تبدأ بـ10 آلاف دولار أمريكي ولا تنتهي بـ100 ألف.. هذه المبالغ ينفقها أهالي المعتقلين السوريين في سجون نظام الأسد لمعرفة مصير ابنهم المعتقل أو في أي سجن، هل لقيَ حتفه تحت آلة التعذيب أم جرى إعدامه؟ هل صدرَ حكمٌ من قبل المحاكم العسكرية أو ما تُسمّى محاكم الإرهاب أو أي محكمة استثنائية، أو لم يصدر أي حكم بعد؟ هل لا يزال ذاك المعتقل في أقبية الأفرع الأمنية أم تمّت إحالته لأحد السجون المظلمة؟.. آلاف العائلات باعت منازلها وممتلكاتها ووقعت ضحية عمليات نصب واستغلال طمعًا في بارقة أمل بشأن مصير أبنائها.
على الضفة الأخرى، ضباط أمن ومخابرات وقضاة ومحامون وشبكات نصب واحتيال والكثير من زعماء الميليشيات المحلية والمقرّبون من رأس النظام، جنوا ثروة هائلة جرّاء استغلال ذوي المعتقلين المتلهفين لمعرفة مصيرهم أو العمل على الإفراج عنهم.
لغة الأرقام
وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان بالاسم اعتقال 132 ألف مواطن سوري بشكل تعسفي من قبل الأجهزة الأمنية في حكومة نظام الأسد، منذ مايو/ أيار 2011 وحتى مايو/ أيار 2022، لا يزال مصيرهم مجهولًا، وقرابة 87 ألفًا هم في عداد المغيَّبين قسريًّا.
أيضًا نحو 100 ألف سوري اختفوا خلال تنقُّلاتهم في الأراضي السوري في العامَين 2011 و2012، عندما كانت نقاط التفتيش والحواجز التابعة لجيش نظام الأسد والميليشيات المحلية وحواجز الأجهزة الأمنية تنتشر عند مداخل ومخارج كل مدينة وبلدة سورية، وعند التقاطعات الطرقية والعقد المرورية، ما لا يترك مجالًا للشكّ بأن هؤلاء المختفين هم في سجون نظام الأسد، أو راحوا ضحية مئات المجازر السرّية، كمجزرة حي التضامن التي كُشف الستار عنها مطلع مايو/ أيار الماضي.
استغلال منظَّم
معهود عن المنظومة الأمنية في حكومة الأسد، ضباطًا وعناصر، بالفساد، وأنها منظومة موجودة لإرهاب السوريين وابتزازهم منذ تولّى الأسد الأب الحكم في سوريا وحتى اليوم، كذلك الحال بالنسبة إلى القضاء الذي أصبح نسخة طبق الأصل عن الأفرع الأمنية.
فكل ضابط ذي رتبة عالية حوله ضبّاط برتبة أصغر يعملون كسماسرة، وكل قاضٍ حوله مئات المحامين يعملون كسماسرة، السمسار هنا مهمّته تكمن في أن يكون حلقة وصل بين ذوي المعتقل والضابط الأكبر صاحب النفوذ الواسع أو القاضي، يقدمون بعض التفاصيل عن المعتقل كالتُّهم المنسوبة إليه، في أي فرع أو سجن، الحكم الصادر بحقّه، حالته الصحية، وغالبًا ما يستغلون الجانب الصحي في أن يخبروا أهل المعتقل بأن حالته الصحية سيّئة للغاية وعليهم تأمين المال اللازم لإخراجه.
يقوم السمسار بتقديم وعود لتحسين ظروف المعتقل مقابل مبلغ من المال، أو تأمين اتصال بين المعتقل وأهله مقابل مبلغ آخر، أو تقديم ملفه والإسراع في عرضه على القضاء مقابل مبلغ آخر، وكل تحرك يكون مقابل مبالغ لا تقلّ عن 5 آلاف دولار أمريكي.
