لطالما أنفق أهل غزة أموالهم إبان أي عدوان إسرائيلي على جلب الجرارّات، أو العربات التي تجرها الحمير، لإزالة الأنقاض والبناء من جديد، بيد أن هذا تغيّر إثر رواج بيع أنقاض البنايات في الأسواق، وهي مهمة سهلة وأرخص ربما، إذ لا تتطلب سوى الهمّة والقوة وشاكوش!
هذا بالتحديد ما يفعله فياض وغيره من جامعي الأنقاض، الذين ينتقون القضبان الحديدية والحصى من بين الأنقاض ليبيعوها، ويكسبوا جرّاء بيعها في سوق إعادة البناء المحلية، والتي من المفترض أن تنتعش مجددًا بعد حرب الصيف الماضي. تستغرق تلك المهمة من فياض أسابيع للحفر وجلب الحديد والحصى، ولكن لماذا إعادة استخدام تلك المواد؟ لماذا لا يشترى أهل غزة مواد جديدة للبناء؟ ببساطة لأن تلك المواد شحيحة نظرًا للحصار الإسرائيلي المفروض، إذ تقول إسرائيل أنها تمنع دخول مواد البناء لأن الغزّاويين يستخدمونها في تصنيع الأسلحة.
العمل كجامع أنقاض ليس مهمة مُربحة بشكل كبير، ولكنه العمل المتاح في القطاع المحكوم بالحصار والبطالة، بيد أن العيب الأبرز مؤخرًا فيما يخص سوق الأنقاض هو غياب مكوّن رئيسي لإعادة البناء بالكامل: الأسمنت الذي تمنعه إسرائيل عن غزة.
يقول فياض، الذي دفعته ظروفه المعيشية وأهله لهذه الوظيفة، أنه كان يدفع لأصحاب المنازل ليحصل على أنقاضهم ويبيعها، حين كان الأسمنت يعبر بسهولة إلى داخل غزة، ولكن هذه العملية توقفّت بسبب وقوع السوق. “لم نعد ندفع الأموال للحصول على الأنقاض كما في السابق، فالطلب عليها هبط بشدة،” هكذا يقول فيّاض، الذي كان يحصل على حوالي 3000 شيكل (782 دولار) مقابل الحديد، ولا يحصل سوى على نصف هذا المبلغ بعد هبوط السوق.
الأنقاض هي الحل!
بدأت فكرة جمع الأنقاض عام 2008، حين شرع فياض مع أربعة أصدقاء فقدوا منازلهم في جمع الحديد من المباني المدمّرة في أثناء الحرب. لم تكن المهمة سهلة، كما يقول فياض، ولكن شعور العزلة والسجن في غزة لم يترك لهم خيارًا آخر.
“أكملت وأصدقائي دراساتنا الجامعية ولم نجد سبيلًا للعمل سوى جمع الأنقاض،” هكذا يقول أحمد شبت، أخ لعشرة آخرين عاطلين أيضًا، والذي يحصل يوميًا على حوالي 30-40 شيكل (7-10.5 دولار)، يدفع منها أصلًا 10 شيكل في المواصلات.
يتقاسم الأصدقاء بالتساوي مهام جمع الأنقاض، والأرباح أيضًا، في نهاية اليوم، ويبدأ العمل حين يتلقى أحدهم اتصالًا هاتفيًا من أسرة فقدت منزلها في الحرب طالبًا منه أن يرفع أنقاض بيته ليبني بيتًا جديدًا. ورُغم أنهم يعملون بالأساس في شمال القطاع، تنتشر أرقام هواتفهم على جدران المنازل المدمّرة في شتى الأماكن.
رُغم كثرة المكالمات، والتي يضطر فياض للاعتذار عن بعضها أحيانًا، يبدو أنه على يقين بأن عمليات إعادة البناء لن تتم في وقت قريب، لا سيما والكثير ممن فقدوا منازلهم في حرب 2008-2009 لا يزالون بلا مأوى، ولكن البعض يطلب رفع الأنقاض على أي حال، لعل وكالات الإغاثة تبني لهم خيّم لاجئين، مثل أهل الشجاعية الذين تهدّمت منازلهم، ويطالبون الإغاثيين بالاهتمام بهم.
أثناء عملهم، تراقب فياض وأصدقاءه أعين المراقبين العسكريين الإسرائيليين في أبراجهم المحيطة بشمال غزة، في حين تراقبهم القوات المصرية أثناء عملهم برفح، حيث يمكن أن يأخذهم البحث عن لقمة العيش إلى هناك.
في انتظار الأسمنت
لا يزال فياض وأصدقاؤه في انتظار الأسمنت، وقد بدأوا بتطوير عملهم قليلًا لمواكبة العرض والطلب في سوق الأنقاض، إذ جلبوا آلة يدوية صغيرة تساعدهم على تشكيل الحديد لأشكال قابلة للاستخدام، وهي مهمة لا يطيقها كثيرون، وأصبحت مطلوبة، كما يقول أحمد شبت، “لا يملك الكثيرون الصبر لإعادة تشكيل الحديد الذي دمرته طائرات الإف-16 الإسرائيلية.”
المهمة الأصعب هي انتقاء الحديد والحصى من وسط أنقاض البنايات المرتفعة، والتي يخوضها فياض وأصدقاؤه بأيديهم العارية، وتنتظرهم أسابيع طويلة من العمل الشاق لجمع هذا الحديد من آلاف المنازل المهدّمة، وكل ذلك أملًا في وصول الأسمنت في يوم قريب.
“يمكننا أن نبيع الحديد فقط حين يتم السماح للأسمنت بالدخول إلى غزة،” هكذا قال فياض وهو ينظر بأسى إلى دعوات حفل زواج وجدها أثناء فرز أنقاض أحد المنازل، وهو ما يعني أن أحدًا من أصدقاء الزوج أو الزوجة مفقود على الأغلب، هذا إن كان حيًا.