”عملتُ مدرِّسًا للمبصرين بثانوية البحتري في الميادين بدير الزور 15 عامًا، قبل اندلاع الثورة، إضافة إلى عملي في تدريس طلاب جامعيين بنظام الساعات في جامعة الفرات لمدة سنة كاملة، ولم أنقطع عنها إلا لبُعد المسافة عن مكان إقامتي البالغة 45 كيلومترًا”.
بصوت ممزّق يعبّر محمد الملحم (من فئة المكفوفين)، مواليد دير الزور (50 عامًا)، عن حزنه الشديد، بعد رفض العديد من الجهات الحكومية في شمال غرب سوريا توظيفه، رغم أنه يحمل إجازة ودبلوم دراسات عليا في اللغة العربية وبصدد دراسة الماجستير.
بدأت حكاية الملحم بعد استقراره في المناطق المحررة شمال غرب سوريا، عندما باغته خبر رفضه للانضمام إلى سلك التدريس رغم خبرته الطويلة، حيث يروي تجربته الشخصية لـ”نون بوست” قائلًا: “ذهبت إلى مديرية التربية في إعزاز وجامعة حلب طالبًا التوظيف كمدرّس، لكن طلبي قوبل بالرفض من كلا الجهتين، بحجّة أني كفيف”.
مضيفًا: “بعد أن قابلت عميد كلية الآداب بجامعة حلب عام 2017 وأحضرت كل الشهادات الأصلية، تحمَّس وقتها ووعدني بإعطاء ساعات تدريسية بداية العام الجديد، ومساعدتي أيضًا بتقديم رسالة الماجستير، إلا أنني تفاجأت في بداية العام التالي بعد مقابلة ثانية مع نائب عميد الكلية برفض قاطع، بل أكّد أنه حتى لو حصلت على رسالة الماجستير والدكتوراه فلن يتم تعييني، زاعمًا أن “القانون السوري لا يسمح””.
ولم يكمل الملحم دراسته للماجستير بسبب غياب الحافز من جهة وارتفاع تكلفة الدراسة من جهة أخرى، إذ إنه يعمل في معهد “صنّاع الأمل للمكفوفين” كمدرّس للمكفوفين في مدينة إعزاز براتب لا يتجاوز 1300 ليرة تركية، أي ما يعادل 75 دولارًا تقريبًا لحين كتابة التقرير، ما يضطره لبيع سلته الغذائية الشهرية لسدّ احتياجات أسرته المكوّنة من 6 أفراد.
تهميش وإقصاء وحرمان من الوظائف
لا يختلف الأمر أبدًا عن محمد كللو في إعزاز، الذي يعاني أيضًا إعاقة بصرية منذ الصغر، إذ عمل سابقًا موظف تحويل مكالمات في مشفى إعزاز الوطني قبل اندلاع الثورة السورية عام 2011، ليطالب بعد تفعيل المشفى بالرجوع إلى عمله إلا أنه قوبل بالرفض بسبب إعاقته البصرية.
يتساءل محمد كللو، مواليد حلب عام 1990، في حديثه لـ”نون بوست” عن سبب تجاهُل العديد من الجهات الحكومية لفئة المكفوفين، مستغربًا من التناقض الحاصل في قبول الجامعات للمكفوفين كطلاب فقط ورفضها توظيفهم بعد التخرج.
ويؤكد كللو أن “التهميش حاصل أيضًا من المنظمات التي تهتم بمنح مشاريع صغيرة لمساعدة الأسر الأشد احتياجًا، فيما تغيب مشاريعها عن المكفوفين بحجّة عدم قدرتهم على العمل”.
وطالب كللو بإلزام الجهات الحكومية التابعة للمعارضة السورية في الشمال السوري بوضع نسبة معيّنة للمكفوفين في برامج التوظيف التابعة لها، “فهناك العديد من المهن والوظائف التي تلائم وضع الكفيف، كمهنة التدريس مثلًا”، يقول كللو.
ورغم وجود قرار من وزارة التربية التابعة للحكومة السورية لدمج ذوي الاحتياجات الخاصة في المدارس صادر بتاريخ 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2001، ينصّ على ضرورة قبول نسبة من أصحاب الإعاقات ضمن المدارس الحكومية انطلاقًا من توجّهها لاتّباع سياسة الدمج المعتمدة عالميًّا، إضافة إلى إلزام “قانون العاملين في الدولة” الخاص بالوظائف وطبيعتها بتوظيف ذوي الاحتياجات الخاصة حتى 4% من عدد الموظفين لديها.
