في مواكب 21 مارس/ آذار الماضي التي انطلقت صوب القصر الجمهوري بالخرطوم، مندّدة باستمرار انقلاب عبد الفتاح البرهان، وبطلقة واحدة خرجت من فوهة سلاح قاذف لطلقات الخرطوش الانشطارية، أُصيب أكثر من 3 أشخاص إصابات متفاوتة، كان من ضمنهم الطبيب الصيدلاني الطيب البخاري، الشاب الذي ما زال يعاني من بقايا “سُكسُك” المقذوف داخل جسده، ويتطلب استخراجها الخضوع لعملية جراحية بتخدير كامل.
يقول بخاري في حديثه لـ”نون بوست”: “كانت الإصابة مفاجئة، فقد كنت أسير للخلف عندما أحسست فجأة أن ثمة ما أصابني ولم أتبيّن طبيعته ساعتها، أُصيب جرّاء زخة رصاص واحدة أكثر من 3 أشخاص، كان نصيبي منها 6 إصابات من الخلف في مناطق الرقبة والكتف وتحت الكتف وفي اليد الشمال”.
تلقّى بخاري الإسعافات الأولية من الفرق الإسعافية الطبية التي ترافق المواكب، إلا أن بعض الإصابات المتفرقة على جسده اضطرت الفريق الطبي إلى إرساله لمستشفى الجودة وسط الخرطوم، وهناك شاهدَ بخاري العديد من الإصابات المتفاوتة والحرجة.
يصف بخاري المشهد في المستشفى في ذلك اليوم قائلًا: “لأن إصابتي كانت طفيفة تمكّنتُ من التجوال داخل المستشفى بعد عمليتَين موضعيتَين، كان يبدو على العاملين الهلع، حيث باتت الحالات تتوالى على المستشفى، وكانت الأولوية بحسب خطورة الحالة، ما أجّل تلقي العلاج غير الأساسي لوقتٍ آخر”.
استخدام الخرطوش القصد منه إرهاق المستشفيات التي تنشط في استقبال مصابي الأحداث، إضافة إلى إرهاق الثوار وخصوصًا الفاعلين منهم لتعطيلهم عن المشاركة في المواكب اللاحقة
يتابع: “شاهدت العديد من الإصابات، بعضها بطلق الخرطوش الانشطاري وكانت أبلغ من إصابتي، وفي ذلك اليوم شاهدت طفلًا مصابًا وللأسف أدّت إصابته إلى شلله”.
ويضيف: “بدا واضحًا أن القوات الأمنية تعمّدت إرهاق المؤسسات الطبية وكادرها الطبي الذي ينشط في إسعاف المصابين، إضافة إلى إجهاد منظمة حاضرين الطوعية، التي تعمل على التكفُّل بنفقات وعلاج إصابات المتظاهرين”.
ويرى بخاري أن استخدام الخرطوش القصد منه إرهاق المستشفيات التي تنشط في استقبال مصابي الأحداث، إضافة إلى إرهاق الثوار خصوصًا الفاعلين منهم لتعطيلهم عن المشاركة في المواكب اللاحقة، والتي تخرج بصورة شبه يومية منذ 25 أكتوبر/ تشرين الأول العام الماضي في مناطق متفرقة من العاصمة الخرطوم ومدن السودان.
يؤكد بخاري أن الجهات التي أطلقت النار عليه هي قوات الشرطة السودانية، خلافًا لما ظلت تروّج له جهات رسمية بوجود “طرف ثالث” هو من يطلق النار على المحتجّين، ويقول: “دائمًا ما كنا نرصد منذ دخولنا المواكب شخصًا يحمل بندقية الخرطوش، وفي الغالب إما يكون ملثّمًا وإما يرتدي خوذة، ودائمًا ما كان يرتدي زيّ الشرطة السودانية، الأزرق، وليس زيّ أي قوات أخرى”.
“الخرطوش” للهروب من كلفة القتل السياسية
ركّزت القوات الأمنية السودانية مؤخرًا أثناء قمعها للتظاهرات المناوئة لانقلاب عبد الفتاح البرهان، على استخدام سلاح الخرطوش الناري الانشطاري بالغ الأذى، ما أدّى إلى سقوط 8 قتلى متأثرين بإصابتهم، ضمن 102 قتيل سقطوا أثناء التظاهرات التي اندلعت منذ 25 أكتوبر/ تشرين الأول، بالإضافة إلى أكثر من 700 إصابة جرّاء السلاح ذاته، بحسب إحصاءات لجنة أطباء السودان المركزية.
وبحسب لجنة أطباء السودان المركزية، فإن مليونية 21 مارس/ آذار 2022 التي كانت تتّجه إلى القصر الجمهوري بالخرطوم -التي أصيب فيها المتحدث لـ”نون بوست”، بخاري- تمَّ تسجيل 101 إصابة فيها جرّاء استخدام سلاح الخرطوش الناري.
