ترجمة حفصة جودة
ينظر علي جبارين – 60 عامًا – بحذر إلى الفضاء الخارجي لقرية جنبا إحدى قرى مسافر يطا في الضفة الغربية المحتلة، حيث يعيش، كان قلقه واضحًا حتى إنه أصاب جميع سكان القرية الذين يتوقعون هجومًا عنيفًا من الجيش الإسرائيلي في أي لحظة لإخراجهم قسرًا من منازلهم وتهجيرهم للأبد.
لم تكن جنبا القرية الوحيدة التي تواجه هذا الخوف، فبعد عقدين من المعارك القانونية، أصدرت المحكمة الإسرائيلية العليا يوم 4 مايو/أيار قرارًا يسمح للجيش الإسرائيلي بتهجير مئات الفلسطينيين من مسافر يطا وتصنيفها كمنطقة تدريب عسكرية للجيش، بحيث لا يحق للفلسطينيين العيش فيها.
كان هذا الحكم ردًا على عريضتين قدمهما 155 فلسطينيًا من مسافر يطا، إحداهما من خلال جمعية حقوق المواطن في “إسرائيل” (ACRI).
تقع مسافر يطا جنوب تلال الخليل وتمتد لأكثر من 30 ألف دونم، ويبلغ عدد سكانها 2500 مواطن موزعين على 12 قرية، وهم: جنبا ومفقره وخلة الديب ومغاير العبيد وأصفى الفوقا وأصفى التحتا والمجاز والتبان وطوبا والفخيت والحلاوة والمركز.
يعتمد الفلسطينيون الذين يعيشون هناك بشكل أساسي على الماشية والزراعة من أجل المعيشة، ومنذ ثمانينيات القرن الماضي، اعتبرت “إسرائيل” أراضي مسافر يطا منطقة عسكرية مغلقة لأغراض التدريب والمعروفة باسم “مرمى نيران 918”.
تمكنت السلطات الإسرائيلية من تهجير الفلسطينيين من مسافر يطا بالقوة عام 1999، لكن السكان تمكنوا من الحصول على أمر قضائي مؤقت يمكنهم من العودة، وفقًا لدراسة بمكتب الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة “OCHA”.
صراع منذ عقود
تعد جنبا أقدم هذه القرى، يقدر سكانها أنها بُنيت قبل 5 آلاف عام، وقد قالوا إنهم وجدوا بها آبارًا وأنقاضًا تعود للعصر الروماني، كما أنها إحدى أكبر القرى من حيث عدد السكان، حيث يعيش بها 300 فلسطيني موزعين على 30 عائلة.
اكتسبت جنبا أهميتها بسبب موقعها على طريق السفر التاريخي الذي بُني في أثناء العصر العثماني، ويربط مصر بالشام وكان يُستخدم لسفر القوافل التجارية، كما كان أحد الطرق الرئيسية للحج، حُفرت آبار المياه على طول الطريق وما زال عدد منها موجودًا حتى اليوم.
لم يكن الوصول إلى جنبا – المحاذية لصحراء النقب قرب الخط الأخضر لعام 1949 الذي يفصل “إسرائيل” عن الضفة الغربية – سهلًا، عبر فريق “ميدل إيست آي” طريقًا شاقًا وغير ممهد طوله نحو 6 كيلومترات، وفي منتصف الطريق أوقف الجيش الإسرائيلي الطاقم لفحص بطاقات الهوية وإجراء استجواب ميداني قبل السماح لنا بالعبور، وحدث الأمر نفسه في طريق العودة.
بدأ الجيش الإسرائيلي في نشر حواجز عسكرية قرب القرى الفلسطينية في المنطقة استعدادًا لتدريب عسكري في مسافر يطا وربما تمهيد الطرق بعد تهجير السكان الفلسطينيين الذي أصبح وشيكًا.
عند مدخل جنبا كان جبارين يمشى سريعًا ويتنقل بين منازل القرية ويتفقد المناطق المحيطة بها، يعد جبارين أحد أحفاد عائلة جبارين التي سكنت القرية منذ 1901، وتثبت الأوراق والوثائق العثمانية التي تملكها العائلة ملكيتهم للأرض.