تواصلَ فريق موقع “نون بوست” مع مدير مكتب وزير التربية والتعليم في الحكومة المؤقتة التابعة للمعارضة السورية، عدنان السليك، للوقوف على واقع اهتمام القطاع التعليمي بفئة المكفوفين، حيث رأى السليك أن “هناك اهتمامًا بأصحاب الاحتياجات الخاصة ويتضمنهم المكفوفون، فمن حيث امتحانات الشهادتين تُنشأ قاعات خاصة لهم ويُفرز لكل كفيف كاتبٌ يكتب له في الامتحانات، كما أن لهم نماذج أسئلة مستقلة تتناسب مع وضعهم الصحي”.
مضيفًا أن “جامعة حلب في المناطق المحررة تستقبلهم بالكليات التي تتناسب مع وضعهم الصحي، مثل كلية الآداب والشريعة والحقوق”.
وتسعى الوزارة مع المنظمات لتأمين فرص عمل يتناسب مع وضعهم الصحي بعد تخرجهم، حسب تأكيدات السليك، إلا أنه لدى استفسارنا عن إحصائية لعدد المكفوفين الموظَّفين ضمن وزارة التربية والتعليم، أجاب السليك بأنه “ليس لدينا إحصاءات حاليًّا، إنما هناك بعض الحالات”، حسب زعمه.
بين الخلاص من المخيمات والعزلة الاجتماعية
أواخر شهر مارس/ آذار الفائت، اُفتتحت “قرية النور المتكاملة للمكفوفين” في منطقة الكمونة بمحافظة إدلب شمال غرب سوريا، إذ اُعتبرت القرية الأولى من نوعها كونها مخصَّصة لفئة المكفوفين بمساحة 27 دونمًا، وبخدمات متنوعة تساعد هذه الفئة على ممارسة حياتهم اليومية بشكل مريح.
وعلّل رئيس مجلس إدارة “الضياء الإنسانية” الراعية لمشروع القرية، محمد سميع، في حديثه لـ”نون بوست”، الاهتمام بفئة المكفوفين بارتفاع عددهم في المخيمات، وكونهم الأكثر تضرّرًا وعزلةً بين فئات المجتمع، لافتًا إلى أنهم يحرصون على تحويلهم من فئة مستهلكة إلى فئة منتجة ليكونوا أكثر اندماجًا مع محيطهم.
وأضاف أن الاهتمام الحكومي قد يساعد المنظمات الإنسانية للتركيز على هذه الفئة، وكسر عزلتهم ولو تمَّ جمعهم في مكان واحد فذلك لا يمنع من ممارسة حياتهم بشكل طبيعي، خاصة أنهم موجودون ضمن أسرهم المبصرة، وبالتالي يمارسون حياتهم اليومية بشكل طبيعي؟
ولفت إلى أن وجودهم في تجمعات ملائمة يسهّل استهدافهم ببرامج تربوية وتوعوية وترفيهية وإغاثية من منظمات أخرى فاعلة، عكس ما يعتقده البعض من أن جمعهم في مكان واحد يسبّب حالة من الانطواء وضعف الاندماج، فالخدمات الخاصة بهم لا يمكن أن تتوفر لهم في حال توزّعهم في مخيمات عشوائية، بل قد يتعرضون هناك للعنف الجسدي والابتزاز والامتهان والسخرية وخاصة الأطفال، حسب سميع.
تواصلَ فريق “نون بوست” مع الأستاذ فيصل حمود، مدير برامج منظمة بيت الطفل في سوريا وتركيا ومستشار حماية، بهدف معرفة وجهة نظر الحماية بتخصيص خدمات تتيح دمج ذوي الإعاقة البصرية في أماكن خاصة بهم.
يرى حمود أن “وجهة نظر الحماية بالنسبة إلى ذوي الإعاقة البصرية هو عدم حصرهم بمكان منعزل عن المجتمع، بل دمجهم بالمجتمع من خلال توفير بيئة مناسبة ومُعينات ملائمة لحالتهم ما يساعد على ارتقائهم في كل القطاعات الصحية والتعليمية وغيرها”.
