ترجمة وتحرير: نون بوست
عندما وقف المستشار الألماني أولاف شولتز أمام برلمان بلاده في الأيام الأولى بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وأعلن عن “بداية حقبة جديدة” في السياسة الخارجية الألمانية، كانت بلاده متشوقة لذلك وكذلك كان مراقبو ألمانيا حول العالم. أعلن شولتز أن البلاد ستشرع على الفور في إعادة بناء جيشها وتزويد أوكرانيا بالأسلحة والتخلص من اعتمادها على روسيا في مجال الطاقة.
في أحد خطاباته، لم يقلب شولتز موازين عقود من السياسة الروسية فحسب بل غيّر أيضًا شروط ضبط النفس والسلمية الألمانية في الأمن والدفاع. أخذ شولتز زمام المبادرة دون استشارة أي شخص آخر إلا وزير ماليته متجاوزًا قادة حزبه الاشتراكي الديمقراطي، الذي يتمتع بسجل طويل في الدعوة إلى استرضاء روسيا. وللحظة وجيزة، بدا أن تحولًا دراماتيكيا يتبلور في المستقبل القريب
للأسف، لم يتحقق التحول المنتظر في برلين. وخلال الأسبوع الماضي، وصف المسؤولون والمراقبون الألمان خطاب شولتز بأنه لحظة عابرة من الزمن وليس تحولًا في المسار. وفي الواقع، لم يكن هذا بالأمر المفاجئ. قاد شولتز، رئيس بلدية هامبورغ السابق، حزبه إلى الفوز في انتخابات السنة الماضية من خلال تحلّيه بالسمات الهانزية من حيث الكفاءة والهدوء والحيطة ورباطة الجأش. بعبارة أخرى، روّج شولتز لنفسه على أنه نسخة أخرى من سلفه أنجيلا ميركل، التي اشتهرت بأسلوبها البسيط وإتقانها التكنوقراطي. وقد وعد شولتز، الذي يفتقر إلى الخبرة في الجغرافيا السياسية، بالقليل فقط من التجديد في السياسة الخارجية.
خدمت مهارات شولتز حملته بشكل جيد لكنها أثبتت أنها عائق خلال الحرب الأوروبية الكبرى. كوزير مالية سابق، كان رد فعل شولتز الأول بعد أن علم بالغزو الروسي هو إغراق المنطقة بالمال، بما في ذلك رصد تمويل بقيمة 100 مليار يورو (108 مليارات دولار) لدعم القوات المسلحة الألمانية. ومنذ خطابه الجريء، كان يميل بصفته اشتراكيًا ديمقراطيًا إلى محاولة التعامل مع تصرّفات روسيا بدلًا من مواجهتها.
حاول شولتز استبدال الإنفاق بالقيادة. كانت التداعيات على أوكرانيا وخيمة: ربما لم ينتصر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الحرب، لكنه قد يفوز بالسلام خاصة إذا تعاون شولتز مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي كان يضغط من أجل إنهاء الحرب بشروط مواتية، إذ يكفي أن بوتين نجا من أي “إذلال“. وتحقيقًا لهذه الغاية، سيسافر كل من شولتز وماكرون إلى كييف هذا الأسبوع مع رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراجي والرئيس الروماني كلاوس يوهانيس.
لطالما اعتقد بوتين أن ألمانيا جاهزة ليتم استغلالها. لفترة طويلة جدًا، افتخرت الطبقة السياسية الألمانية بنهجها الصبور والمتزن تجاه موسكو الذي تجاوز مخاوف وعواطف حلفائها في أوروبا الشرقية التي اعتبرتها غير ضرورية. وعلى مر السنين، صاغت برلين عددًا من الاتفاقيات والصيغ والنماذج التي اعتقدت أنها سترضي بوتين وتشبع جشعه. لم تكن ألمانيا تتصوّر أن غزو روسيا لأوكرانيا سيكون واسع النطاق، لذلك إما عارضت استراتيجية الردع باعتبارها عقبة أمام الحوار أو تجاهلت ميزان القوى بشكل تام.