بدوره يقوم السمسار الضابط أو المحامي بدفع الرشاوى لمسؤولين أمنيين ورؤساء السجون وضبّاط الأفرع الأمنية لتحقيق تقدُّم ما في قضية المعتقل، قبل أن يطلب مبالغ كبيرة وصلت في بعض الحالات إلى 100 ألف دولار أمريكي تكون حصة الأسد منها للقاضي أو رئيس فرع أمني، لقاء الإفراج عن المعتقل.
التقى موقع “نون بوست” بأبو محمد (اسم مستعار لأب يخشى الانتقام من ابنه المعتقل) الذي تحدّث عن اعتقال ابنه محمد عام 2011، عندما غادر المنزل من إحدى قرى ريف إدلب إلى مدينة إدلب لتقديم امتحانات السنة الثانية من جامعته.
معظم حالات النصب والاحتيال التي تمَّ رصدها كان يقف وراءها ميليشيا الدفاع الوطني، وهي ميليشيات عسكرية محلية غير نظامية
يستذكر أبو محمد الأيام الأولى لاختفاء ابنه: “أبلغني أحد أصدقاء محمد بأن حاجزًا يتبع للفرقة الرابعة من جيش النظام قام باعتقاله عند دخولهم مدينة إدلب، بعد نحو أسبوع علمنا أنه في فرع الأمن العسكري في المدينة، ولمدة شهر ونصف لم نتمكّن من الوصول إليه أو معرفة أسباب اعتقاله”.
مكملًا: “إلى أن وصلت إلى أحد المقرّبين من فرع الأمن العسكري وتلقّى مبلغ 300 ألف ليرة، أي ما يعادل 5 آلاف دولار أمريكي، ليتّصل في اليوم التالي ويخبرني بأن محمد تمَّ تحويله إلى حلب، وهو متّهم بالخروج في مظاهرات غير مرخّصة ومحاولة قلب نظام الحكم وزعزعة أمن المجتمع والدولة، وهي التهم التقليدية التي ينسبها نظام البعث إلى جميع معارضيه”.
وفي حرقة قلب لم يتمكّن أبو محمد من إخفائها يكمل: “في أواخر العام 2012، بعد حوالي عام ونصف من اختفاء محمد، وصلَنا خبر منه أنه موجود في سجن عدرا، وأن حالته الصحية ليست على ما يرام، بعد شهر واحد تمكّنت والدته من زيارته وكان يعاني من كسور في عظام الذراعَين”.
“على الفور بدأنا نبحث عن القشة التي ستنجينا من الغرق وتوصلنا إلى محامية كانت على علاقة وثيقة بشعبة الاستخبارات في دمشق، وطلبت مبلغ 10 آلاف دولار أمريكي حتى تسقط عنه التهم المنسوبة إليه، فقمت ببيع قطعة أرض أملكها وسيارتي، واتفقنا على طريقة تسليم الأموال”.
“وبالفعل في أبريل/ نيسان أخبرتنا أن محمد سيحاكَم مرة أخرى خلال مدة أقصاها شهر، وتمّت محاكمته وخرجَ ودفعنا المبلغ المتّفق عليه، ليتم َّاعتقال محمد من جديد بعد أقل من 24 ساعة على خروجه من عدرا، أثناء عبوره على حاجز القطيفة التابع لقيادة الفرقة الثالثة من جيش نظام الأسد”.
ويكمل أبو محمد: “منذ ذلك الحين وحتى اليوم لم أصل إلى خبر يقين عن محمد أين هو أو لماذا أُعيد اعتقاله، خلال السنوات الثمانية الأخيرة تعرّضتُ لعمليتَي احتيال، الأولى عام 2015 عندما تواصلنا مع ضابط في فرع المخابرات الجوية، تلقّى مبلغ ألف دولار ليخبرني في النهاية أن محمد موجود في سجن صيدنايا سيّئ السمعة”.
