قديمًا، كانت غالبية المطابخ العربية تضم في إحدى زواياها خزانة تُسمى “النملية”، تخزن بها الحبوب والبقوليات والفواكه المجففة والخضراوات اليابسة والزيوت والسمن واللحم المقدد، وغيرها من الأصناف الغذائية التي احتفظت بها العوائل آنذاك في “النملية” طوال السنة، بعيدًا عن الحشرات والعوامل الأخرى التي يمكن أن تهدد أمنها الغذائي في أحد فصول السنة.
لكن مع تطور الوسائل وتغيّر شكل الحياة لدى الأجيال اللاحقة، بالإضافة إلى اختلاف طابع المدن وانتشار الثقافة الاستهلاكية، اندثرت الكثير من طرائق ثقافة التموين وتخزين الغذاء وبات الاعتماد على استهلاك الأغذية المصنعة والمعالجة في المصانع أمرًا طبيعيًا، خاصة مع صغر المنازل الحالية وصعوبة التمتع بمساحات خضراء يمكن زراعة الخضروات بها والاستفادة منها في استهلاك الأسرة الغذائي اليومي.
اليوم مع ظهور بوادر أزمة غذاء عالمية، بات من الضروري التفكير ببدائل تصلح للتعامل مع أزمات الغذاء المتكررة، والسؤال هنا: كيف يمكن تحقيق الأمن الغذائي على مستوى الأسر والأفراد؟.
هل يوجد اكتفاء ذاتي فردي؟
عرّفت الأمم المتحدة، الأمن الغذائي، أن جميع الناس في جميع الأوقات يتمتعون بإمكانية الوصول المادي والاجتماعي والاقتصادي إلى طعام كافٍ وآمن ومغذٍ يلبي احتياجاتهم الغذائية من أجل حياة نشطة وصحية، لكن يبقى الواقع بعيدًا عن التعريفات والنظريات المطروحة، فقد بدأت تظهر على عالمنا العربي هذه الأيام ملامح الأزمة، الأمر الذي ينذر بعواقب لا تحمد عقباها.
في أصل الثقافة العربية، يزرع الإنسان من أجل أن يأكل ويخزن لباقي عامه، وبهذا كانت تحقق الأسر أمنها الغذائي واكتفاءها الذاتي رغم قلة الدخل والمردود المادي، لكن كما ذكرنا فإن الأمر لم يعد مثلما سبق، فقد ساهمت عدّة أمور في غياب هذه الثقافة، أهمها التغير المناخي الذي يؤدي إلى الجفاف وبالتالي لا توجد زراعة ومحاصيل، حتى في حال وجدت الزراعة بات الأمر تجاريًا أكثر من كونه عاملًا من عوامل الحفاظ على أمن الأسرة الغذائي، فتجد الفلاح اليوم يبيع كل ما ينتج من أجل المال، وبهذا المال يعود ويشتري حاجياته التي تختلف عن إنتاجه وكذا تختلف عما كان يستهلك منذ سنوات.
وعن اكتفاء الأسر الذاتي الذي يحقق أمنهم الغذائي لا يرى الدكتور فاضل الزعبي سفير الأمم المتحدة للأغذية سابقًا منطقية فكرة الاكتفاء الذاتي على الصعيد الفردي وكذلك على صعيد الدول خاصة في العالم العربي، فيقول في حديثه لـ”نون بوست”: “كلمة الاكتفاء الذاتي غير منطقية أساسًا، لأنها لم تعد مطروحة في ظل التجارة العالمية ومحدودية الدول على إنتاج بعض من غذائها”، ويضيف الزعبي “الأمن الغذائي ليس له علاقة بالاكتفاء الذاتي الذي كانوا يتحدثون عنه سابقًا في الستينيات، الأمن الغذائي هو تكامل بين الاكتفاء الذاتي من إنتاجك وما تستورده أيضًا، لأنه لا توجد دولة تستطيع أن تزرع كل ما تريد أن تأكل”.
إذًا، فالأمن الغذائي الفردي مرتبط ارتباط تام في عصرنا الحالي بالأمن الغذائي للدولة الحاكمة وهو ما نفتقده في كثير من الدول العربية كاليمن وسوريا ومصر والأردن حيث باتت الدول على شفير الهاوية إما بسبب الحروب وإما بسبب سياسة الحكومات والاقتصاد المتهالك، وهنا يقول الدكتور الزعبي: “الأمن الغذائي مسؤولية الدولة وعليها أن تقوم بذلك”، مضيفًا “أما على صعيد الفرد لا نستطيع أن نقول له أن يخزن في منزله وذلك بسبب وجود مشكلة أساسًا لدى هذا الفرد وهي القدرة الشرائية لغذائه في الأصل، فكيف سيكون لديه دخل للتخزين من أجل الاكتفاء الذاتي؟”.