وأثار تركيز استخدام سلاح الخرطوش بالذات تساؤلًا حول بغية القوات الأمنية من الخطوة، حيث اتّسمت الفترات الأخيرة باستخدام متزايد لهذا السلاح في قمع التظاهرات، فنشطَت على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي وسوم عديدة مندّدة باستخدام السلاح الانشطاري، ومطالِبة بوقف استخدامه.
ولم يُعتَد استخدام السلاح في النزاعات الآدمية أو في قمع التظاهرات المدنية إلا في حالات قليلة، حيث أن السلاح مصمَّم في الأساس من أجل أعمال الصيد، وبالذات صيد الطيور، حيث عُرف استخدامه على نطاق واسع في العالم العربي والأفريقي في عمليات صيد الطيور.
ورغم أن فاعلية السلاح في الغالب ليست قاتلة، إلا أنها تترك إصابات عديدة ومتفرقة في أكثر من منطقة من الجسد، حيث تتميز طلقات الذخيرة الخاصة به بأنها محشوة بالعشرات من الطلقات الكروية الصغيرة، فيما عُرف محليًّا في السودان باسم “السُكسُك”، تقوم بالتناثر لحظة اختراقها للجسم، مخلفة الإصابة في أكثر من موقع في الجسد في محيط منطقة الإصابة.
ويبدو أنه، وللكلفة السياسية والدولية الباهظة للقتل المباشر للمتظاهرين، اتّجهت السلطات الأمنية للبحث عن أفضل الوسائل الناجعة في قمع المحتجّين، دون التورُّط في إزهاق أرواح.
“سلاح الغاب”
اُستخدم سلاح الخرطوش عربيًّا في قمع التظاهرات التي اندلعت في البحرين عام 2011، مخلفًا العديد من القتلى، وأطلقت قناة “الميادين” مسمّى “سلاح الغاب” على سلاح الخرطوش ضمن الفيلم الوثائقي الذي أنتجته عام 2018 يحمل المسمّى ذاته، والذي يوثّق استخدام سلاح الخرطوش في قمع متظاهري البحرين.
وترجّح لجنة أطباء السودان المركزية أن أول استخدام لسلاح الخرطوش الانشطاري في السودان لقمع المتظاهرين يعود إلى عام 2019، إبّان التظاهرات التي أدت لاحقًا إلى اقتلاع البشير، حيث تمَّ تسجيل إصابات بسلاح انشطاري يرجَّح أنه سلاح الخرطوش، مشيرة إلى أن تسجيل حالات إصابة ناتجة عن السلاح الانشطاري مرة أخرى بدأت ما بعد انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الثاني.
للدقّة، الخرطوش ليس سلاحًا بل نوعًا من المقذوفات البارودية، تحمل عددًا من الكريات التي تنشطر إلى عدة أجزاء، تُحدِثُ كل واحدة منها أثرًا في مكان مختلف من جسد الهدف.
وقد اختبر المتظاهرون السودانيون عدة أساليب استثنائية لقمع تحرّكاتهم، منها على سبيل المثال القمع بواسطة الاستخدام الاستثنائي لقذائف عبوات الغاز المسيل للدموع، بتوجيهها على مستوى الرأس والجسد لتترك إصابات معيقة في غالب الأحيان، خلافًا لاستخدامها التقني الأساسي بقذفها إلى الأعلى.
ليس من الأدوات المخصَّصة لفضّ التظاهرات
ضابط في الشرطة السودانية، تحدّث لـ”نون بوست” مفضّلًا حجب اسمه، قال إنه رغم أنه مخوّل للشرطة التعامل بكل الأسلحة والذخائر، إلا أنه لا يوجد استخدام واضح وأساسي لسلاح الخرطوش وفقًا لقوانين الشرطة السودانية.
وأشار الضابط الذي يحمل رتبة ملازم أول، إلى أن الأدوات التي تُستخدَم في فضّ التجمهرات والأعمال التي تؤدي إلى الإزعاج العام استنادًا على قوانين الإجراءات الجنائية في السودان، هي العصا أو الهراوات، بالإضافة إلى الغاز المسيل للدموع، مع احتمالية استخدام السلاح الناري في حالات الدفاع لتأمين نقل الجنود، منوّهًا أن التعامل بالأسلحة النارية يكون وفق أوضاع معيّنة، كما أن التسليح بالسلاح الناري يكون لفرد واحد ضمن الفصيلة.
ويرجّح ضابط الشرطة أيضًا أن الجهات الأمنية لجأت إليه لأنه سلاح غير قاتل، خاصة حين استخدامه من مدى بعيد، لكنه رادع وبالغ الأثر في صدّ المتظاهرين.