“لا يوجد إنسان ولد يكره إنسانًا آخر بسبب لون بشرته أو أصله أو دينه، الناس تعلمت الكراهية وإذا كان بالإمكان تعليمهم الكراهية، إذًا بإمكاننا تعليمهم الحب، خاصة أن الحب أقرب لقلب الإنسان من الكراهية”، بهذه المقولة الخالدة أرسى المناضل السياسي نيلسون مانديلا قواعد حلمه في أن تودع بلاده حقبة التمييز العنصري للأبد.
ولطالما عبّر أول رئيس لجنوب إفريقيا بعد انتهاء التمييز العنصري، عن أمله في أن تعبر بلاده محنتها الطويلة وأن تلحق بقطار الإنسانية النقية التي لا تعترف بأي فوارق عرقية أو دينية. وبعد 31 عامًا على سقوط نظام الـ”أبارتايد” في 30 يونيو/حزيران عام 1991، فرض تساؤل نفسه على ألسنة المراقبين للشأن الحقوقي: هل تحقق حلم مانديلا في أن تكون جنوب إفريقيا واحةً للمساواة ومقبرةً كبيرةً للسياسات العنصرية؟ وهل حافظ الأفارقة على مكتسبات مسيرة 70 عامًا من النضال السياسي خاضها الزعيم الراحل من أجل إخراج بلاده من كنف العبودية لبوتقة الحرية والنور؟
7 عقود من النضال
منذ ولادته في منطقة ترانسكاي في إفريقيا الجنوبية، وهو يضع نصب عينيه تحرير بلاده من ربقة الاستعمار والعنصرية هدفًا رئيسيًا رسخ لأجله حياته كلها، وهو الهدف الذي دفع ثمنه غاليًا جدًا، بدءًا من فصله من جامعة فورت هار عام 1940 بتهمة الاشتراك في إضراب طلابي اعتراضًا على سياسات الحكومة العنصرية حينها.
وكانت بلاده وقتها تخضع لحكم الأقلية البيضاء التي مارست كل أنواع التمييز العنصري ضد الغالبية السود الذين لم يكن لهم حق الانتخاب ولا المشاركة في الحياة السياسية، بل ما كان لهم امتلاك الأراضي ولا الزواج من البيض، وهو ما حولهم في النهاية إلى عبيد في خدمة الأقلية.
هنا أعلن مانديلا المفعم بحماس الوطنية الحرب على هذا النظام، وفي عام 1942 وضع أولى أقدامه على هذا الطريق حين انضم إلى المؤتمر الوطني الإفريقي، الذي كان يدعو للدفاع عن حقوق الأغلبية السوداء في جنوب إفريقيا، لتبدأ رحلة النضال ضد الحزب القومي المحكوم من البيض الذي فاز في الانتخابات العامة عام 1948 ليدخل حزم من التشريعات التي تؤصل لعنصرية غير مسبوقة في القارة الإفريقية.
استهل الزعيم الإفريقي مقاومته ضد الحكومة العنصرية بالطرق السلمية غير أن إطلاق النار على المتظاهرين في 1960 وإسقاط العشرات منهم بين قتيل وجريح بجانب فرض قوانين فجة في عنصريتها أجبر مانديلا على فتح باب المقاومة المسلحة وهو ما كان السبب الرئيسي وراء الزج به في السجن الذي قبع فيه 27 عامًا.
وبعد إطلاق سراحه في 11 فبراير/شباط 1990 بأمر من رئيس الجمهورية فريدريك ويليام دى كليرك، بسبب الضغوط الداخلية والخارجية، تم إلغاء سياسة التفرقة العنصرية في البلاد “الأبارتايد” في 30 يونيو/حزيران 1991، ليحصل بعدها مع رئيس بلاده على جائزة نوبل للسلام عام 1993، تتويجًا لجهوده على مدار 3 عقود كاملة في مقاومة الحكومة والسياسات العنصرية.
وفي 27 أبريل/نيسان 1994، أصبح مانديلا رئيسًا لجنوب إفريقيا في انتخابات متعددة هي الأولى من نوعها التي تشهدها البلاد، ليدون الرجل اسمه بأحرف من نور كأول رئيس بعد سقوط الأبارتايد، وفي أول خطوة قام بها بعد اعتلائه كرس الحكم تدشين لجنة “الحقيقة والمصالحة”، وهي اللجنة التي عملت على تعبيد الطريق باتجاه المصالحة وتضميد الجراح ونجت في تجميل صورة البلاد خارجيًا بعدما تحولت من مستنقع العنصرية العالمية إلى واحة للمساواة والديمقراطية والتعددية.
انتكاسة قوية
لم تحيا جنوب إفريقيا طويلًا في بوتقة الاحتفاء بالتحرر من السياسات العنصرية، إذ دخلت نفقًا مظلمًا آخر من الانتهاكات لكن بطرق مختلفة، فرغم سيطرة السود على المشهد، لا تزال الممارسات العنصرية مستمرة، سواء ضد البيض أم السود على حد سواء.