ويكمل “هنا تكمن مسؤولية الدولة التي من المفترض أن يكون لديها مراقبة على الإنتاج الداخلي والكميات التي تنتج والمواد المستوردة ومراقبة اعتدال الأسعار، لأن من أولى ركائز الأمن الغذائي هي القدرة على الوصول إلى الغذاء إضافة لتوافره”. وتعرف أركان الأمن الغذائي الأربع كالتالي: أولها إنتاج الغذاء محليًا أو عبر استيراده والثاني هو القدرة على الحصول على الغذاء وهذا له أسباب تتعلق بالبطالة وشح الموارد وثالث ركن الاستخدام الجيد للطعام أما رابع ركن فهو استقرار هذا الوضع طوال العام.
الحياة البسيطة
في ظل التطور الهائل وسيطرة التكنولوجيا على حياة الأفراد بشكل عام بات من الصعب التراجع خطوة إلى الوراء من أجل الظفر بضرب من ضروب الحياة البسيطة التي يحلم بها أي واحد منّا، فمقتضيات الحياة وفلسفتها تغيرت ولم يعد ذلك مجديًا، وربما يحسبه البعض نوعًا من الترف.
ترى عبير عطيفة المتحدثة باسم برنامج الأغذية العالمية أنه “من الصعب أن نعود إلى الحياة البسيطة التقليدية لمواجهة الأزمات في ظل انتشار الثقافة الاستهلاكية خاصة في المدن الكبرى والمزدحمة التي بات سكانها يشكلون نسبة كبيرة من العدد الكلي لبلادنا”.
وفي حديثها لـ”نون بوست” تجد عطيفة أنه “بدلًا من العودة للحياة البسيطة يجدر بالعوائل إعادة التفكير في عملية هدر الطعام، فهدر الطعام عملية موجودة بنسب كبيرة”، وتشير إلى أن “الأفراد سيفكرون مليًا بالهدر في الأيام القادمة وذلك بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وسيحاول الناس ابتكار أنواع للتعامل مع الفائض حال كان موجودًا”، وترى عطيفة أن توجهًا جديدًا في دول العالم يظهر الآن وهو أن “نأكل من الحاجات الموسمية دون اللجوء إلى تخزين المواد، وبالتالي أعتقد يوجد إعادة تفكير في التعامل مع الغذاء”.
في الإطار العام، لا يتفق المستشار فاضل الزعبي مع ما قالته المتحدثة الأممية عطيفة، فهو يؤيد فكرة العودة للحياة البسيطة وأن يأكل الفرد مما ينتج، لكنه أيضًا يرى أن ثقافة الاستهلاك طغت على المجتمعات في دولنا، فيقول: “العادات الاستهلاكية طغت على المجتمع بشكل أثقل كاهل المواطن نفسه وأثقل كاهل الدولة، لذلك العادات الغذائية السائدة لا بد من تعديلها بحيث تخفف من عبء المشتريات”.
ما يعني أن العودة إلى حياة الأرياف والقرى الصغيرة لا تبدو بتلك السهلة المتخيلة، لكننا نستطيع ضبط إيقاع الاستهلاك الخاص بنا، وكذا توجيه التكنولوجيا التي سيطرت على أجزاء كبيرة من حياتنا في حلحلة التعقيدات وتسخيرها من أجل حياة أبسط، وهنا نتكلم عن حياة أهل المدن الكبيرة والمزدحمة، أما في أطراف المدن نستطيع القول إن الخيارات متاحة أكثر من حيث وجود مساحات يمكن زراعتها وتربية الحيوانات المنتجة بها وبهذا تساهم العائلة في حماية أمنها الغذائي.
وعلى الرغم من أن المساحات في المدن ضيقة، فإن الباب لم يغلق نهائيًا حيث يمكننا التعامل مع بعض الهوامش في المنازل واستغلالها بشيء مفيد في تعزيز الأمن الغذائي على مستوى الأسرة، ففي حال وجود شرفة في المنزل يمكن استغلالها ببعض الزراعات التي تكون سهلة في البداية ويستطيع الإنسان الاعتماد عليها ولو بجزء يسير من استهلاكه الغذائي، ولذلك فوائد عدّة حيث تعزز الزراعة المنزلية – وإن كانت على نطاق ضيق – مفاهيم جيدة تتحول مع الأيام إلى قواعد يمكن الاعتماد عليها في الحياة كنوع من أنواع ضبط الاستهلاك والتوفير.
