في عمل يعد الأول من نوعه، قامت الدكتورة “فاطمة الصمادي” الباحثة بمركز الجزيرة للدراسات والمتخصصة بدراسات الشرق الأوسط بالإشراف على ملف بحثي بعنوان “تنظيم الدولة الإسلامية: النشأة، التأثير، المستقبل” وتحريره، ويعد هذا الملف فريدًا في مدى تعقيده وشموليته، إذ لم تسبق أي محاولة بحثية بمحاولة مقاربة السياقات المختلفة التي أدت بهذا التنظيم إلى وضعه الحالي.
يقوم الملف بتحليل الظروف الفكرية والسياسية والاجتماعية المحيطة بالتنظيم على ثلاث فترات زمنية: الماضي أو نشاة التنظيم، الحاضر أو حالة التنظيم الحالية وقوته وتأثيره على الواقع، والمستقبل وشكل التغيرات المتوقعة لهذا التنظيم على مستقبل المنطقة.
يهدف الملف الذي جاء في قرابة التسعين صفحة إلى ستة أهداف:
1- معرفة خلفيات وأسباب صعود هذه الظاهرة.
2- معرفة التأثيرات التي تركتها الظاهرة على صعيد المجتمعات، والدول والعلاقات الدولية.
3- تقديم قراءة معمقة تمحص الصحيح والسقيم بشأن التنظيم.
4- محاولة بناء رؤية إستراتيجية لمواجهة الفكر الذي يغذي هذه الظاهرة.
5- تقديم نظرة استشرافية لمستقبل هذا التنظيم.
6- توفير معلومات ذات مصداقية عالية، وتحليالت معمقة عن تنظيم “الدولة الإسلامية”.
حاول الملف بالأساس تجاوز الزعم بفرادة التنظيم والتعامل معه خارج سياق الحركة الجهادية بشكل عام، إذ إن فهم التنظيم في السياق العالمي سينزع عنه هالة الرعب المحيطة به ويسمح بدراسته بشكل كفء، إلا أن هذا لا يجب في ذات الوقت أن يحول الأنظار عن التحولات والتطورات الحادثة داخل نظام الجهاد العالمي الفكري وتحرره من السيطرة النسبية السابقة لتنظيم القاعدة عليه، وبذلك استطاع الباحثون إلقاء نظرة أعمق على الخلاف الحادث بين تنظيمي الدولة والقاعدة لفهم طبيعة كل منهم بشكل أفضل.
أتى البحث الأول في الملف بعنوان “تنظيم الدولة الإسلامية: البنية الفكرية وتعقيدات الواقع”، وكان من كتابة الدكتور “معتز الخطيب” الأستاذ بمركز التشريع الإسلامي بجامعة حمد بن خليفة، وناقش البحث عددًا من محاولات تفسير نشأة تنظيم الدولة فكريًا وكان أهمها: السياق السياسي، النصوص الفقهية، الحالة الاجتماعية والنفسية، وحقيقة ظاهرة التفرد؛ وانطلق من هذا النقاش إلى أمرين: تجاوز الزعم “بفرادة” التنظيم وعزله عن السياق الجهادي الكامل، وتجاوز عملية تحويله إلى مجموعة من الخصائص والصفات التي يمكن وصف أي حركة أو مجموعة بها؛ وبهذا يصبح التنظيم كيانًا صلبًا واضح الحدود يمكن التعامل معه ودراسته عوضًا عن كونه حالة سائلة.
ويخلص البحث إلى أن التنظيم أتى كتطور داخل حركة الجهاد العالمي وليس خارجها نتيجة لتداخل النص بالواقع.
وكان البحث الثاني بعنوان “الجذور الأيديولوجية لتنظيم الدولة الإسلامية” من كتابة الباحث “شفيق شقير” المتخصص بشئون الشرق الأوسط والمشرق العربي، وكانت بالأساس محاولة لفهم التطورات التي جدت على الفكر الجهادي العالمي وتحديدًا فكر تنظيم القاعدة نتيجة للظروف السياسية والعسكرية وأدى لانشقاق تنظيم الدولة وتشكل أيديولوجيته الحدية العنيفة.