“أما الثانية كانت في يونيو/ حزيران الجاري، عندما تمكّنت من الاتصال بشخص ادّعى أنه قادر على زيارة محمد في صيدنايا ويطمأننا عنه مقابل 600 دولار أمريكي، لكن بعد أن استلم المبلغ قام بتغيير رقم هاتفه”.
شبكات نصب واحتيال
معظم حالات النصب والاحتيال التي تمَّ رصدها كان يقف وراءها ميليشيا الدفاع الوطني، وهي ميليشيات عسكرية محلية غير نظامية، انتهى المطاف بها باسم “الفرقة 25 مهام خاصة” بقيادة العقيد المتقاعد سهيل الحسن، بتبعية مباشرة إلى قيادة القوات الروسية في سوريا (قاعدة حميميم الجوية).
هذه الشبكات كان تحتال على ذوي المعتقلين بأساليب متعددة، أحد ضحاياها كان الأستاذ عمر الأحمد من ريف محافظة حلب، ويروي لـ”نون بوست” ما جرى معه: “كان شقيقي الأصغر باسم مجندًا إجباريًّا في الجيش السوري منذ العام 2010 في الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد، شقيق رأس النظام السوري، ومع قيام الثورة السورية وانتشار الجيش في المدن السورية تمَّ نقل باسم إلى مدينة دير الزور، والتي رفض فيها المشاركة في قمع المظاهرات واستهداف المدنيين، ليقوم المكتب الأمني في الفرقة باعتقاله في يوليو/ تموز 2011 بحسب ما وصلنا من رفاقه”.
مضيفًا: “ومنذ وصول نبأ اعتقاله لم ندّخر جهدًا في البحث والسؤال عنه دون نتيجة، وبقيَ الحال كما هو عليه حتى عام 2019 عندما راسلني على فيسبوك شخص اسمه وسيم الصواف من مدينة حماه، وأرسل لي صورة لشقيقي باسم كنت قد نشرتها على حسابي، وأخبرني وسيم بأنه سُجِن في سجن صيدنايا لأنه حاول الانشقاق عن قوات النظام والتقى بباسم هناك، وأنه يعرف محاميًا له علاقات واسعة مع الأفرع الأمنية بإمكانه أن يخرج باسم من السجن كما أخرجه”.
ويكمل عمر ما جرى بينه وبين وسيم بعد أن قدّم وسيم لعمر معلومات عن باسم، كدراسته واسم قريته ومتى تمَّ سوقه للخدمة العسكرية ومن أين تمَّ اعتقاله، جميعها تفاصيل حقيقية جعلت عمر يثق بوسيم ثقة عمياء لا تترك مجالًا للشكّ بأنه قد يكون محتالًا.
ويقول الأستاذ عمر: “قام وسيم بإعطائي رقم المحامي الذي عرّف نفسه باسم “أحمد الشهابي من مدينة دمشق”، وكان وسيم قد أوصاني عدة توصيات للتواصل مع المحامي الذي طلب في البداية مبلغ 500 دولار أمريكي كأجور توكيل ومصاريف وقمت بتحويلها على الفور”.
“وبعد نحو أسبوع أبلغني بوجود باسم في سجن صيدنايا، ومحكوم لمدة 20 عامًا بتهمة عصيان الأوامر العسكرية ومحاولة الفرار من الخدمة الإلزامية، وأنه سيعمل على استئناف الحكم وتخفيض المدة إلى النصف ونقله من سجن صيدنايا إلى سجن عدرا لإكمال المدة، وطلب مبلغ 10 آلاف دولار أمريكي مقابل وعوده، واتفقنا على تحويل نصف المبلغ مباشرة والنصف الثاني عندما يصل باسم إلى سجن عدرا”.
ويختم عمر حديثه بأن كان يرسل في كل مدة مبالغ صغيرة تتراوح من 100 إلى 300 دولار إلى المحامي وإلى رفيق باسم الذي كان يعاني ظروفًا مادية صعبة، إلى أن رأى عام 2020 صورة باسم بين الصور التي سرّبها الضابط المنشق عن النظام السوري “قيصر”، وعندما واجههما بالحقيقة استهزآ به وأهاناه وشتما شقيقه باسم الذي وصفاه بالخائن للوطن، وكشفا هويتهما بأنهما من عناصر الفرقة 25، واعتبرا ما قاما به انتصارًا على الخونة”.
