في مثل هذا اليوم من العام الفائت 2021 أعلنت الأمم المتحدة يوم 18 يونيو/حزيران “اليوم الدولي لمكافحة خطاب الكراهية” بعد طلب تقدمت به دولة المغرب، وتعرّف الأمم المتحدة خطاب الكراهية على أنه أي نوع من التواصل الشفهي أو الخطي أو السلوكي، ينطوي على تهجم أو يستخدم لغة سلبية أو تمييزية عند الإشارة إلى شخص أو مجموعة من الأشخاص على أساس هويتهم، أي على أساس دينهم أو عنصرهم أو جنسيتهم أو عرقهم أو لونهم أو نسبهم أو جنسهم أو أي عامل آخر يحددهم، وفي بعض السياقات، قد يكون مهينًا ومسببًا للانقسامات.
ويعد هذا التعريف “تعريفًا عمليًا” وليس قانونيًا دوليًا، إذ لا تزال خصائص الخطاب المنطوي على كراهية مثيرة للجدل ومتنازع عليها.
حرية التعبير وخطاب الكراهية
يرجع التردد في تحديد تعريف واضح لخطاب الكراهية أو إقرار قوانين تجرمه إلى الخوف على حرية التعبير وتوسع الحكومات في فرض العقوبات على المخالفين لها أو المعارضين، لأن لحرية التعبير أثرًا واسعًا على نشر المعرفة ومجابهة خطاب الكراهية، فلا يمكن المساس بها.
وحددت الأمم المتحدة اختبارًا من ستة أجزاء يحدد فيما إذا كان المحتوى يندرج ضمن سياق خطاب الكراهية، ويأخذ هذا الاختبار في اعتباره الأمور التالية:
1. السياق الاجتماعي والسياسي
2.حالة المتحدث
3. النية لتحريض الجمهور ضد مجموعة مستهدفة
4. المحتوى وشكل الخطاب
5. مدى نشر الخطاب
6. أرجحية الضرر، بما في ذلك الوشوك المحدق.
لم يكن الجدل بشأن الخط الفاصل بين حرية التعبير وخطاب الكراهية جدلًا حديثًا، بل يعود إلى الحرب العالمية الثانية، لكن يمكن القول إنه عندما تتحول حرية الشخص بالكلام والتعبير عن آرائه، إلى خطر يهدد شخص آخر أو يعرضه للإيذاء بسبب تعبيرات تصدر عن الطرف الأول، هنا ينتهي حق الطرف الأول في التعبير لأن خطابه تحول إلى خطاب كراهية يشجع على العنف.
مثال مبسط على الفرق بين حرية التعبير وخطاب الكراهية
خلال أزمة كوفيد 19، اعتبرت التصريحات السلبية عن طعام الصينيين وإظهار الاستياء والاشمئزاز من عاداتهم الغذائية، من ضمن خطاب الكراهية لأنه يعرض فئة من الناس (الصينيين) للخطر أو النفي والإقصاء.
دور خطاب الكراهية في التحريض على الإبادة الجماعية في رواندا
إن ارتكاب الإبادة الجماعية يتطلب اندماج فئة واسعة من الشعب في أعمال القتل، وهذا لا يتحقق دون تسميم عقولهم وإقناعهم بضرورة استخدام العنف، إذ يعمل المتطرفون على التقليل من شأن الضحايا باستخدام وسائل عديدة مثل الصور والكلام والدعاية الإعلامية، ما يجعل الشعب – الفئة المستهدفة من الدعاية – مخدرًا ومهووسًا بفكرة القضاء على تلك الطائفة التي يجري التحريض ضدها.
ونادرًا ما يتضمن خطاب الكراهية والتحريض الإجرامي تحريضًا صريحًا على القتل، بل عادة يتضمن دعوات غير مباشرة للقتل والتدمير، كما قد يستخدم أسلوب التخويف من الآخر وإيهام فئة من الشعب بأنهم معرضون للخطر.
