بين انتخابات سنتي 2017 و2022، عرف البرلمان الفرنسي تغيرات كبرى، ففي الأولى حقق حزب الرئيس إيمانويل ماكرون الأغلبية المطلقة بسهولة، أما في الثانية فرغم دخول الحزب غمار الانتخابات إلى جانب تحالف حزبي، فإنه لم يتمكن من تحقيق الأغلبية المريحة.. فكيف سيكون الوضع في البرلمان الجديد وأي سيناريوهات ستعرفها الحياة السياسية الفرنسية.
تغيرات في المشهد البرلماني الفرنسي
أفرزت نتائج الدورة الثانية من الانتخابات التشريعية الفرنسية التي جرت أمس الأحد، نتائج صادمة للتحالف الرئاسي الذي يقوده ماكرون، فعلى غير العادة لم يتمكن التحالف من الحفاظ على الأغلبية المطلقة في البرلمان رغم الزخم الإعلامي الذي رافق حملته الانتخابية.
في انتخابات سنة 2017، حصل حزب “الجمهورية إلى الأمام” على 308 مقاعد بنسبة 53.38% من مقاعد البرلمان، فيما حصل حليفه حينها “الحركة الديمقراطية” (موديم) على 40 مقعدًا، أما في انتخابات أمس فيتوقع أن يحصل التحالف الرئاسي على 245 مقعدًا فقط أي أنه خسر 103 مقاعد مقارنة بالانتخابات السابقة.
ضمن الخيارات المطروحة أمام ماكرون أيضًا التحالف مع الجبهة الوطنية التي تقودها مارين لوبان
يضم الائتلاف الرئاسي “معًا” حزب النهضة الحاكم بقيادة ماكرون وحليفيه موديم برئاسة الوزير السابق فرانسوا بايرو وحزب أفق الذي أسسه إدوار فيليب رئيس الوزراء بين مايو/أيار 2017 ويوليو/تموز 2020.
في مقابل ذلك حقّق اليسار تقدمًا كبيرًا مقارنة بالانتخابات السابقة، إذ حصل على 131 مقعدًا وفق النتائج النهائية، ويضم التحالف اليساري الذي يحمل اسم “التحالف الشعبي البيئي والاجتماعي الجديد”، 4 أحزاب يسارية وهي فرنسا الأبية والحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي وحزب الخضر، فضلًا عن جمعيات وكيانات سياسية أخرى.
وفقًا لهذه النتيجة سيكون تحالف اليسار أكبر كتلة معارضة في الجمعية الوطنية، وفي سنة 2017 كان حزب الجمهوريين الحائز حينها على 112 مقعدًا الحزب المعارض الأول في البرلمان أمام أغلبية مريحة لحزب الرئيس.
..
صفعة لماكرون .. وانقسام فرنسي كبير !!
..
انتكاسة سياسية حلت بالرئيس #ماكرون أمس في #الانتخابات_التشريعية_الفرنسية حيث فقد تحالفه ” الأغلبية المطلقة” في الجمعية الوطنية-البرلمان، وهو ما سيعقّد قدراته في حكم #فرنسا بعد تحقيق اليمين المتطرف واليسار نتائج كبيرة#legislatives2022 pic.twitter.com/umc1Ww5WDh— H.Qatamish حسن قطامش (@HasanQatamish) June 20, 2022
المفاجأة الكبرى لهذه الانتخابات كانت من نصيب الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة بقيادة مارين لوبان إذ أكدت الجبهة أنها أصبحت رقمًا صعبًا في المعادلة السياسية ببلادها، بعد إحرازها نتائج تاريخية لم يسبق لليمين المتطرف تحقيقها في فرنسا.
تظهر النتائج الأولية أن حزب مارين لوبان اليميني المتطرف حاز 89 مقعدًا بنسبة تصويت تقدر بـ15.42%، في مقابل 8 مقاعد فقط تحصل عليها سنة 2017، أي أن الحزب استطاع مضاعفة عدد مقاعده في البرلمان أكثر من 11 مرة.
وفقًا لهذه النتائج سيحظى اليمين المتطرف بكتلة برلمانية لأول مرة منذ سنة 1986، عندما حصل التجمع الوطني الذي كان يومها الجبهة الوطنية على 35 مقعدًا بعد اعتماد نظام نسبي جزئيًا العام 1988، فشكل كتلة برلمانية، ويحتاج تشكيل كتلة في الجمعية الوطنية إلى 15 مقعدًا.
مع من سيتحالف ماكرون؟
عدم حصول التحالف الرئاسي على الأغلبية المطلقة سيضع ماكرون أمام صعوبات كبرى خلال السنوات الخمسة المقبلة، ففي ظل هذه النتائج، أصبحت قدرة الرئيس المنتخب حديثًا لولاية رئاسية ثانية على تمرير برامج حكومته وأجندته الإصلاحية التي وعد بها الفرنسيين وعلى ضوئها تم انتخابه مجددًا، صعبة للغاية.
تحتاج أي كتلة برلمانية إلى الحصول على 289 مقعدًا من أصل 577 لتكوين الأغلبية الكافية، وهو ما يفرض على الرئيس ضرورة البحث عن حلفاء لتحقيق هذه الأغلبية فدونها لن يتمكن ماكرون من عمل شيء، فهو يدرك أن معركته ستكون خاسرة قبل بدايتها.
أمام ماكرون بعض الخيارات وجميعها ليس مضمونًا، فله أن يتحالف مثلًا مع بعض أحزاب اليسار المنضوية صلب التحالف الشعبي البيئي والاجتماعي الجديد، التي تجنح إلى الوسط وتشاطر بعض أفكار ماكرون في بعض المجالات.