تدور الشائعات في برلين بأن ما يحصل هو أمر متعمد: إذ أن شولتز لا يريد نشر أي صور للمعدات الألمانية التي تشتبك مع القوات الروسية.
لقد هزّ الغزو الروسي المجتمع الألماني بلا شك، حيث وصفت الصحافة الألمانية ما يحدث بأنه شبيه “بأحداث 11 سبتمبر“، حيث أشارت استطلاعات الرأي إلى حدوث تحول كبير في المواقف العامة. فعلى سبيل المثال، يؤيد 52 بالمئة من الألمان الآن استمرار نشر الأسلحة النووية الأمريكية في ألمانيا، بعد أن كانت النسبة في حدود 14 بالمئة فقط السنة الماضية.
عندما تقدم الشخصيات الرئيسية مثل وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بربوك، عضوة حزب الخضر، والبرلماني نوربرت روتغن من حزب الديمقراطيين المسيحيين المعارضين، دفاعات قوية عن أوكرانيا، فإنهم يمثّلون شريحة كبيرة من المجتمع. ولا يعتقد العديد من الألمان أن السلام المستدام في أوروبا قد يصبح ممكنًا دون انتكاسة خطيرة لروسيا وأهدافها الإمبريالية.
لكن ذلك لا يظهر من خلال السياسة الألمانية، مثلما حددها شولتز، الذي لم يفعل بالتأكيد ما فعله ماكرون، الذي اقترح أن تتخلى أوكرانيا عن أراضيها وحذر الغرب من محاولة “إذلال” بوتين. وكان رد الفعل الألماني على تصعيد بوتين وضع خطط دبلوماسية فرعية حتى لا يفرض نفسه بالقوة.
أجرى شولتز عدة مكالمات مع بوتين، كان آخرها مكالمة مشتركة مع ماكرون استمرت 80 دقيقة وأعطت الأولوية لوقف إطلاق النار وحل أزمة السلع العالمية. علاوة على ذلك، ورد أن شولتز تراجع عن وعده سابق بنشر قوات إضافية في ليتوانيا كجزء من مهمة الناتو لردع أي هجوم روسي على دول البلطيق. وعلى الأغلب، يرى بوتين أن مثل هذه التحركات تعبّر عن عزيمة الغرب الضعيفة، فعلى سبيل المثال، في الأيام التي أعقبت مكالمة شولتز لماكرون ضاعف بوتين هجماته على منشآت الحبوب الأوكرانية.
لا تزال المساعدة العسكرية الألمانية لأوكرانيا ضعيفة، وقد ورد أن برلين فشِلت في إمداد أوكرانيا بأي أسلحة في نيسان/ أبريل وأيار/ مايو ولم تسلّم حتى الآن أي سلاح ثقيل منذ بداية الحرب. ومع أنه من المتوقع أن يصل عدد قليل من الأنظمة الرئيسية إلى أوكرانيا في وقت لاحق هذا الصيف، فإن الجائزة الحقيقية، المتمثّلة في نظام متقدم مضاد للطائرات، لن تصل قبل هذا الخريف. ومن جهتها، تقدر المخابرات الألمانية أن روسيا ستكون قد أكملت بالفعل غزو دونباس بحلول ذلك الوقت.
تدور الشائعات في برلين بأن ما يحصل هو أمر متعمد: إذ أن شولتز لا يريد نشر أي صور للمعدات الألمانية التي تشتبك مع القوات الروسية. (لا يبدو أن الأسلحة الروسية المصنعة باستخدام أدوات وبرامج ألمانية تقتل الأوكرانيين تثير قلقًا كبيرًا في برلين).