“خطاب الكراهية كان مقدمة للجرائم الفظيعة، بما في ذلك الإبادة الجماعية، من رواندا إلى البوسنة إلى كمبوديا“.. أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة
في رواندا مثلًا وهي النموذج الأبرز لأثر خطاب الكراهية الواسع على وقوع الإبادة الجماعية، استخدمت البرامج الإذاعية لتشجيع شعب الهوتو على ارتكاب العنف، وعملت من خلال الدعاية المكثفة على التأثير على عقولهم ودفعهم لارتكاب جرائم وحشية ضد جيرانهم، أي برمجة عقولهم بطريقة معينة لاستخدام العنف ضد فئة من الشعب.
وتعد أعمال العنف التي حدثت في رواندا ضد أقلية التوستي ما بين شهري أبريل/نيسان ويوليو/تموز 1994 من أكبر مجازر الإبادة الجماعية التي حدثت عبر التاريخ، وأعلنت الأمم المتحدة يوم 7 أبريل/نيسان من كل عام يومًا لاستذكار ضحايا الإبادة الجماعية في رواندا.
ولا أدلّ على أن خطاب الكراهية كان من الأسباب المباشرة للجريمة بحق الإنسانية في الدولة الإفريقية، من إدانة المحكمة الخاصة برواندا لشخصيات إعلامية بموجب القانون الدولي للتحريض على الإبادة، إذ أكد ثلاثة من القضاة أن مؤسسي ومديري قنوات تليفزيونية وصحف “استخدموا المؤسسات التي يسيطرون عليها ونسقوا جهودهم باتجاه هدف مشترك: القضاء على التوتسي”.
خطاب الكراهية الذي تبناه نظام الأسد ضد المتظاهرين
وُصف المنتمون لأقلية “التوستي” في رواندا بـ”الصراصير” في سياق إقصائهم ونزع الإنسانية عنهم ومن ثم ارتكاب الإبادة الجماعية بحقهم، في سوريا أيضًا التي شهدت مذابح مروعة ومجازر طائفية متعددة، استخدم الرئيس السوري في خطابه الثاني بعد بدء المظاهرات في جامعة دمشق بتاريخ 20 يونيو/حزيران 2011، كلمة “الجراثيم” لوصف المتظاهرين السلميين في شوارع وميادين البلاد.
في وقت لاحق، ظهرت مصطلحات استخدمها رموز النظام السوري وإعلامه ومؤيدوه مثل المندسين والمخربين في محاولة لإقصاء الثوار ونفي صفة الوطنية عنهم وبالتالي تبرير العنف ضدهم وتصويرهم كأشخاص يتبعون لجهات خارجية.
“الإبادة الجماعية هي عملية وليست حدثًا. لم تبدأ بغرف الغاز، بل بدأت بخطاب كراهية“.. أداما ديانغ، المستشار الخاص للأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية
في ذات السياق وبعد أيام من بدء المظاهرات؛ ظهر العالم البارز محمد سعيد رمضان البوطي، الذي قُتل لاحقًا بتفجير أثناء درس ديني، عبر القنوات الرسمية التابعة للنظام ووصف المتظاهرين الذين اعتادوا الخروج بالمظاهرات يوم الجمعة من جوامع سوريا ومساجدها، بعبارة استخدمتها وسائل الإعلام السورية طويلًا في أفلامها وخطاباتها التحريضية على المتظاهرين، قائلًا: “لا تعرف جباههم السجود” في محاولة لنزع عنهم صفة التدين المجتمعي السائدة في البلاد.
أشارت الكاتبة نائلة منصور إلى تأثير تلك التوصيفات على النفس البشرية وعلى الإنسان السوري تحديدًا في سياق مقال لها في موقع الجمهورية: “حاول المنعوتون أن ينقلبوا على النعوت الإقصائية والتخوينية ويتبنوها في الإشارة لأنفسهم، كفعل مقاومة، غير أني لا أزال لا أصدق أن هذا الكلام غير مؤذٍ ولا يجرح حتى المنقلبين عليه، ولا “ينكز” إحساس القرف من الذات (Abjection) الذي تحدثت عنه سلوى اسماعيل في كتابها حكم العنف؛ القرف من الذات، بالمعنى الحرفي الجسدي للكلمة، الذي حكم السوريين عقود هو خطاب كراهية”.
