أسدل الستار على انتخابات النقابة العامة التابعة للاتحاد العام لعمال مصر التي أجريت في 16 يونيو/حزيران الحاليّ، وأسفرت عن فوز 19 من رؤساء تلك النقابات بالتزكية مقابل ثمانية رؤساء فقط فازوا عبر الانتخاب، وسط تساؤلات عن الأجواء التي جرت فيها العملية الانتخابية.
ويرى كثيرون أن الانتخابات التي جرت في 29 نقابة، 27 منها تابعة للاتحاد العام لنقابات عمال مصر بجانب نقابتين مستقلتين “النقل والمواصلات” و”الإسعاف”، لا تعكس قرار العمال والأعضاء في ضوء افتقادها للحد الأدنى من النزاهة والشفافية، لتصبح حلقة جديدة في ترس وأد المجتمع المدني المصري القابع في مستنقع التسييس منذ سنوات.
وأسفرت النتائج العامة عن فوز 9 وجوه جديدة بمناصب رؤساء نقابات، فيما احتفظ 18 رئيسًا نقابيًا حاليًا بمناصبهم، ويعد من أبرز الراحلين رئيس اتحاد العمال الحاليّ جبالي المراغي، في ظل غياب إعلامي ملحوظ وتجاهل واضح من أعضاء النقابات عكس ما كانت تشهده تلك الكيانات في السابق، إذ كانت تعد واحدة من أشرس الانتخابات في المنطقة وكان يعول عليها في تقديم صورة ديمقراطية للمشهد المصري تعويضًا عن فساد الانتخابات البرلمانية.. فما الذي تغير؟
التضييقات الأمنية كلمة السر
أرجع الخبراء والعاملون على حد سواء غياب المنافسة وفقدان شغف المشاركة وتراجع الثقة في النتائج النهائية في الانتخابات العمالية إلى التضييقات الأمنية الممارسة على العملية منذ تقديم أوراق الترشح وحتى الموافقة على القوائم النهائية مرورًا بالدعاية والترويج وعقد اللقاءات والندوات وغيرها.
الباحث في دار الخدمات النقابية والعمالية، حسين المصري، يعلق على فوز 19 من رؤساء النقابات بالتزكية بأن هذا النوع من الفوز هو تعبير حقيقي عن غياب المنافسة الذي أرجعه إلى “استبعاد الكثير من المرشحين من المرحلة السابقة للانتخابات على عضوية اللجان النقابية ورؤسائها، الذين يتشكل منهم لاحقًا الجمعيات العمومية للنقابات العامة التي يحق لأعضائها الترشح على مجلس إدارة النقابات العامة ورئاستها” بحسب تصريحاته لموقع “مدى مصر“.
وعزا المصري موجة الاستبعادات الأخيرة إلى ما أسماه “الأدوات الإدارية والأمنية” التي تم فرضها لاستهداف أسماء بعينها، لها ثقل عمالي كبير، لكنها إما أنها لم تغرد ضمن السرب وإما أنها رفضت الرضوخ للأوامر العليا، وفي المقابل يتم الزج بشخوص محددة لها صلات قوية بالإدارة العليا ومرضي عنها أمنيًا، ما يجعل المخرجات العامة للانتخابات غير معبرة بالمرة عن المزاج العمالي العام.
يشكل قانون التنظيمات النقابية الصادر في ديسمبر/كانون الأول 2017 وتعديلاته في 2019 حجر عثرة أمام النزاهة الانتخابية النقابية، فالقانون يتضمن حزمة من العراقيل والتحديات التي تجعل من العدالة في الانتخابات العمالية مسألة بعيدة تمامًا عن الواقع
ويتفق آخرون مع الباحث في الخدمات العمالية بشأن سيطرة الأمن على العملية الانتخابية النقابية في مراحلها كافة، بدءًا من انتخابات عضوية ورئاسة اللجان النقابية في الشركات، تليها عملية تمثيل لتلك الشركات في الجمعيات العمومية للنقابات العامة، وآخرها مرحلة انتخاب رئيس الاتحاد العام لنقابات عمال مصر.
