محاولة تقفّي أثر الموتى سينمائيًّا لا تتقيّد برصد تأريخي للوقائع، بل تتحرر حتى من السرد المشهدي المتعارَف عليه، وتكتسب صلاحية الولوج إلى مساحة مختلفة تخصّ الموتى والأحياء معًا، لا تستند لثالوث الماضي – الحاضر – المستقبل كموتيف سردي بقدر ما ترسِّخ لأقصوصة عابرة للزمن، تجمع بين التأريخ والمخيال، صيغة ملتبسة في التعاطي مع الإرث، ومعنيّة برؤية الصانع للشخص الميت، بحيث تضعه في سياق إشارات وصور لا تنبعث إلا من خصوصية الحكاية بالنسبة إلى أصحابها وعوالمهم.
ولكن من المدهش أن تُخلَق هذه الصور ويجتمع على حبّها الكثير من المشاهدين، كل بطريقته الخاصة، بغضّ النظر عن الحالة الفنية للفيلم، إن كان ذا جودة جيدة أم رديئة، فمن خلال المعطيات الفنية الموجودة في فيلم المخرج الإيطالي باولو تافياني “وداعًا ليونورا” (Leonora Addio) يمكننا الإقرار بمستواه المتواضع ومشكلاته الفنية.
بيد أننا لا يمكننا بأي شكل إغفال نقاط قوته، ورصد أسلوبية تتأرجح بين الحنين للواقعية الإيطالية والتأثُّر بموت الفنان كفعل ملتبَس وما يجرّه من توابع تؤثر على الفرد، إلى جانب الرصد الجانبي للحياة في ظل الوجود الأمريكي بعد الحرب العالمية، وما بعد الفاشية العسكرية والثقافية.
تحرّك الواقعية الإيطالية باولو مع أخيه فيتوريو -الذي توفي عام 2018- في ظلها منذ ولادة الشغف السينمائي، ونمَت أذرعهم الفنية في حقبتها وبين أساتذتها، ليس كتلاميذ فقط بل كمجدِّدين ومكمّلين للإرث الفني، حتى موت أخيه الذي أثّر عليه فنيًّا وإنسانيًّا، ففنيًّا الاثنان تشاركا في إخراج كل التجارب السينمائية السابقة التي صنعت اسم الأخوين تافياني، وإنسانيًّا لرباطة الدم والفراغ الهائل الذي خلّفه فيتوريو.
لذا لا يمكننا رؤية الفيلم بمعزل عن هذه الظروف الاستثنائية للصانع، فالفيلم يبدو في مضمونه تحيّة ورثاء للأخ المتوفي، ليس ذلك فقط، بل احتفاءً بالسينما الإيطالية في أوج عطائها في الماضي، وهذا ليس غريبًا، فباولو يحمل بين طيات وجهه المغضّن 90 عامًا كاملة، من السينما والحياة والخبرة، وهذا ربما تصور متطرف لموت الفنان، فهو يرتبط برفات الكاتب الإيطالي لويجي بيرانديلو، الحاصل على جائزة نوبل عام 1934 في ظل الحكم الفاشي لموسوليني.
أعربَ المخرج باولو تافياني، في مفتتح فيلمه، عن نيّته في دمج الروائي بالتسجيلي، ليستدعي الحدث التاريخي في مستهلّ المروية البصرية، لقطة للويجي بيرانديلو وهو يتسلّم جائزة نوبل في السويد، مع صوت يدور في الخلفية يقول “إن الوصول إلى المجد لا يعوّض ما يتجرّعه المرء من ألم ومعاناة”.
يهدي بعدها باولو فيلمه لأخيه فيتوريو، ثم نرى شخصًا راقدًا على فراش داخل غرفة مطموسة الملامح، أشبه بالغرفة المصورة في “أوديسا” كوبريك، والأرجح أن الرجل المستلقي هو بيرانديلو نفسه في أيامه الأخيرة، يختصر باولو مفهوم الزمن بتوليف وتحويل للوجوه والأجساد، التعاطي مع اللحظة الأخيرة لبيرانديلو من خلال رصد شريط لمحطات زمنية بطريقة سينمائية، يشاهد وطأة الزمن في أجساد أبنائه الثلاثة وتغيراتهم النفسية.
ومن خلال هذا العبور الزمني يقترب هؤلاء بعقولهم وأفكارهم من والدهم الذي يُعتبر ذروة إنسانية مقارنة بالحيوات العادية، هذا التصور الشاعري لموت الفنان ينافي خصوصية بيرانديلو بالنسبة إلى عصره، الحقبة الفاشية، حيث يُعتبر واحدًا من مؤيّديها، ولا نوقن إذا كان هذا التأييد قسري، وهو الاحتمال الأرجح، أم أنه نابع من إيمان، وهذا يبتعد كل البُعد عن شاعرية الفنان وحبّه للخير.