خطاب الكراهية عبر التلغرام
في الوقت الذي وجد فيه الشباب بيئة جديدة للتعبير عن آرائهم بحرية بعيدًا عن سلطة الدولة والمجتمع، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لاحظنا تزايد ظاهرة التنمر وخطاب الكراهية عبر هذه المواقع، حيث كانت في الوقت نفسه بيئة خصبة لإصدار الأحكام ومهاجمة “الآخر” وبث خطاب الكراهية، ومنبرًا للمتطرفين لتجييش الرأي العام بمعلومات مضللة وأخبار مجتزئة من سياقها.
وبينما تُخضع معظم شبكات التواصل الاجتماعي محتواها لقوانين ومعايير تتناسب مع الدول المتاحة فيها، وبالتعاون مع الحكومات، يبدو الأمر مختلفًا مع تطبيق تلغرام الذي يغرد خارج السرب، وكان يعد متنفسًا للناس في الدول الأكثر تشددًا، حتى بدأ الأمر يخرج عن السيطرة ويصبح وجهة أساسية للمتطرفين حول العالم، كما حدث في ألمانيا خلال أزمة كوفيد-19 وحركات الشغب ضد الإجراءات الاحترازية.
عودة لسوريا، وبعد خمسين عامًا من استبداد الأسد وأكثر من عشر سنوات من الحرب المفتوحة وسقوط عشرات البلدات بأيدي الدواعش والمليشيات الكردية، ما زال خطاب الكراهية سائدًا في خطابات السوريين العامة ويستخدم للتحريض ضد الشخصيات العامة والمؤسسات العاملة أو فئات المجتمع الأخرى.
وتتجلى إحدى مظاهره في محتوى قنوات التلغرام المتخصصة بمتابعة الأخبار اليومية في الشمال السوري، حيث يُعتقد أن كثير من هذه القنوات موجهة من المخابرات السورية لنشر الفتن داخل المجتمع وإسقاط الرموز والتحشيد ضد المنظمات العاملة في المنطقة.
حيث وقعت جريمة شرف منذ بضعة أشهر بعد أن نشر أحد الشباب صورًا لفتاة في مجموعة تلغرام نشطة، ومنذ أيام استهدفت سيارة مدير منظمة IYD الإنسانية العاملة في الشمال السوري “عامر الفين” بعبوة ناسفة أدت لوفاته، بعد حملة تشهير واسعة، فيما نجا مدير مكتب فريق ملهم في مدينة الباب من محاولة اغتيال قبل عدة أشهر، ويتعرض الفريق باستمرار لحملات تحريض واتهام بالسرقة والخيانة من قنوات تلغرام وغيرها، ومنها ما نُشر على إحدى القنوات قبل أيام بما يشبه التهديد لمدير الفريق.
يستغل القائمون على مشاريع الفتنة الآثار الكارثية لخطاب الكراهية على حياة الأفراد فيبتزون الأشخاص في الشمال السوري بعد تهديدهم بالنشر عنهم أو دفع مبالغ مالية مقابل عدم النشر.
منهاج الإسلام في مواجهة خطاب الكراهية
لعقود طويلة كان المسلمون أحد ضحايا خطاب الكراهية، وكانت المدن الأوروبية والأمرييكية ساحة لكثير من العمليات الإجرامية ضد المسلمين بتأثير من خطاب الكراهية المنتشر والمتزايد ضد الإسلام في الغرب.
لكن أيضًا كان الإسلام عرضة للاتهام بأنه دين يحض على الكراهية خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول وظهور التنظيمات المتطرفة التي استخدمت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تبريرًا لعملياتها.