هذه الإمكانية تبقى مطروحة خاصة أن العديد من ناخبي اليسار صوتوا لماكرون خلال الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية الماضية، كما أن التحالف اليساري لم يُبن على أسس صحيحة فهو ليس على قلب رجل واحد، فداخله العديد من الاختلافات ويمكن أن تؤدي إلى انهياره سريعًا.
#الانتخابات_التشريعية_الفرنسية
✍️ يا من انت كريم يا رب ???“رئيسة الوزراء الفرنسية: نتيجة الانتخابات البرلمانية خطر على البلاد”
✍️ ما حدا جاب اغلبية نيابية ???
✍️ الحق على ماكرون لانه ما تحالف مع تيار المستقبل ???
— ??Moqawem?? (@AL7AYATMOQAWAMA) June 20, 2022
سبق أن تحفظت عدة أسماء بارزة في الحزب الاشتراكي على التحالف مع حزب ميلنشون، على غرار رئيس الجمهورية السابق فرانسوا أولاند، ورئيس الحكومة الأسبق بيرنار كازنوف، الذي هدد بالانسحاب من الحزب إن تم الاتفاق، لذلك يمكن اختراق هذا التحالف وكسب ود بعض النواب وتحالفهم مع الائتلاف الرئاسي.
ضمن الخيارات المطروحة أمام ماكرون أيضًا التحالف مع الجبهة الوطنية التي تقودها مارين لوبان، إذ أثبتت العديد من المواقف أن ماكرون يشاطر زعيمة اليمين المتطرف في العديد من المواقف خاصة المتعلقة بالهجرة، لكن يتطلب إقناعهم تنازلات كبيرة من ماكرون.
أما الخيار الثالث فهو التحالف مع حزب الجمهوريون الحاصل على 61 مقعدًا، وهو أمر يبدو صعبًا بعض الشيء، فهذا الحزب الذي تزعم المعارضة في مرات سابقة يرفض التحالف مع ماكرون باعتبار أن هذا الأمر سيكون إعلان وفاة الحزب وانهياره دون رجعة.
حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة لا يبدو أنه الحل الأمثل للفترة المقبلة في فرنسا
لكن يمكن أن يرى هذا التحالف النور، وأن نُشاهد اتفاقًا حكوميًا بين ماكرون والجمهوريين لمواجهة صعود المتطرفين من اليسار واليمين، وهذا ما سيلعب عليه الرئيس ماكرون أي التصدي للمتطرفين الذين يهددون قيم الجمهورية وفق تعبيره.
الخيار الأخير المطروح أمام ماكرون، تشكيل حكومة أقلية وأن يتفاوض على كلّ مشروع قانون يريد تمريره مع نواب، أي ألا يكون في تحالف دائم معهم، صحيح أن هذا الأمر يبدو صعبًا لكنه الحل الأبرز الذي يمكن اعتماده في ظل هذه النتائج.
شلل الحياة السياسية
في حال لم يفلح الرئيس ماكرون وتحالفه الحزبي في الوصول إلى تحالفات مع أي من هذه المكونات الحزبية، فإن الحياة السياسية في فرنسا ستشهد شلالًا خلال السنوات القادمة لم يسبق أن عرفته منذ إرساء الجمهورية الخامسة، النظام الذي وضعه الجنرال ديغول عام 1958 لتجنّب عدم الاستقرار في النظام البرلماني الذي كان سائدًا في ظل الجمهورية الرابعة.
يمكن القول إن فرنسا قفزت نحو المجهول السياسي، إذ سنكون على موعد مع كتل برلمانية متناحرة، كل كتلة ستحاول فرض توجهها وإن كان بالكلام فقط، وسنكون على موعد مع مشاهد صادمة في البرلمان خاصة من نواب اليمين واليسار المتطرفين.
هذا الوضع مقلق بالنسبة للفرنسيين لكن هم من اختاروا معاقبة تحالف الرئيس إيمانويل ماكرون بعد شهرين من إعادة انتخابه على رأس السلطة، وهم من اختاروا عدم منح أي تحالف حزبي أو حزب الأغلبية المطلقة للحكم بأريحية.
محنة #فرنسا غير القابلة للحكم
الصفحة الأولى لصحيفة لوفيغارو اليوم. #الانتخابات_التشريعية_الفرنسية #ماكرون pic.twitter.com/V6lhErAtry— Ramatène AOUAITIA رامتان عوايطية (@RamateneA) June 20, 2022
من جهتها اعتبرت رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيث بورن أن نتيجة الانتخابات التشريعية تشكل “خطرًا” على البلاد في ضوء التحديات التي يتعين علينا مواجهتها”، فالتغيرات الحاصلة في الجغرافية السياسية الفرنسية ستعرقل نشاط ماكرون.
حل البرلمان؟
فشل ماكرون في إقناع باقي الكتل البرلمانية بتقاسم السلطة والحكم معًا من شأنه أن يعجل بحل البرلمان وتنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها، ويجوز لرئيس الجمهورية حلّ الجمعية الوطنية وفقًا للدستور الفرنسي.
يذكر أن دستور فرنسا الذي صيغ عام 1958 جعل رئيس الدولة أداةً أساسيةً في آلية الحكم في البلاد، وقلص إلى حد ما صلاحيات البرلمان، ويتولى هذا الأخير ممارسة صلاحيات عديدة في مجال مراقبة أعمال الحكومة وفي المجالات التشريعية والمالية والقضائية، زيادة على بعض الصلاحيات السياسية الأخرى.
حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة لا يبدو أنه الحل الأمثل للفترة المقبلة في فرنسا، وهو ما يقتضي على ماكرون التنازل ومحاولة اختراق بعض الكتل النيابية وإقناع بعض النواب بالعمل معه ومساندة حكومته.