يعدّ دعم الدبلوماسية وإهمال القوة الصارمة من الأمور المتجذّرة في السياسة الخارجية الألمانية، ولكن في حالة أوكرانيا، تتعقّد الأمور أكثر من ذلك. منذ نهاية الحرب الباردة، عاملت برلين أوكرانيا على أنها مجرد بند من بنود سياستها تجاه روسيا، وعندما قال الرئيس الروسي السابق ونائب رئيس مجلس الأمن الروسي الحالي، دميتري ميدفيديف، في الأيام التي سبقت الحرب أن الغرب سيتنحى جانبا لأنه يعتقد أن “روسيا أكثر أهمية من أوكرانيا”، كان يقصد ألمانيا على الأغلب. اعتادت وسائل الإعلام في برلين أن تضغط على شولتز ووزيرة الدفاع التابعة له، كريستينا لامبريشت، بشأن دعمهما لانتصار أوكرانيا، وهو هدف يرفض كلاهما تأييده.
أدت الحرب في أوكرانيا على الأغلب إلى زعزعة الجيش الروسي بشكل كبير، ولكن في حال بدا بوتين واثقًا، فذلك يعود لأن شولتز وماكرون يساعدانه نوعًا ما على انتزاع النصر من بين براثن الهزيمة
وحقيقة أن برلين غارقة في شائعات حول مفاوضات سريّة مع روسيا تشير إلى أن ألمانيا ستفضل تخييب أمل أوكرانيا على إذلال روسيا مهما تطلب الأمر. فعلى سبيل المثال، إذا اقترح بوتين رفع الحصار عن أوديسا مقابل تخفيف العقوبات أو وقف الهجمات العدائية مقابل فتح خط اتصال جديد، ستتزايد الأصوات الداعية إلى التسوية.
يقف وراء أنصار التسوية حليف غير متوقع وهو الولايات المتحدة الأمريكية، إذ تجنّب المسؤولون الأمريكيون مؤخرًا تأييد فوز أوكرانيا، تماما مثل شولتز ولامبريشت. بعد الاجتماع على انفراد مع نظرائهم الألمان، قطع كبار مسؤولي إدارة بايدن خطوة إلى الأمام، حيث صرحوا بوضوح بأن واشنطن أيضًا لا تهدف إلى تحقيق النصر. لم يكن تأييد إدارة بايدن لألمانيا تكتيكًا لإغراء برلين باتخاذ موقف صارم أكثر من كونه انعكاسًا للاتفاق العام بين الحكومتين.
من شأن هذا الموقف المتمثّل في الدعم الفاتر لأوكرانيا والحرص على إبرام صفقة مع بوتين على أمل عودة العلاقات والأعمال إلى نصابها أن يعيد أوروبا إلى الوراء بسنوات وربما حتى عقود. سرعان اكتشفت ألمانيا زيف النوايا الحسنة الأولية لتعليق خط أنابيب نورد ستريم 2 من طرف روسيا، خاصة أن أي صفقة بشأن أوكرانيا تتضمن تخفيف العقوبات واسترجاع شحنات النفط والغاز الكاملة.
من المؤكد أن أي صفقة من هذا القبيل ستقضي على أي تضامن وثقة متبقية يرتكز عليها الاتحاد الأوروبي. ورغم عدم تزعزعها بسبب الحرب بشكل مباشر، فإن دول أوروبا الشرقية مثل بولندا ودول البلطيق لن تنظر مستقبلا إلى الاتحاد الأوروبي بقيادة فرنسا وألمانيا على أنه مجتمع تسيّره القيم، بل باعتباره اتفاقا اقتصاديا يجمعه اليورو والسنت.
أدت الحرب في أوكرانيا على الأغلب إلى زعزعة الجيش الروسي بشكل كبير، ولكن في حال بدا بوتين واثقًا، فذلك يعود لأن شولتز وماكرون يساعدانه نوعًا ما على انتزاع النصر من بين براثن الهزيمة. وإذا كان الأمر كذلك، سيثبت أنه لم تكن هناك “بداية حقبة جديدة” في الواقع.
المصدر: فورين بوليسي