إن الدعوة في الخطاب القرآني كانت دومًا نحو القول الحسن لجميع البشر بغض النظر عن الجنس أو العرق أو الانتماء {وَقُولُوا لِلنَاسِ حُسْنًا} البقرة 83 وفيه أيضًا يخاطب الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنتَ فَظًا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُوا مِنْ حَوْلِكَ} آل عمران 159، وأيضًا يشير لأسلوب الدعوة للإسلام بالرفق واللين {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَتِي هِيَ أَحْسَنُ} النحل 125، وفي صفات المؤمنين عباد الرحمن يذكر القرآن من صفاتهم التلطف بالكلام حتى مع خصومهم {وَعِبَادُ الرَحْمَٰنِ الَذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} الفرقان 63.
وفي دراسة تحليلية بعنوان منهاج الإسلام لمناهضة خطاب الكراهية، ذكر الباحثان أسلوب القرآن الكريم في خلق الحوار مع الآخر المخالف بالقول الجميل والخطاب اللين والأسلوب المرن، وألا يستخدم المسلم الألفاظ الجارحة أو يحمل حقدًا أو كراهة للآخر، ومثال هذا قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَهُ عَنِ الَذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَ اللَهَ يُحِبُ الْمُقْسِطِينَ} الممتحنة 8.
كما حثَ الإسلام المسلمين دومًا على الانتباه لأقوالهم قبل أفعالهم، وفي النص الإسلامي كثير من التنبيه على آفات اللسان وشهوة الكلام عند الإنسان، قال تعالى {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ق 18.
كيف يواجه الأفراد انتشار خطاب الكراهية؟
تكون البداية دومًا بنشر الوعي والتعليم، لأن المرء عدو ما يجهل، ولأن نقص المعرفة والجهل من أهم أسباب الكراهية، حيث تعمل فئة صغيرة من الناس على تحريض فئات واسعة على الكراهية والعنف، لتحقيق أهداف ومكاسب فئوية، وهذا ما يفعله السياسيون عادة، إذ يتنامى الخطاب العنصري عادة وكل مرة قبيل الانتخابات أو عند التعرض لأزمات اقتصادية.
تشير مبادرة “تحدي الكراهية” إلى جملة من التدابير التي يمكن القيام بها لمواجهة خطاب الكراهية، وهي:
– بناء خطاب مضاد للكراهية وذلك عبر “إنشاء مساحة للنقاش المفتوح والتحاور يسمح لنا بتكوين فهم لبعضنا البعض وإدراك قيمة الأمور المشتركة”.
– ارفع صوتك في مواجهة الكراهية، عبر ممارسة “الضغط على السياسيين البارزين وغيرهم من الشخصيات العامة للوقوف بدورهم في وجه الكراهية ومعارضتها”.
– الاصغاء والاستفهام والمشاركة البناءة، من خلال تجنب الإساءة والمواجهة المباشرة مع معتنقي خطاب الكراهية، لأنه قد يدفعهم للتثب بآرائهم.
– تلقف المعلومات بطريقة نقدية، فـ”كلما تمكنت من البحث والتشكيك في مصدر المعلومات المطروحة ودقة ما يقال والتحيزات التي قد تكمن وراء عرضها، تعرفت بفعالية أكبر على الخطاب التمييزي وسلطت الضوء عليه.”
وإذن، فمن المهم جدًا التعرف على آلية عمل “خطاب الكراهية” والمحرضين عليه وأهدافهم والتشكيك بمعلوماتهم ومصادرها.
ولا بد أيضًا من الوقوف ضد الخطاب العنصري والتمييزي وتشجيع الآخرين على المشاركة في التضامن مع الفئات المعرضة للكراهية، ومطالبة الحكومة بمحاكمة المجرمين والمنفذين لاعتداءات عنصرية وفق قوانين الجرائم العنصرية وليس كجرائم جنائية.