بيد أن باولو لم يتطرّق لهذه الإشكالية، لم يتعرّض لإشكالية الفنان الأخلاقية، وفضّل التعرض بموضوعه لأثر الفنان، من خلال أقصوصة تعقُّب جرّة تحوي رفات الكاتب بيرانديلو، وخلال السردية يعرض المخرج 3 دفنات لشخصَين؛ اثنتان تخصّان بيرانديلو وواحدة لشخصية أخرى في الفيلم.
وعن طريق الخط السردي نتعرّف إلى عالم مختلف، يتعامل فيه المخرج مع رفات الكاتب وإرثه كشخصية رئيسية لها أبعادها وحضورها وتأثيرها الخاص الذي يتجاوز الإطار التاريخي بما يتضمّنه من ملامح، ويصل إلى مستوى التغيير الجذري للإطار البصري.
بعد اللقطة التسجيلية لبيرانديلو وهو يستلم جائزة نوبل، تظهر الافتتاحية الثانية للفيلم، حين يقطع على مشهد التسليم بلقطة تأسيسية يصوِّر فيها باولو سقف أو قبّة مسرح مغلق في قاعة هائلة، ويخلط اللقطة بصوت الجماهير الذي يتلاحم ويصطدم بالقبّة المجوَّفة للقاعة.
الجدير بالذكر أن باولو يفتتح بهذه اللقطة التأسيسية الثابتة التي ترصد السقف، ويختم باللقطة الثابتة نفسها، في المستهلّ والمنتهى يحافظ باولو على مثوله أمام المشاهد كعمل درامي، ينتمي إلى القاعات ويتحرك من المسارح وصالات العرض، يأخذ قيمته من عيون المشاهد، ويتكون في الممرّات الضيقة بين الكراسي والردهات المفتوحة.
فيما بين اللقطتَين يعرّف باولو فيلمه كمنتج إبداعي لا يصلح خارج إطار المعارض البصرية، يحدد إطارًا خارجيًّا للحكي، يدفع المشاهد إلى الرؤية الإبداعية الشاعرية ويبعده عن الواقعية البحتة، رغم انتمائه المباشر لروح الواقعية والماضي المألوف للسينما بعظمته.
يحقّق باولو تافياني فيلمه بمنهجية تعتمد على التوليف الجيّد بين عدة لقطات يضمّنها المخرج داخل سرديته البصرية، لتصبح بمثابة جسور فنية تربط خطوط القصة وتشدّ أوصالها التاريخية، يحيك باولو حكايته بمُؤالفة لقطات من أفلام أساتذة الواقعية الإيطالية، أشهرها فيلم Paisan من ثلاثية العبقري روبرتو روسيليني.
توليف لقطات تسجيلية وروائية معًا بغرض الدلالة التاريخية والإحالة للسينما الإيطالية في عصرها الذهبي أضاف إلى الفيلم من الناحية الفنية، ولكنه لم يقدّم شيئًا جديدًا للحكاية سوى الحنين، والتذرُّع بالقديم يمكن بسهولة إسقاطه على ضعف الفيلم من الناحية الفنية والأدبية.
والحقيقة أن القصة تمتلك متنًا جيدًا وتمَّ تحويلها إلى صيغة بصرية بشكل مميز وشاعري، ولكنها ليست فيلمًا قويًا من ناحية التقنية الحكائية نفسها، ولكنَّ جزءه الأول (بالأبيض والأسود) يمتلك صنعة بصرية شاعرية عظيمة، ترفعها من مجرد قصة لا تمتلك النضوج الكافي إلى تجربة بصرية ممتازة.
يتعاطى الفيلم مع الموت في 3 متتاليات قصصية يمكن ربطها جميعًا بشخصية بيرانديلو، تبدأ القصة في السيران مع موت الكاتب الشهير مخلفًا وراءه وصية مكتوبة بخط يده، أن يُحرَق ويُدفَن رماده تحت صخرة ضخمة في قريته بصقلية أو إلقاء رفاته في البحر حتى لا يبقى منه شيئًا.
بيد أن الأمور في حقبة إيطاليا الفاشية مختلفة عن السائد، فكل شيء يطوَّع من أجل بروباغندا فاشية، لا يمكن لموسيليني التفريط في مناسبة كهذه من دون جنازة، ولكن الوصية حالت عائقًا، فأُمر بحرق جثته ودفنها في مدفن روماني، ليظلَّ الفنان محبوسًا لـ 10 سنوات كاملة حتى انتهاء الحقبة الفاشية بعد الحرب، لترسل الحكومة مندوبًا لأخذ رفات بيرانديلو ودفنها كما كتبَ في وصيته.