وفي السياق ذاته يشير النقابي “سيد ب” (25 عامًا في العمل النقابي) إلى أن التدخلات الأمنية في الانتخابات العمالية موجودة منذ عقود، إبان فترة مبارك، لكنها كانت في نطاق ضيق نسبيًا يتمثل في دعم الحكومة لمرشح بعينه مع إعطاء متنفس ولو ضئيل لبقية المنافسين، وعليه كان التنافس قويًا بين عدة قوائم، مقارنة بما بات عليه الوضع الآن، من فرض قائمة موحدة مدعومة من الدولة دون وجود قوائم منافسة، ما يعني أن الفوز سيكون بالتزكية في أغلب الحالات.
وأضاف النقابي المخضرم في حديثه لـ”نون بوست” أن الحالة العامة اليوم تجهض أي محاولات للمنافسة بين المرشحين، فلا يجرؤ أحد على الترشح أمام القائمة المدعومة من الحكومة التي يصورها البعض بأنها المرضي عنها أمنيًا، ولها وحدها حق تنظيم المؤتمرات واللقاءات، في الوقت الذي تفرض فيه تضييقات على الباقي، إذ يتطلب الأمر موافقات أمنية وشروط إدارية معقدة تغيب معها العدالة في الدعاية الانتخابية، بجانب بعض الأساليب الأخرى كالمنح والمساعدات (الرشاوى الانتخابية) التي تستقطب معها شريحة ليست بالقليلة من العمال، لافتًا إلى أن كل تلك الأجواء تجهض العملية الانتخابية من مضمونها وتحولها إلى ما يشبه “المسرحية الهزلية” على حد قوله.
قانون التنظيمات النقابية.. علامة استفهام
يشكل قانون التنظيمات النقابية الصادر في ديسمبر/كانون الأول 2017 وتعديلاته في 2019 حجر عثرة أمام النزاهة الانتخابية النقابية، فالقانون يتضمن حزمة من العراقيل والتحديات التي تجعل من العدالة في الانتخابات العمالية مسألة بعيدة تمامًا عن الواقع.
ومن أبرز تلك العراقيل اشتراط 50 عاملًا لتشكيل لجنة نقابية وهو التعديل الذي جرى في 2019 للمادة الأولى في القانون التي كانت تنص في السابق على أن يكون الحد الأدنى 150 عاملًا، مع العلم أن توصية منظمة العمل الدولية تشير إلى أن الحد الأدنى لتشكيل أي لجنة نقابية 20 عاملًا فقط.
بجانب اشتراط ألا يقل عدد أعضاء النقابة العامة عن 20 ألف عامل، وهو رقم صعب تحقيقه في مصر، إذ إن 70% من العمال المصريين يعملوا في أماكن لا يتجاوز عدد عمالها 100 عامل، وبالتالي فإن تلك النسبة لن تستطيع تشكيل لجنة نقابية ومن ثم لن تجد من يمثلها نقابيًا.
كما تنص المادة 67 من القانون على أن “يُعاقب بغرامة لا تقل عن خمسين ألف جنيه ولا تزيد على مائتي ألف جنيه، كل شخص شارك في تأسيس، أو إدارة منشأة، أو جمعية، أو جماعة، أو منظمة، أو رابطة، أو هيئة، أو غير ذلك، وأطلق عليها دون وجه حق في مكاتبات أو في لوحات، أو في إعلان، أو إشارة، أو بلاغ موجه إلى الجمهور، اسم إحدى المنظمات النقابية العمالية، أو مارس أي نشاط نقابي تقتصر ممارسته على أعضاء مجالس إدارة المنظمات النقابية العمالية، وذلك وفقًا لأحكام هذا القانون)، فيما نصت المادة 76 على أن “يعاقب بغرامة لا تقل عن 50 ألف جنيه ولا تزيد على 100 ألف جنيه، كل من خالف الحظر المنصوص عليه، ويحكم بمصادرة أي أموال أو أشياء تحصلت عن ذلك، وتضاعف العقوبة في حالة العود”.