ابتزاز بلا نهاية
العم أبو عمران (اسم مستعار لعدم الانتقام من المعتقلين) يروي لـ”نون بوست” واحدة من عمليات الابتزاز والضغط التي تمارسها ميليشيات موالية لنظام بشار الأسد، ويقول: “اعتقلت ميليشيا حزب الله اللبناني عام 2019 عددًا من الشباب والأطفال والنساء من عائلة واحدة في إحدى قرى القلمون في ريف دمشق الغربي، وساقتهم إلى الفرع 235 أو ما يُعرَف باسم فرع فلسطين سيّئ السمعة”.
“قام وجهاء العائلة بمفاوضة قادة ميليشيا حزب الله في المنطقة وعرضوا مبالغ مالية وصلت إلى 200 ألف دولار أمريكي مقابل الإفراج عنهم، إلا أن الميليشيا رفضت وطالبت بجثة أحد قادتها الذين قُتلوا في اشتباك مسلّح مع فصائل المعارضة في المنطقة ذاتها، وتذرّعت بأن أحد أقارب العائلة، والذي كان قائد كتيبة عسكرية في الجيش السوري الحر وتهجّر قسريًّا إلى الشمال السوري، هو المسؤول المباشَر عن مقتل القيادي الذي تحاول استعادة جثته”.
ويكمل أبو عمران: “بعد ضغط من قبل وجهاء المنطقة على ما يُعرَف بمسؤولي المصالحة الوطنية وتقديم عروض أفضل، أفرجت ميليشيا حزب الله عن 3 نساء كنّ معتقلات في عملية الابتزاز تلك مقابل مبلغ 50 ألف دولار أمريكي عن كل سيدة، فيما أبقت على الرجال والأطفال قيد الاعتقال منهم لم يتجاوز عمره 14 عامًا عندما اعتقلوه”.
ويتساءل العم أبو عمران ما ذنب هؤلاء المدنيين والأطفال ليعاقبوا جسدّيًا ونفسيًّا ويدمَّر مستقبلهم في ذنب لم يقترفوه ولم يعلموا به، هذا إن لم يتعرضوا لعملية انتقامية تنهي حياتهم.
وبحسب تقرير لرابطة المعتقلين والمفقودين في سجن صيدنايا عام 2021، يستخدم النظام السوري عمليات الإخفاء القسري والاعتقال كوسيلة لجني الأموال ومراكمة الثروات، وزيادة نفوذ الأجهزة الأمنية وقادتها والنافذين في الحكومة وبعض القضاة والمحامين، حيث تعود هذه العمليات الابتزازية بمدخول مالي ضخم جدًّا على أجهزة النظام الأمنية.
وأضافت الرابطة في تقريرها أن “عمليات احتجاز الأشخاص وخطفهم وإخفائهم هي أيضًا استراتيجية من قبل السلطات لتمويل مؤسساتها بعد انطلاقة الثورة السورية عام 2011، وخصوصًا بعد بدء فقدان النظام السيطرة على مناطق شاسعة في البلاد عام 2012 والأعوام التي تليه”.
أخيرًا.. إن محن السوريين كثيرة، لكن أكثرها مدعاة للأسى هي محنة المعتقلين وذويهم، إذ إن معظمهم اعتقل لأسباب تتعلق بحرية الرأي والاحتجاج السلمي وقد مضى على تغييبه أكثر من 10 سنوات بلا محاكمة، فيما يجهل أهله مكانه وتصلهم أنباء متضاربة عن مصيره ما يجعلهم ضحايا لشبكات الابتزاز وتجار المآسي، لكن حقًا، هل العالم كله عاجز عن فعل شيء لوقف هذه المأساة؟