تسير معدلات عمالة الأطفال في العالم بصورة متزايدة أثارت قلق المؤسسات الأممية المعنية التي ترى في تلك الظاهرة خطرًا ينتهك حقوق النشء ويقوض جهود الدول التنموية، فضلًا عما تحمله من تهديدات حقيقية لمستقبل العنصر البشري، الضلع الأبرز في مخططات التنمية الدولية.
وقفز عدد الأطفال العاملين في العالم إلى 160 مليون طفل، بزيادة بلغت خلال السنوات الأربعة الماضية فقط 8.4 مليون، مقارنة بـ94 مليون عام 2000، في ظل التوقعات التي تشير إلى زيادة تلك الأعداد مستقبلًا بحسب تقرير منظمة العمل الدولية واليونيسف.
وتحتل الزراعة وفق التقرير المجال الأكثر استيعابًا لعمالة الأطفال، إذ تستحوذ على 7% من إجمالي الأطفال العاملين بمعدل 112 مليون طفل، يليها قطاع الخدمات بـ31.4 مليون بنسبة 20% ثم مجال الصناعة بـ16.5 مليون طفل بما نسبته 10%، فيما تبلغ نسبة الأطفال العاملين في الفئة العمرية 5 – 11 سنة قرابة 28%، أما من هم خارج المدرسة فتبلغ نسبتهم 35%، وتنتشر تلك الظاهرة في المناطق الريفية 3 أضعاف ما هي عليه في المدن.
وعلى المستوى الجغرافي تحتل قارة إفريقيا النصيب الأكبر من عمالة الأطفال بالعالم بمعدل 80 مليون طفل، تليها منطقة آسيا والمحيط الهادئ فى المرتبة الثانية بنحو 62 مليون طفل، الأمر الذي دفع المعنيين بحقوق الأطفال لدق ناقوس الخطر في 12 يونيو/حزيران كل عام، بصفته اليوم العالمي لمكافحة عمالة الأطفال.. فما واقع القارة السمراء إزاء تلك الظاهرة وعوامل انتشارها ومساعي السيطرة عليها؟
ظاهرة إفريقية مقلقة
يمثل الأطفال العاملون في إفريقيا 20% من إجمالي أطفال القارة، وهي النسبة التي تزيد 200% عن متوسطها العالمي، 9% منهم يعملون في مجالات شديدة الخطورة، فيما ينخرط أكثر من 90% من العاملين في أنشطة زراعية أو أنشطة مماثلة، كما أن 75% من الأطفال العاملين يندموجون في المجالات التي تزاولها أسرهم.
ووفق مؤشر تصنيف أسوأ الدول من حيث عمالة الأطفال الصادر عن شركة “Maplecroft” للاستشارات الدولية عام 2018، جاءت 6 دول إفريقية ضمن قائمة العشر الكبار، أبرزهم إريتريا التي تحتل المرتبة الأولى عالميًا في هذا المؤشر، إذ تفرض الحكومة هناك على الأطفال من 9 – 11 عامًا العمل في الزراعة والخدمات العامة، هذا بخلاف إجبارهم على برامج التدريب العسكري الإلزامي.
وفي المرتبة الثانية يأتي الصومال، إذ إن 39.8% من الأطفال الصوماليين بين 5 – 14 عامًا، بما نسبته مليون طفل تقريبًا، ينخرطون في سوق العمل، معظمهم في مجال تربية الماشية والزراعة والبناء والتعدين، هذا بخلاف الزج بهم في النزاعات المسلحة والأنشطة غير القانونية والاستغلال الجنسي والاتجار بهم.
وتحل جمهورية الكونغو الديمقراطية ثالثًا في المؤشر العالمي، حيث هناك 3 ملايين طفل يعملون في قطاعات الصناعة ومناجم الذهب والخدمات بجانب الزراعة، أما السودان فيأتي في المرتبة الخامسة عالميًا والرابع إفريقيًا، بنسبة 45.6% من إجمالي الأطفال تتراوح أعمارهم بين 10 إلى 14 عامًا ينخرطون في العمل، فيما هناك 31.5% من الأطفال لا يذهبون إلى المدرسة، ويعمل في الزراعة نحو 60.2% من الأطفال العاملين، مقارنة بـ38.2% في قطاع الخدمات.