وصلت الانتهاكات العمالية خلال العام الماضي إلى 8041 انتهاكًا حسبما رصدت دار الخدمات النقابية والعمالية (مستقلة)، تصدرها “تأخر صرف الرواتب” إذ مثلت 2891 انتهاكًا بما نسبته 53.9% من إجمالي تلك الانتهاكات، يليها “عدم وجود دار حضانة” بواقع 2190 انتهاكًا بما نسبته 27.2%
انتهاكات بالجملة
وضعت الدولة شروطًا مجحفةً بشأن حق الإضراب للعمال المصريين، ورغم مشروعية هذا الحق في قانون العمل الحاليّ، فإن المادة 192 أقرت تضييقات تعجيزية تحظر الإضراب وتحظره في المنشآت الإستراتيجية والحيوية التي يترتب على توقف العمل فيها بحسب المادة 194 “الإخلال بالأمن القومي أو بالخدمات الأساسية التي تقدمها للمواطنين”.
ووفق القانون، فالعمال ملزمون “بإخطار كل من صاحب العمل والجهة الإدارية المختصة قبل موعد الإضراب بعشرة أيام على الأقل، على أن يتضمن الإخطار الأسباب الدافعة للإضراب والمدة الزمنية المحددة له”، وهو ما يتعارض شكلًا ومضمونًا مع الهدف من الإضراب الذي يتمثل في الضغوط على صاحب العمل.
وبلغ الانتهاك مداه في المادة 69 من القانون ذاته التي تجعل من مخالفات اللوائح والتعليمات السابقة، أو أيًا منها، أحد الأسباب التي تُجيز لصاحب العمل فصل العامل من وظيفته دون المثول أمام جهات التحقيق، وهو ما وضع العمال تحت مقصلة الإدارات دون ممارسة حقهم في الاعتراض أو الإضراب رغم شرعية ذلك قانونًا.
ونتاجًا منطقيًا لتلك التضييقات والقانون (التفصيلي) المعدل قبل 3 أعوام، تزايدت الانتهاكات بحق العمال، فوصلت خلال العام الماضي إلى 8041 انتهاكًا حسبما رصدت دار الخدمات النقابية والعمالية (مستقلة)، تصدرها “تأخر صرف الرواتب” إذ مثلت 2891 انتهاكًا بما نسبته 53.9% من إجمالي تلك الانتهاكات، يليها “عدم وجود دار حضانة” بواقع 2190 انتهاكًا بما نسبته 27.2%.
فيما شهد 2021 قرابة 254 حالة فصل تعسفي، بينها 253 حالة في القطاع الخاص وحالة واحدة في قطاع الأعمال العام، تصدرتها المنشآت الصناعية بواقع 84 حالةً فصل تعسفي، تلاها قطاع السياحة بـ131 حالة وقطاعات أخرى 38، وأخيرًا التعليم بحالة واحدة في إحدى المدارس الخاصة، هذا بجانب 214 حالة إكراه على تقديم الاستقالة في المنشآت الصناعية، بواقع 14 حالة في القطاع الخاص و200 حالة في قطاع الأعمال العام.
وفي ظل تلك الأوضاع المأساوية للعمال ونقاباتهم قبعت مصر في “القائمة السوداء” لمنظمة العمل الدولية (وهي القائمة التي تضم الدول التي تنتهك اتفاقيات العمل الدولية والحقوق والحريات النقابية) أكثر من مرة خلال السنوات الماضية أبرزها عام 2008 بسبب إغلاق دار الخدمات النقابية، ثم في 2010 بسبب تعهد الحكومة وقتها بتغيير قانون النقابات وهو ما لم يحدث، تلاها مرة أخرى في 2013 وقت حكم جماعة الإخوان للسبب ذاته وإصرار الحكومة على قانون النقابات الحاليّ الذي يخالف الاتفاقيات التي وقعت مصر عليها، ومرة أخرى في مايو/أيار 2017 بسبب خنق الحريات النقابية والتأخر في إصدار قانون النقابات.
في ضوء ما سبق، فإن المناخ العام للنقابات العمالية في مصر يسير في خطين متوازيين، خط تشريعي يعكس صورة إيجابية وفي الغالب يغازل به الخارج، وآخر واقعي يوثق انتهاكات بالجملة، ليجد الفصيل الأكبر في تكوين النسيح الوطني المصري (29.1 مليون عامل وفق إحصاء الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء) نفسه أكثر الفئات تعرضًا للانتهاكات والقهر في ظل هذه البيئة غير الملائمة التي تسيطر عليها القبضة الأمنية المشددة التي حولت المجتمع المدني إلى أداة لخدمة أجندة النظام الحاكم السياسية.