إن القرار الأخير للمحكمة العليا الإسرائيلية الذي يضم قرية جنبا وجميع قرى مسافر يطا هو امتداد للسياسة الإسرائيلية التي تهدف إلى نشر سيطرتها على كامل المنطقة التي تعد بوابة لصحراء النقب
ومع ذلك، يقول جبارين إنه منذ الستينيات، تحولت الحياة الهادئة المستقرة الآمنة في القرية إلى حالة دائمة من الخوف، كان أول هجوم للجيش على القرية عام 1966، عندما هجرّ الجنود جميع السكان ودمروا 40 منزلًا ولم يتركوا إلا 4 منازل، عاد السكان بعد فترة وجيزة، ومنذ ذلك الحين لم تتوقف المعارك اليومية في هذا الصراع الطويل للبقاء على هذه الأرض.
يضيف جبارين “حدثت عملية الهدم مرة أخرى بين عامي 1984 و1985 ولا يمر عام دون هدم منزل أو تسليمه إخطار هدم، لقد وُلدنا على هذه الأرض ولا يمكننا أن نتركها ونرحل عنها”.
يقول السكان الفلسطينيون، إن القرار الأخير للمحكمة العليا الإسرائيلية الذي يضم قرية جنبا وجميع قرى مسافر يطا هو امتداد للسياسة الإسرائيلية التي تهدف إلى نشر سيطرتها على كامل المنطقة التي تعد بوابة لصحراء النقب، ويؤكد جبارين “لن نترك هذه الأرض إلا في حالة واحدة: إذا قرروا أن يقتلونا جميعًا”.
تعد أغلب المنازل في جنبا مؤقتة، فقد منع الجيش الإسرائيلي أصحابها من تطويرها وتحسينها أو حتى الإضافة إليها، وكذلك بقية قرى مسافر يطا، التي تعد معظمها منازل من الصفيح أو غرف من الأسمنت، كما يعيش بعض السكان في الكهوف.
أفضل من نيويورك
تقع إحدى الآبار الرومانية القديمة قرب مدخل جنبا وقد رممها وطوّرها السكان لاستخدامها في جمع مياه الأمطار في فصل الشتاء، حول البئر حيث كان يقف جبارين، انضم إليه خالد خليل جبارين ونعيم حسين جابر – كلاهما 61 عامًا – وبدأوا في الحديث عن ذكريات الطفولة في جنبا وكيف اعتادوا لعب الألعاب التي اخترعوها.
يقول خالد – أب لـ10 أبناء وجد لـ25 حفيدًا -: “لقد ورثنا وجودنا في هذه الأرض من آبائنا وأجدادنا، ورغم صعوبة الحياة هنا، فإننا نعتبر جنبا أفضل من نيويورك، والحياة فيها أجمل من الحياة في أفضل مدينة في العالم، نادرًا ما أغادر جنبا، لكن عندما أغادر أشعر أنني لا أستطيع التنفس، لا أستطيع أن أتنفس أو أشعر بالحياة إلا هنا”.
يحكي خالد القصة التي حكاها له والده وجده عن مركزية وأهمية جنبا كواحدة من أهم قرى مسافر يطا وأكثرها تطورًا لأنها كانت تقع على طريق الحج، قبل الأربعينيات كانت القرية تضم 4 متاجر، ما يشير إلى الحالة الاقتصادية النشطة فيها في ذلك الوقت.
يقول خالد: “كانت جنبا منتجعًا للفلسطينيين في مسافر يطا وبعض مناطق النقب، كانت منتجعًا صيفيًا لجمال جوها وانخفاض درجة حرارتها”.
يتمسك سكان جنبا بقريتهم رغم شظف العيش فيها، فلا توجد بنية تحتية خاصة خطوط الكهرباء، بدأت العائلات مؤخرًا في استخدام ألواح الطاقة الشمسية التي تسمح لهم فقط بتشغيل الثلاجات لحفظ الطعام، لا توجد كذلك أنابيب مياه، ما يجبرهم على نقل المياه يدويًا من البئر.
يقول نعيم جابر إنه ورث الكهف الذي يعيش فيه مع عائلته من جده، الذي بنى غرفة على قمته وعاش فيها، ويضيف “اشترى جدي قطعة أرض في جنبا بسعر باهظ حتى يتمكن من العيش هنا، حيث يوجد مساحة لرعي الماشية”.