تحتل إريتريا المرتبة الأولى عالميًا في مؤشر أسوأ الدول من حيث عمالة الأطفال، إذ تفرض الحكومة هناك على الأطفال من 9 – 11 عامًا العمل في الزراعة والخدمات العامة
ثم تأتي زيمبابوي ثامنًا في المؤشر العالمي حيث يعمل قطاع كبير من الأطفال هناك في مزارع القطن وقصب السكر والشاي، بالإضافة إلى صيد الأسماك والتعدين والتسول، وفي المرتبة العاشرة أطفال بوروندي الذي يعمل أغلبهم في المنازل والمزارع في بلد يقع أكثر من 68% من سكانه تحت خط الفقر.
ويعرف الناشط في حقوق الطفل هاني هلال، عمالة الأطفال التي وصفها بالجريمة بأنها “كل عمل ضار بصحة الطفل أو بنموه أو رفاهيته، فيضع أعباءً ثقيلةً على الطفل ويهدد سلامته وصحته ورفاهيته ويستفيد من ضعف الطفل وعدم قدرته على الدفاع عن حقوقه”.
وقسم العمالة في هذا المسار إلى ثلاثة أقسام: “التي عرفت دوليًا بالاستعباد والاتجار بالبشر والعمل سدادًا للدين وسائر أشكال العمل الجبري، إلى جانب توظيف الأطفال جبرًا لاستخدامهم في النزاعات المسلحة وأعمال الدعارة والأعمال الإباحية والأنشطة غير المشروعة، أو العمل الذي يؤديه طفل دون الحد الأدنى للسن المخول لهذا النوع من العمل بالذات، والعمل الذي من شأنه إعاقة تعليم الطفل ونموه التام، كذلك العمل الذي يهدد الصحة الجسدية والفكرية والمعنوية للطفل أكان بسبب طبيعته أو بسبب الظروف التي ينفذ فيها، أي ما يعرف بمصطلح العمل الخطر”.
بين رحى الفقر والنزاعات المسلحة
في دراستها المنشورة على موقع “مركز فاروس للاستشارات والدراسات الإفريقية” الإلكتروني، استعرضت أستاذ الاقتصاد بكلية الدراسات الإفريقية بجامعة القاهرة، سالي فريد، أبرز الأبعاد المتعلقة بتفشي تلك الظاهرة في القارة، لافتة إلى أن البيئة الاجتماعية والاقتصادية الإفريقية بصفة عامة مهيأة تمامًا لانتشار العمالة بين الأطفال.
وتقول الباحثة إن الفقر وتبعاته من فقدان فرص التعليم وسوء التغذية وغياب مقومات الحياة الأدمية يأتي على رأس أسباب لجوء الأسر للزج بأطفالها للعمل من أجل المساعدة في كلفة العيش في ظل أوضاع اقتصادية متردية، إذ إن أغلب الأسر في القارة لا سيما دول الجنوب والغرب والوسط تدفع بصغارها للعمل في سن مبكرة حتى تحول معظمهم إلى العائل الأبرز لها.
وفي السنوات الأخيرة عززت جائحة كورونا وتداعياتها الاقتصادية فضلًا عن التغيرات المناخية وكوارثها بجانب أزمات الاقتصاد العالمي من سيولة وتضخم وارتفاع أسعار، في زيادة عدد الأطفال العاملين داخل القارة، ففي السنوات الأربعة الأخيرة فقط زاد العدد إجمالًا لأكثر من 8 ملايين طفل.
ومن الفقر إلى النزاعات المسلحة والصراعات الدينية في مناطق التوترات، التي كان لها دور كبير في انتشار الظاهرة، فعلى سبيل المثال في جمهورية إفريقيا الوسطى فقد شهدت خلال الآونة الأخيرة زيادة أعداد الأطفال المجندين في الصراعات الدينية (تجاوز العدد 6 آلاف شخص) التي كان لها أثرها الكبير في تشويه نفسية النشء في البلد بأكمله، الوضع كذلك في جنوب السودان وأوغندا ومالي والصومال وتشاد.
آثار اقتصادية ونفسية مشوهة
تشير الدراسات الاجتماعية إلى أن لعمالة الأطفال دورًا كبيرًا في تشويه نفسيتهم بصورة خطيرة، تفقدهم معها شعورهم بالأمان وقيمة الحياة، وتحولهم إلى مجرد أدوات لجلب المال دون أدنى أحساس طفولي يؤهل نحو بناء شخصية قادرة على العطاء مستقبلًا.
ولهذا التشويه مخاطره المستقبلية، حيث تهديد العنصر البشري الذي بلا شك سيفقد جزءًا كبيرًا من مقوماته ومؤهلاته ويصبح الأكفاء عملة نادرة وسط انتشار العمال الصغار، وهو ما يمكن أن يزيد من معدلات البطالة كذلك بين النخبة من المؤهلين لسوق العمل في ضوء سياسة العرض والطلب.
وبحسب علماء الاقتصاد فإن عمالة الأطفال تنعكس بطبيعة الحال على متوسط الدخول والأجور، فكلما زاد عدد الأطفال العاملين، قل متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي، والعكس صحيح (ترتفع معدلات الأطفال العاملين بين 30-60% في الدول التي تقل فيها الدخول عن 500 دولار، مقارنة بـ500- 1000 دولار في البلدان التي تتأرجح فيها نسبة الأطفال العاملين بين 10 – 30%).
وعليه فإن زيادة تلك المعدلات ينبثق عنها في الغالب تسرب من التعليم وفقدان أبجديات مقومات صناعة المورد البشري، وهو الخطر الذي يحدق بمستقبل تلك البلدان التي في الغالب لن تخرج في تلك الوضعية عن مستقنع الصراعات والنزاعات الداخلية، ومن ينجو منها يُزج به قهرًا إلى آتون الاستدانة والفقر وفقدان السيادة والاستقلال.
الخروج من المأزق
تنقسم جهود التقليل من نزيف عمالة الأطفال إلى قسمين: الأول يتعلق بالمستوى الداخلي، الأسري والحكومي، ويتمحور في القضاء على أسباب تفشي الظاهرة من الأساس من خلال تحسين الأوضاع المعيشية وتطويق الفقر وتحسين جودة التعليم وتقليم أظافر البطالة بجانب التوعية الجيدة والتنشئة الاجتماعية القويمة، هذا بخلاف نزع فتيل النزاعات الطائفية والعرقية الداخلية ووأد ظاهرة تجنيد الأطفال واستغلالهم في تلك الصراعات، كل هذا لا بد أن يكون تحت مظلة تشريعية متماسكة تضع الطفل على قائمة أولوياتها كونه ضلع المستقبل الأبرز الذي تعول عليه البلاد في تقدمها.
أما القسم الثاني فخاص التحركات الدولية العالمية، وأبرزها مبادرات تحسين بيئة التعليم والتدريس ومساعدة الأبوين ووضع عشرات المبادرات للقضاء على الفقر في البلدان النامية، وتهيئة المناخ المناسب لتنشئة الأطفال تنشئة قويمة على أسس منهجية تحت إشراف أممي.
علاوة على وضع حزمة من القوانين الدولية التي تجرم استغلال الأطفال في الحروب المسلحة والنزاعات الطائفية، وتوقيع أقصى العقوبة على الحكومات التي تصمت على تفشي تلك الظاهرة لديها، مع تقديم محفزات مغرية للدول التي تبقي على معدلات عمالة الأطفال دون زيادة أو تقلصها قدر الإمكان.
جدير بالذكر أن هناك عشرات القوانين الصادرة للحد من عمالة الأطفال أبرزها: قانون معايير العمل العادلة 1938، اتفاقية الحد الأدنى لسن العمل 1973 التي صادقت عليها 172 دولة عالميًا، اتفاقية حقوق الطفل 1989، تأسيس البرنامج الدولي للقضاء على عمل الأطفال (IPEC) 1992، اتفاقية أسوأ أشكال عمل الأطفال التي صادقت عليها 186 دولة في العالم 1999، إعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة بأن عام 2021 هو العام الخاص بالقضاء على عمل الأطفال، فضلًا عن خطة التنمية المستدامة للأمم المتحدة التي أشارت في هدفها الثامن إلى القضاء على كل أشكال عمل الأطفال في عام 2025، لكنها لم تكن كافية لوأد تلك الظاهرة التي تزداد عامًا تلو الآخر.
وفي الأخير.. فإن المنحنى بخطواته الأخيرة يشي إلى مستقبل غامض في انتظار القارة، فموردها البشري على المحك في ظل اغتيال براءة الصغار والزج بهم في آتون سوق العمل القاسي بدلًا من تهيئتهم لقيادة قاطرة التنمية، يعزز ذلك المناخ الاقتصادي والسياسي والأمني المضطرب، بما يجعل تسليط الضوء على هذا الملف وإعطاءه الأولوية القصوى في قائمة أولويات القارة المشتتة مسألة أمن قومي، أولوية تترجم إلى خطط ومناهج لها إطار ظرفي وزمني واضح بدلًا من الشعارات التي ترفعها الحكومات كل عام للاستهلاك المحلي وللتعاطي مع اليوم العالمي الذي أقرته الأمم المتحدة للقضاء على تلك الظاهرة.