قام الباحث بمعاينة عدد من مواقف قادة هذه التنظيمات التي أدت لوصول الوضع لما هو عليه، بداية من الجهاد في أفغانستان مرورًا بالجهاد العالمي ونهاية بالقاعدة ما بعد وفاة بن لادن، ولاحظ أيضًا أهمية التحولات التي سببها أبو مصعب الزرقاوي على نهج وأيديولوجية تنظيم القاعدة في العراق أثناء قيادته له وما ترتب من ذلك على تشكل تنظيم الدولة لاحقًا، وأيضًا نتيجة قبول الظواهري بالديموقراطية ودعمه لمحمد مرسي مما يعني الكفر البواح في رأي تنظيم الدولة، وهذا يعني بالضرورة أن هذه التطورات في الرؤى الأيديولوجية لتنظيم الدولة ستعني تكون دولة متشددة في الداخل مرنة في تعاملها مع الخارج في حالة بقاء “خلافة” التنظيم قائمة، أو تكون جماعة جهادية أكثر يمنية من القاعدة ذاتها في حال سقوط هذه الخلافة.
أما البحث الثالث فقد عني بالمسائل الأكثر عملية فيما يخص التنظيم، أي بناءه الهيكلي والإداري ومصادر تمويله، تحت عنوان “البناء الهيكلي لتنظيم الدولة الإسلامية“، حاول الباحث “حسن أبو هنية” المتخصص في الجماعات الجهادية كشف الطريقة التي يعمل بها تنظيم الدولة في الحياة العملية.
وحاول الباحث الإجابة عن سؤال مدى قدرة هذا التنظيم على إدارة دولة، وبدأ بشكل تاريخي في تحليل البنى الهيكلية للكيانات التي انتهت إلى تنظيم الدولة كجماعة التوحيد والجهاد أو قاعدة الجهاد في العراق، وأتبع ذلك بالهيكل الإداري الحالي للتنظيم المكون من:
1- خليفة في مركز التنظيم له حق الطاعة وهو القائد السياسي والديني.
2- مجلس شورى يصدر القرارات ويرسم السياسات العامة.
3- أهل حل وعقد من الأمراء والقادة والأعيان.
4- هيئة شرعية تتولى تنظيم التحاكم الشرعي.
5- هيئة إعلامية.
6- بيت مال (بدأ في صك النقود مؤخرًا).
7- مجلس أمني واستخباراتي.
8- مجلس عسكري.
9- ولايات إدارية.
وحاول الباحث أن يقدم تصورًا لما خلف صورة الكفاءة الواضحة على التنظيم في إدارة الوضع في المناطق التي تحت سيطرته، وكذلك قدر التحديات الآتي مع التوسع في تكوين دولة حقيقية مع الكثير من الضغوط الداخلية والخارجية.
وفي البحث الرابع المعنون “عن داعش ومجتمعاتها: اللعب خارج السوسيولوجيا“، قام الصحفي “حازم الأمين” بتقصي الأصول الاجتماعية للجهاديين الذين يلتحقوا بصفوف التنظيم، وكيف أن هذه التجربة فريدة حيث جمعت أعداد ضخمة للغاية من الشباب من كافة أنحاء العالم، إلا أن هذا في حد ذاته قد تكرر فيما سبق في تنظيمات الجهاد المختلفة وليس في دولة كما تزعم داعش.
وعن طريق محاولة فهم الظروف المجتمعية السائدة في كل من الأردن، لبنان، العراق، تونس، وأوروبا، بدأ الباحث تكوين وجهة نظر عن التأثير الخطابي للتنظيم على طبقات وطوائف معينة في كل من هذه الدول مما ممكنه من اكتساب شعبية لدى بعض الشباب الذي يتجه في نهاية الأمر للتجند في صفوفه.
وتضمنت الدراسة شهادات من عائلات وشباب التحقوا بداعش وانتهت إلى أن تفسير الالتحاق بداعش لا يمكن قصره على الوقائع الصلبة والمنسجمة، وأن طبيعة التنظيم الأفقية (في مقابل الطبيعة العنقودية لتنظيم القاعدة) تسمح له بإدماج مكونات بشرية مختلفة تمامًا في نفس المكان بفاعلية نسبية.
وانتهى الباحث إلى التساؤل عن إمكانية النجاح في إبقاء دولة بشكل مستقر بينما مكوناتها على هذا القدر من التنوع والاختلاف.
أما الباحث تامر بدوي فقد سلط الضوء في ورقته على احتمالات تأثير (داعش) على المنطقة الأوراسية وخاصة القوقاز وآسيا الوسطى، وما هي المناطق التي قد تصبح هدفاً لعمليات التنظيم وكذلك الظروف التي قد يتم فيها تنفيذ مثل هذه العمليات. كما يطرح تساؤلات حول الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه العناصر بعد انتهاء الصراع أو انسحابها من الساحات القتالية والعودة إلى بلادها. تعتبر بلدان القوقاز وآسيا الوسطى بمواردها الغنية من أهم الدول التي يمر منها خطوط غاز ونفط إلى الصين, وروسيا, وتركيا, وأوروبا؛ ولذلك هناك مخاوف من استهداف هذه المصالح الحيوية.