إضافة إلى الاستفادة من أسطح الأبنية والاشتراك مع سكان البناء في هذا، ويعتمد الأمر على تحضير بعض الأحواض البلاستيكية والعلب الفارغة والأوعية الخشبية، وفي حال وجود حدائق حول الأبنية يمكن أيضًا الاستفادة منها لزراعة بعض الخضراوات.
آليات للتعامل مع القادم
إذًا كيف يمكننا التعامل مع الأزمة القادمة؟ وكيف لنا كأفراد وأسر التخفيف من آثارها وتبعاتها علينا؟ لكي نكون واقعيين في الطروحات فإن الدعوات التي تنادي بالاعتماد الكامل على الذات لمواجهة الأزمات الغذائية هي دعوات غير مجدية، خاصة أن حكومات الدول الكبيرة تقف حائرة في التعامل مع هكذا الأزمات فكيف بالأسرة الصغيرة! لكن في حال اتبع الناس بعض التكتيكات يمكن أن يخففوا من آثار الأزمات الغذائية عليهم، وفي هذا السياق يتفق الدكتور فاضل الزعبي والمسؤولة الأممية عبير عطيفة أن المسؤول الأول في مثل هذه الأزمات ليست العائلة إنما الحكومة والدولة.
تقول السيدة عطيفة في هذا الإطار: “أعتقد أن كثيرًا من الدول بدأت فعلًا بزراعة بعض السلع والمنتجات الزراعية الإستراتيجية مثل القمح، وتحقيق نسبة كبيرة من هذه المنتجات التي تكفي نصف احتياجاتهم في حال لم تصل للاكتفاء الذاتي، وهو ما تنتهجه دول مثل مصر والجزائر وذلك في طريق التقليل من الاعتماد الكامل على استيراد المواد الغذائية وهو الأمر الذي يجعلنا دائمًا عرضة لمشاكل السوق وارتفاع الأسعار والعرض والطلب”.
مشيرة إلى أن الآليات التي من الممكن أن تتعامل معها الأسر قليلة، لكنها يمكن أن تخفف من أعباء الأزمات وتختصرها بـ: “الاعتماد على المنتجات المحلية وتنظيم عملية الطعام بحيث لا يكون هناك تخزين وهدر بصورة كبيرة والاتجاه إلى المواد الغذائية المطروحة في الأسواق”.
وتردف عطيفة: “لكن الأزمة أكبر من استيعاب العوائل والأسر الموجودة في المنطقة العربية ولا يمكن للعائلة أن تتجاوز هذه الأزمة وحدها، فالمشكلة عالمية ويجب أن يكون هناك دعم من الحكومات والمنظمات الدولية”.
أما بالنسبة للدكتور الزعبي، فيرى أنه “رغم التأكيد على أن مسؤولية الأمن الغذائي هي مسؤولية الدولة في المستوى الأول، وعندما أقول الدولة أعني الحكومة والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني والرعاية الاجتماعية، أرى أن المواطن عليه دور أساسي بتغيير العادات الاستهلاكية، وهذا الأمر مهم جدًا لأن العادات الاستهلاكية تزيد من فاتورته الغذائية ونسبة إنفاقه من راتبه على الغذاء بشكل غير مبرر، ثانيًا يوجد هدر غذائي كبير، فهناك الكثير من العائلات ثلاجاتها تكون مملوءة بأشياء لا يرونها إلا عندما تنتهي مدتها”.
ويضيف الزعبي “لذلك توجد كثير من الإجراءات التي يجب على المواطن أن يتخذها للحد من الهدر، وحينما نتكلم عن الهدر فإنه يجب على المواطن أن يشتري ما يحتاج فقط ولا يذهب إلى التسوق المفتوح ما أعجبه يشتريه دون السيطرة على الأمر”. ويؤكد على “مراجعة المخزون الدوري، فهذه الطريقة تبين لك ما الموجود وما حالته، هل هي بحالة جيدة أم أنها باتت غير صالحة وما هو صالح للبقاء”.
في الخلاصة، إن الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي على مستوى الأسر والأفراد في دولنا ومجتمعاتنا مرتبط ارتباطًا كبيرًا بالحكومات والأنظمة، وصحيح أن مهمة معالجة هذه الأمور ملقاة على عاتق الحكومات إلا أن الأسر تستطيع ببعض الأدوات والآليات التخفيف من وطأة الأزمة القادمة الغذائية منها والمالية.