أكثر ما يُقلق السكان، هدم مدرسة جنبا التي بُنيت عام 2008، التي يهتمون بها لتعليم أبنائهم كوسيلة لتطوير القرية وتعزيز وجودهم فيها
بالرجوع إلى الذاكرة، يتذكر نعيم طفولته في جنبا عندما كانت المصابيح تُضاء ليلًا بالزيت، يقول جابر: “اعتاد أطفال جنبا المذاكرة على ضوء المصابيح وتفوقوا ونجحوا، كما اعتادت النساء أيضًا الحياكة على ضوء المصابيح”.
“رغم المحاولات العديدة لتهجيرنا من جنبا، سنعود كل مرة ونتمسك بها، لا نخشى أي قرار تصدره “إسرائيل” وكما ثابرنا هنا، سيثابر أبناؤنا وأحفادنا”.
مدرسة تحت التهديد
التهديد الأكبر في جنبا يتمثل في نية “إسرائيل” هدم أبرز 3 معالم في القرية: مسجد القرية ومدرستها الوحيدة وآخر المنازل القديمة الباقية الذي يُستخدم كنادٍ اجتماعي للعجائز ويُسمى “منزل الختايرة”.
ربما أكثر ما يُقلق السكان، هدم مدرسة جنبا التي بُنيت عام 2008، التي يهتمون بها لتعليم أبنائهم كوسيلة لتطوير القرية وتعزيز وجودهم فيها.
تمكنت ابنة عيسى أبو عرام – 48 عامًا وأب لـ12 ولدًا وبنتًا – الكبرى من إنهاء درجة البكالوريوس قبل عامين، ولديه ابنان في الجامعة وآخر في المدرسة الثانوية، يقول أبو عرام “يدرس أبنائي في القرية حتى الصف التاسع ثم ينتقلون إلى قرية فخيت لإنهاء المدرسة الثانوية، أما أبنائي في الجامعة فيعيشون في يطا ويأتون هنا في إجازات نهاية الأسبوع”.
أوضح أبو عرام أن المدرسة الثانوية صعبة على سكان جنبا لأنهم يضطرون للسفر في طرق وعرة وخطيرة للوصول إلى مدرسة فخيت التي تبعد 3 كيلومترات، ويصبح هذا الطريق أكثر صعوبة في الشتاء ومواسم الفيضان.
يقول أبو عرام: “رغم كل الصعوبات، فنحن مهتمون بالتعليم وتعليم أطفالنا، لأن المتعلمين فقط بإمكانهم العيش هنا وتطوير القرية، إنني أصرّ أن ينهي أبنائي تعليمهم الثانوي على الأقل وأرفض استسلامنا تحت أي ظروف”.
تجاهل عالمي
رغم تمسكهم بالأمل في أثناء المعركة القانونية التي امتدت لـ22 عامًا في المحاكم الإسرائيلية، يشعر السكان الآن بالإهمال التام في صراعهم، بينما تلوح احتمالات التهجير في الأفق.
يقول نضال أبو يونس – رئيس المجلي المحلي لمسافر يطا – إن قرار المحكمة العليا الأخير له دوافع سياسية، ويضيف “قرار إعلان مسافر يطا منطقة عسكرية قرار سياسي يهدف إلى الاستيلاء على الأرض وطرد أصحابها واستبدالهم بالمستعمرين”.
هذا الحكم في شهر مايو/أيار من أخطر القرارات التي صدرت ضد مسافر يطا، فهو يعطي الضوء الأخضر لبدء عملية هدم منازل الفلسطينيين بما في ذلك 4 مدارس وتهجير السكان، يقول أبو يونس: “يستهدف القرار بشكل مباشر 8 من أصل 12 قرية، لكنه في الحقيقة سيؤثر على كامل الوجود الفلسطيني في المنطقة”.
يخشى سكان مسافر يطا الآن على مصيرهم ووجودهم في أراضيهم لأن تطبيق القرار الفعلي قد يتم في أي لحظة، رغم أنهم يخشون أيضًا أن يُطبق تدريجيًا وفي صمت.
يقول أبو يونس: “يقاوم الفلسطينيون اليوم في مسافر يطا وهم لا يملكون إلا احتياجاتهم الأساسية، وفي الوقت نفسه، يتجاهلهم العالم أجمع، يجب أن يفتح العالم عينه اليوم وينظر إلى ما تفعله “إسرائيل” بنا ويتخذ موقفًا إنسانيًا من قضيتنا”.
المصدر: ميدل إيست آي