ومن تلك النقطة تبدأ الأحداث بالتحرك نحو الأمام، ومن خلال تلك الحركة يعرض باولو لحقبة تاريخية، ويتعرّض للوجود الأمريكي والخرافة، ويتتبّع رحلة الدفن الثانية التي تستحوذ على معظم وقت الفيلم، ويتعامل مع جرّة الرفات كأنها صانعة للدراما، ليست مادة خالية من الحياة، إنما جزءًا حقيقيًّا من الدراما الحاضرة في الفيلم، من خلال الارتباط القوي بين مندوب الحكومة (الممثل الرائع فابريزيو فيراكاني) ورفات الكاتب.
لا يمثل هذا الارتباط ارتباطًا ماديًّا أو عاطفيًّا، بل ينبع من تقدير للهوية الإيطالية الفنية التي يبعثها المخرج خلال اللقطات في المنتصف، واحترامًا لرغبة الكاتب ذاته الذي ساهمَ في الكثير للأدب، وتعرِّفنا الرحلة إلى قيمة بيرانديلو الحقيقية بالنسبة إلى الناس، حتى كهنة الكنيسة أنفسهم كانوا متأثرين بقصص بيرانديلو.
الرحلة نفسها هي رحلة مضحكة مبكية، فيها الكثير من الموتيفات التي تقارن بين جيل الحرب وجيل ما بعد الحرب، الجيل الشاب والجيل الكهل، ولكن باولو لا يتخلّى عن الرؤية الطفولية للأشياء، فيخلق موقفًا مضحكًا حين يبحثون عن نعش ولا يجدون إلا نعش طفل.
ومن تلك النقطة يمكن أن نستخلص عدة إحالات، فالكاتب الذي تحول إلى رماد أضحى طفلًا بالصدفة، هذا المجاز يفتح مساحة للتخيُّل، ويدفعنا لمقاربة بين الإرث الهائل الذي خلّفه بيرانديلو العجوز حين دُفن في الجبانة الرومانية، والخفّة التي امتلكها والضحكات التي انتزعها عندما تحوّل إلى طفل محمول في نعش، طفل تنمحي خطاياه وذنوبه بالانخراط في الحقبة الفاشية، طفل متحرر من ثقل الحياة، مستعدّ لمواجهة الحياة الأخرى.
هناك مشهد آخر في القطار، حين يقابل المندوب زوجَين، أسير إيطالي سابق وامرأة ألمانية، لا يعرفان لغات بعضهما، لا يعرفان إلا الحب ويمارسانه في غفلة من العالم ليتواصلا بالغريزة التي تتماهى فجأة وتتحول إلى رمز أكثر سموًّا من جسدَين، رمز للاندماج الدولي بين البلدَين، رمز للانفتاح الحداثي الذي ستخلّفه الحرب.
يتجاوز الرفات الحيز المادي المرتبط بالواقعية، ويرتبط بالواقعية السحرية، يمتدّ أثره إلى التكوين الكلي للفيلم، فعند إطلاق بعض من رفاته نحو البحر، يتحول اللون السائد من الأبيض والأسود إلى الألوان العادية، هذا الإطلاق للبنية اللونية لتأخذ المساحة الباقية من السرد يُعتبر امتدادًا لشخصية بيرانديلو ذاتها، امتدادًا لإرثه وتراثه المعرفي والأدبي في التأثير على الحياة.
ومن هذه اللحظة يبدأ الربع الأخير من الفيلم، الذي لا أبالغ في وصفه ككارثة فنية أثّرت على الفيلم في كليته، وأحدثت اضطرابًا حقيقيًّا في السرد لأنها تطلّبت قطع القصة التي جرت على مدار ساعة، والانخراط في منتج بصري يتعرض لأحد قصص بيرانديلو “المسمار”، والتي لا أرى سوى كونها عائقًا لجريان الفيلم، وكبتًا لشاعريته التي صدّرتها ألوان الأبيض والأسود والخلط السينمائي لأصوات إبداعية عظيمة داخل النص، حتى الأداء التمثيلي لم يكن بالشكل المطلوب.
بالإضافة إلى أن الفيلم في ثلاثة أرباع وقته لم يكن معنيًّا بمنتج برانديلو الإبداعي والأدبي، بل بصوته وتأثيره على الواقع، ونقل رفاته داخل أجواء تاريخية ملهمة وكاشفة، الفيلم أشبه بمرثية للأوقات الجيدة والسعيدة، للماضي العالق في الذاكرة والعصر الذهبي للجنون السينمائي والوجود الفني الإيطالي.
ما جعل الفصلَين الأول والثاني من الفيلم جيدَين بشكل كافي هو الموسيقى التصويرية للمؤلف العبقري نيكولا بيوفاني، الذي ضاعفَ شاعرية الفيلم من خلال دمج طبقات الأبيض والأسود بموسيقى ترفع من نسق الفيلم وتحمله إلى مجاز مختلف، بجانب الأداء الجيد للممثل فابريزيو فيراكاني، أما بخصوص الربع الأخير فلم يكن على المستوى المطلوب، مجرد إقحام ليس بمحله أو امتداد للصوت الأدبي لم يضف شيئًا إلى الفيلم.