وخلص بدوي إلى أن صعود خطر تنظيم الدولة الإسلامية سيسهم في التضييق أكثر على الممارسة الدينية في المجال العام في أوراسيا؛ وهو ما يعني أن أدوات علاج واستئصال الإرهاب التقليدية قد تعيد إنتاجه في مجتمعات هذه الدول ما لم يتم صياغة استراتيجية شاملة تتضمن إصلاحات سياسية نحو الدمقرطة والمزيد من الحريات وإصلاحات اقتصادية وتنموية تؤدي إلى المزيد من الشفافية والعدالة الاجتماعية. على المستوى الإقليمي والدولي تحتاج دول آسيا الوسطى والقوقاز إلى المزيد من التعاون الأمني والاستخباري لمراقبة تحركات عناصر تنظيم الدولة الإسلامية على نطاق أوسع.
أما الباحث طارق عثمان فيرى أنه يمكن النظر إلى تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) بوصفه كتلة من المفارقات، التي تتجلى في مستويات عدة. هذه المفارقات هي تعبير بليغ عن خيبات سياسية معممة؛ تجلَّت مفارقة تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) الأولى في سياق ظهوره في قلب الربيع العربي، والتي اعتبرت انطلاقته توقيعًا على شهادة وفاة أيديولوجيا القاعدة. كما يرى الباحث أن هناك مفارقات أخرى لداعش تتمثل في كنهها السياسي، وفي أثرها على سياسات الدول الخارجية والعلاقات بين-الدولية. وسأجادل عن كون هذه المفارقات يمكن النظر إليها كحالة من حالات خيبة الأمل السياسية المعممة.
ويعتقد عثمان أن علاقة واشنطن بأنقرة معرَّضة للتوتر بسبب تباطؤ الأخيرة في الانضمام للتحالف ضد (داعش) بصورة جذرية؛ حيث إن أنقرة لا ترى في عملياته ضد (داعش) وحده دونما استراتيجية شاملة تتضمن الإطاحة بالأسد، جدوى حقيقية.
ويؤكد الباحث في ختام ورقته أن خيبة الأمل الأشد وطأة والتي عبَّر عنها بزوغ (داعش)، هي خيبة الأمل في الربيع العربي، كحركة تحررية كان يُرجى منها أن تغير وجه المنطقة العربية إلى الأبد.
وحول مستقبل داعش ناقش الباحث محمد أبو رمان العوامل والمتغيرات المؤثرة في ترسيم مستقبل تنظيم “الدولة الإسلامية” ومصيره، في ظل الحرب الراهنة عليه، والتي تديرها الولايات المتحدة الأميركية عبر تحالف دولي وإقليمي.
وانطلق أبو رمان في دراسته من فرضيتين أساسيتين؛ تتمثل الأولى في أن النجاح الفعلي، طويل المدى، للحرب الراهنة، لن يتحقق إلا بشرط رئيسي يتمثل بفك التشابك بين تنظيم “الدولة الإسلامية” والمجتمع السني، والثانية ترتبط بما تمر به المنطقة بأسرها، من مرحلة انتقالية تشهد انهيارًا للدولة القُطرية وحالة من الفوضى وعدم الاستقرار، مما يعطي فرصة لصعود الميليشيات العسكرية ذات الطابع الطائفي أو الديني أو العرقي.
وخلص الباحث إلى أن القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية عسكريًّا لن يخلق حالة من الاستقرار الإقليمي ولن ينقذ الدولة القُطرية العربية؛ إذ تؤشر المعطيات الواقعية إلى أننا أمام مرحلة انهيار للتوازنات القديمة من دون خلق آفاق سلمية بديلة، وهي التي كان يمكن أن توفرها الثورات الديمقراطية العربية، لكن الطريق أمامها أصبحت متعرجة ومعقدة؛ ما يجعل من سيناريو الفوضى والعنف والتفتيت السياسي والجغرافي على أسس بدائية هو السيناريو المتوقع في المدى المنظور، طالما أن البديل الديمقراطي الوطني التوافقي ليس ناجزًا بعد في كثير من الدول والمجتمعات العربية؛ وذلك يعني أننا ندور في حلقة مفرغة من الصراعات والأزمات الداخلية والإقليمية الطاحنة
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات