفرة كثيرًا على يوتيوب.
يجب أن يكون كل شخص منا مشروعًا لتصحيح الدعاية السلبية الموجودة في المجتمع، وأن نقدّر الوضع السياسي الحسّاس جدًّا في تركيا والعالم أجمع، ونعذر أحيانًا الدولة لاضطرارها لاتخاذ قرارات قاسية، فأحيانًا تضطر الحكومة التركية لاتخاذ بعض القرارات بما يحقق الاستقرار في تركيا، ومن الطبيعي أن يعمل الساسة أولًا لأجل بلدهم وشعبهم.
أخيرًا في التوصيات للأهالي، أؤكد مرة أخرى على تعلُّم اللغة بشكل أساسي وألا يكون موقفهم سلبيًّا مسبقًا أو أن يحملوا أفكارًا سلبية مسبقة، أيضًا يجب الانتباه إلى لغة الجسد وتأثيرها الكبير، فمن المهم جدًّا أن نعطي لبعضنا لغة جسد إيجابية وترحيبًا إيجابيًّا ومحبة بادية.
من المهم أن يشعر الإنسان الذي أقابله أنني أحبه كإنسان، كأخ لي في الإسلام أو في الدين، أو كأخ في الجغرافيا، أو كإنسان صاحب حضارة، وعندما نتعامل بهذه الطريقة بالتأكيد سينعكس بشكل إيجابي على أطفالنا، وعلى اندماجهم في المجتمع، وعلينا أيضًا وعلى اندماجنا في المجتمع.