في تقرير نشرته “التايم” الأمريكية في 2019 استعرض أوجه العنصرية المتعددة التي تحياها جنوب إفريقيا رغم جهود الاحتواء والتطهير، وكان من أبرز الأمثلة الصارخة على بقاء تلك السياسات انعدام المساواة بين المواطنين، إذ أحكم السود قبضتهم على ثروات البلاد فيما اكتفى البيض بما ورثوه خلال فترة الحكم العنصري سابقًا، وما بين الصراع بين النخبة السوداء الحاكمة والأقلية البيضاء المتخمة بالأموال قبع الملايين من أبناء الشعب من متوسطي ومحدودي الدخل في آتون الفقر والعوز.
وتشير الأرقام الرسمية إلى ارتفاع معدلات البطالة وتراجع جودة التعليم وسوء الخدمات الصحية، فيما ارتفع عدد الأحياء الفقيرة من 300 حي عام 1994 إلى 2700 اليوم، كما أن 60% من سكان كيب تاون يعيشون في مناطق تصنف على أنها عشوائية حيث تراجع الخدمات العامة وانعدام المرافق وافتقاد الحد الأدنى من الحياة الكريمة.
وكان نتيجة لتلك الأجواء غير السوية انتشار العصابات وتزايد معدلات جرائم السرقة والاختطاف، فيما أجبرت عشرات الأسر على التهجير من مناطق سكنهم إلى أخرى بالقوة، في الوقت الذي يسير فيه القانون وسلطته التنفيذية بسرعة السلحفاة، ما انعكس على صورة البلاد التي تشوهت مرة أخرى رغم الثمن الغالي الذي دفعه أبناؤها لتجميلها بعد سقوط حكم الأقلية البيضاء العنصرية.
الحلم لا يزال بعيد المنال
في خطابه الذي ألقاه بمناسبة تنصيبه رئيسًا للبلاد في 10 مايو/أيار 1994 دعا مانديلا إلى المصالحة الشاملة ووضع حد للعنصرية في بلاده، وبعد مرور 28 عامًا على تلك الدعوة، هل تحققت دعوة المناضل الإفريقي؟ بهذا السؤال توجهت منظمة اليونسكو إلى القاضي جودي كولابن (قاضي بالنيابة في المحكمة الدستورية لجنوب إفريقيا منذ سنة 2017، وكذلك قاضي في المحكمة العليا منذ سنة 2011 وقد شغل منصب رئيس لجنة حقوق الإنسان بجنوب إفريقيا من 2001 إلى 2009، قبل تعيينه في سلك القضاء)، أحد أبرز المدافعين عن حقوق الإنسان الذي حكم في قضايا تتعلق بالتمييز العنصري الذي عانى هو نفسه من العنصرية في جنوب إفريقيا حيث رُفضت له قصيدة شعر في أكتوبر/تشرين الأول 2003.
وأجاب كولابن أن بلاده رغم أنها ما زالت تقترف بعض الجرائم العنصرية لكنها لم تمثل القاعدة مثلما كانت قبل 4 عقود، إذ أحرزت تقدمًا نسبيًا في ميثاق الحريات والتحول إلى وطن يعيش الجميع في ربوعه، لكن دعوة مانديلا لا تزال حلمًا لم يتحقق بعد، وربما “بعيد المنال عن مرمانا” على حد قوله.
ويشير القاضي السابق إلى أن حلم المناضل التاريخي لن يكون واقعًا في ظل المناخ غير الملائم الحاليّ، “من حيث انعدام المساواة، وطالما بقينا نبحث عن الأسباب في مربع الحقبة الاستعمارية ونظام التمييز العنصري”، مستدركًا أن تحقيق المساواة ليست مسألة صعبة لكنها تحتاج إلى عدة شروط منها “أن نتناول بكل نضج، في النقاشات، المسائل المتعلقة بالموارد، والتمييز الإيجابي، وحق ملكية الأراضي، وعلينا أيضًا أن نكون سباقين للأحداث. إذا لم نطوّر المجتمع بطريقة معقولة، فسوف يفلت منا معنى الوحدة”.
وحمّل رئيس لجنة حقوق الإنسان بجنوب إفريقيا الأسبق غياب حملات التوعية لمكافحة العنصرية في المدارس مسؤولية الوصول إلى هذه المرحلة المتأزمة، قائلًا “لدينا برامج لمكافحة العنف القائم على النوع الجنسي وضد كراهية الأجانب، لكنني لم أسمع البتة عن أي حملة ضد العنصرية، في حين أننا بحاجة ملحّة إلى مثل هذه الحملات”، وتابع “للأسف لا يزال العرق عنصرًا محددًا لنظامنا الاجتماعي والاقتصادي، وبالتالي للنظام السياسي. فمن السهل استخدام مفهوم العرق لإثارة المخاوف”.
وهكذا وبعد أكثر من 3 عقود كاملة على إنهاء نظام الأبارتايد (رسميًا) والثمن الفادح الذي دفعه مناضلو جنوب إفريقيا، ما زال حلم مانديلا في أن تكون بلاده واحة للمساواة ووطنًا يحوي الجميع دون تمييز، بعيد المنال، في ظل الإصرار على بقاء رواسب العنصرية الضاربة بجذورها في أعماق المجتمع وبنيته التشريعية والأيديولوجية، لكنها هذه المرة ليست عنصرية الأقلية البيضاء فحسب، بل زُج بالأغلبية السوداء إلى الفخ ذاته، ليتشارك الجميع مسؤولية إجهاض حلم المناضل الذي قضى زهرة شبابه من أجل العدالة والمساواة.