مضيفًا أن “الدراسات التي يستخدمونها كـ”منظومة حماية” تشير إلى عدم عزل فئات معيّنة (تصنيف فئات) ضمن مجموعات أيًّا كانت المجموعات (إعاقة بصرية أو غيرها)، لأنها تصنع شرخًا واسعًا بين الفئات المجتمعية”.
وأردف حمود رأيه بإمكانية مراعاة احتياجات هذه الفئات وزيادة الخدمات الخاصة بهم ضمن محيطهم الأصلي، حسب معايير العمل الإنساني دون عزلهم، فهناك مدارس تعليمية للمبصرين تتوفر فيها وسائل خاصة لذوي الإعاقة البصرية ومعلمين مختصين.
لافتًا أن “الهدف ليس اقتلاع هذه الإعاقة مع أسرتها من المجتمع وزجّها في مكان يحوي خدمات أكثر، إذ لا يمكن تصور تصنيف الإعاقات في قرى وأماكن مستقلة، قرية للمكفوفين وقرية للصم أو للبكم.. فهذا يؤدي إلى خلل في المجتمع ووجود تجمعات خاصة بكل فئة، لكن في حال فرض مثل هكذا نوع من التصنيفات، فنحن مضطرون لتوفير بيئة آمنة لهم، كما حصل في قرية النور”.
كيان خاص بالمكفوفين بجهود معطَّلة
يُعتبر المكفوفون أقل الفئات الاجتماعية انتفاعًا بخدمات التعليم والتوظيف والمشاركة المجتمعية في المجتمعات الخالية من أي نزاع، في حين أن أوضاعهم تزداد تعقيدًا في سوريا، خاصة آخر 10 سنوات، إذ يقدَّر عددهم شمال غرب سوريا بـ 3200 مكفوف وفقًا لإحصائية مبدئية أجرتها الجمعية العامة للمكفوفين، يعيشون أوضاعًا اجتماعية متردية وهشاشة صحية وحواجز في مجالات مختلفة، خاصة في التوظيف وإمكانية دمجهم وتأهيلهم.
يؤكد محمد جبارة، رئيس الجمعية العامة للمكفوفين (وهو من فئة المكفوفين)، أن “الجمعية استطاعت مدّ يد العون إليهم عن طريق اعتماد بعض المنظمات على بياناتهم المجهَّزة والتي تحوي أسماء المكفوفين القاطنين في المخيمات الأشد حاجة لإيوائهم في مساكن كريمة أو تقديم أي مساعدة لهم في حال طلبت منهم أي جهة ذلك، كما استطاعت الجمعية توفير بعض فرص العمل ضمن المنظمات رغبةً منها في تغيير نظرة المجتمع تجاه الكفيف ولو بشكل بسيط”.
وختمَ جبارة حديثه بأن “الجمعية تحمل على عاتقها مساعدة هذه الفئة منذ مرحلة التأسيس، إلا أنها تعاني قلة الدعم، وبالتالي غياب المشاريع والبرامج والأنشطة التي تنمي مهاراتهم، خاصة أن كثيرًا منهم يملك مواهب عديدة بحاجة إلى التطوير”.
مؤكدًا أن “هدف الجمعية تحويلهم إلى فئة منتِجة من خلال دعمهم في مجالات عديدة كالتعليم الأكاديمي والمهني (حرف يدوية ومهن مناسبة وتقنيات حديثة)، لتصبح موردًا مهمًّا لهم يواجهون به ظروف الحياة”.
فئة غائبة عن التخطيط العمراني
تشكِّل البيوت المجهّزة حلمًا للأسر التي تعيش في المخيمات، خاصة تلك التي تضم أفرادًا من ذوي الاحتياجات الخاصة، فرغم ريادة فكرة إنشاء قرية خاصة بالمكفوفين، إلا أنها عالجت أوضاع عدد قليل من المكفوفين، فيما تلازم المعاناة البقية وسط غياب الدعم من سلطات الحكومة المؤقتة التابعة للمعارضة السورية.
حيث يقتصر الاهتمام بهذه الفئة على المنظمات فقط التي تعمل وفق أولوياتها من دون أُسُس اشتراطات متّفق عليها مع مؤسسات أخرى، وهذا ما أكّده المهندس علاء الدين الجابري، رئيس هيئة التخطيط الاستراتيجي في الحكومة المؤقتة سابقًا، ويعمل في مكتب هندسي مختص بالتخطيط العمراني في أعزاز بريف حلب الشمالي.
ينفي الجابري في حديثه لـ”نون بوست” وجود أي اشتراطات أو أُسُس عمرانية متّفق عليها على مستوى المؤسسات الحكومية والمجالس والنقابات والمنظمات، لدعم هذه الفئة عمرانيًّا وسكنيًّا.
ورغم الحاجة إلى تحديد أُسُس عمرانية عامة للتجمعات السكنية وآلية العمل والالتزام بها، بحيث يحقّق أي تجمع توزُّعًا مبنيًّا على الأُسُس والمعايير العمرانية لكافة المكونات المجتمعية من الأطفال والنساء وذوي الاحتياجات الخاصة، إلا أن هناك إهمالًا من سلطة الحكومة المؤقتة لإنشاء مثل هذه التجمعات التي تراعي احتياجات المكفوفين.
وعزا الجابري سبب ذلك إلى غياب الإرادة لكافة المعنيين، من مجالس محلية وجهات حكومية، “فحوكمة مسار التخطيط العمراني تحتاج إلى وضع آلية للامتثال والالتزام لتلك المخرجات”، حسب وصفه.
جهود ذاتية لهذه الفئة وتكيُّف مع الواقع
يروي محمد كللو (32 عامًا) لـ”نون بوست” كيف تحدّى نظرة المجتمع تجاهه، إذ استطاع تأسيس مركز خاص لفئة المكفوفين في مدينة أعزاز بريف حلب الشمالي يضم 30 كفيفًا، بينهم 9 طلاب بأعمار مختلفة.
ويعتمد النظام التعليمي في المركز على تعليم المكفوفين الكتابة والقراءة بطريقة “لغة برايل”، وهي عبارة عن عرض للرموز الأبجدية والرقمية باستخدام 6 نقاط يمكن تحسُّسها بواسطة اللمس لتمثيل كل حرف وعدد، بما في ذلك رموز الموسيقى والرياضيات والعلوم أيضًا.
يسهّل هذا اتصالَ المكفوفين بالتعليم وحرية التعبير والرأي والحصول على المعلومات ودمجهم بمحيطهم، إضافة إلى تعليمهم الاعتماد على الناطق الإلكتروني ضمن أجهزة اتصالاتهم الإلكترونية للبحث والدراسة وسماع النصوص التعليمية.
كما يهتم المركز بتطوير قدراتهم العقلية عبر تعليمهم الشطرنج وتلاوة القرآن، وتنمية قدراتهم الجسدية أيضًا وميولهم الرياضية عبر ممارسة رياضة كرة الهدف (كرة بداخلها جرس)، إضافة إلى المهن اليدوية (القش)، والرسم على الزجاج، والدروس التي تهتم ببناء الجانب الثقافي والنفسي وتعزيز الثقة بالقدرات.
يواجه المركز الذي أُنشئ منذ 4 سنوات مجموعة من المعوقات، كالاعتماد على الوسائل التقليدية في التعليم، وغياب ابتكار وسائل حديثة كلوحات الحساب والخرائط البارزة ونماذج تقليد مجسّم للأشكال الأصلية، وعدم توفر المناهج التعليمية بطريقة برايل، وندرة الطوابع لطباعة الورق بطريقة برايل، فضلًا عن ضعف الموارد المالية التي تتيح لهم ممارسة نشاطات رياضية أو ترفيهية أو تعليمية، وفق كللو.
ومع ما يحيط بثالوث “التعليم والعمل والإيواء” من ثغرات يدفع ضريبتها بالدرجة الأولى ذوو الإعاقة البصرية، إلا أن أحلامهم أكبر من الظروف الواقعية في التعلم والتوظُّف والاندماج كحال بقية أفراد المجتمع، خاصة أن بعضهم بحاجة ماسّة لرعاية صحية واجتماعية وتأهيلية، وتقديم خدمات نفسية لازمة لمساعدتهم في الاعتماد على أنفسهم وتحريرهم من العزلة التي يعانونها وعيش حياة كريمة.