ترجمة وتحرير: نون بوست
تم تأجيل العرض الأول من مسرحية “ثلاثية المشردين” الملحمية المشوقة لمنى منصور التي تتحدث عن النزوح الفلسطيني، طوال السنتين الماضيتين؛ بينما ظل موضوعها مسكوتًا عنه لما يقارب 33 سنة في المسرح العام في نيويورك. ففي سنة 1989 – بعد سنتين ونصف من الانتفاضة الأولى التي أوصلت صدى عنف الاحتلال الإسرائيلي إلى غرفة معيشة الأمريكيين عبر نشرة الأخبار المسائية – قام جوزيف باب مؤسس المسرح العام في نيويورك ورئيسه في ذلك الوقت على نحو مفاجئ بإلغاء العرض التجوالي لمسرحية بعنوان “قصة كفر شما” وهي مأساة رثائية تتحدث عن رجل فلسطيني في سعي دام أربعين سنة للعثور على أقاربه وجيرانه الذين أرغِموا على ترك قراهم في سنة 1948.
سحب جوزيف باب العمل من شركة مسرحية في القدس الشرقية وحجته في ذلك أنه لم يرد إهانة الجمهور اليهودي وأنه لم يقدم أي مسرحيات إسرائيلية في مسرحه.
وفي الواقع، ظلت الأكاذيب والافتراضات سيئة النية الكامنة وراء منطق جوزيف باب التي لا تعد ولا تحصى – من قبيل أن مجرد سرد قصة فلسطينية هو بمثابة توجيه لكمة لإسرائيل وبالتالي اليهود، وأنه يجب حماية الجمهور من تلك المشاعر المزعجة، وأن كل اليهود يفكرون بنفس المنطق تجاه إسرائيل، وأن الأعمال الفنية يجب “موازنتها” بأعمال أخرى – تُعتمد كمبررات لإلغاء المسرحيات والمعارض والفعاليات المتعلقة بالكُتّاب والمواعيد الأكاديمية في العقود الثلاثة التي تلت ذلك. وبينما تكثفت الجهود السياسية لتكميم الأفواه المعبرة والمؤيدة لفلسطين – منذ شهر ماض، أعلنت منظمة مكافحة التشهير أن مجموعات التضامن الفلسطينية هي “انعكاس” للعنصريين البيض، وأن لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية تضخ ملايين الدولارات من أجل هزيمة المرشحين التقدميين للكونغرس من خلال لجنتها الجديدة للعمل السياسي، مشروع الديمقراطية الجديد – بدأت العديد من المؤسسات الثقافية على مرّ السنين في استيعاب المغالطات الكامنة وراء مثل هذا القمع والعدوانية، وكذلك حملات الافتراء التي تقف خلفها، وقد مضت قدمًا وبرمجت أعمالًا رغم احتمال وقوع هجوم أو تداعيات.
التزم المسرح العام بعرض عمل منى منصور منذ أكثر من عقد من الزمان عندما قدمت مسرحيتها ذات الفصل الواحد “الرغبة في المضي” – التي أصبحت في النهاية بفضل لجنة هناك القسم الثالث من “ثلاثية المشردين”. عُرضت أجزاء فردية من الثلاثية في كنتاكي وكاليفورنيا وماساتشوستس. وكانت المسرحية الكاملة المكونة من ثلاثة أجزاء، التي استمر عرضها حتى 15 أيار/ مايو ويُنظر بالفعل في إمكانية عرضها في أماكن أخرى في الموسم المقبل، أول إنتاج كامل للمسرح العام يُعالج تداعيات النكبة الفلسطينية. وقد امتلأت قاعات العرض بالمتفرجين. وقد دفعت هذه المسرحية الجمهور لمواجهة الذرائع ذاتها، من بين أمور أخرى، التي سحقت مثل هذه القصص في الماضي.
تقدم المسرحية في عمل فني معقّد مليء بالعاطفة الجياشة المغلفة بالفكاهة اللطيفة نتيجتين محتملتين لأزمة النزوح. تدور أحداث الفصل الأول بعنوان “ساعة الشعور” في حزيران/ يونيو 1967، حول عالم أدبي ناشئ يدعى أدهم (يجسده الممثل هادي طبال) أنهى الجامعة للتو وزوجته الجديدة عبير (الممثلة تالا آش) يزوران لندن، حيث يلقي الزوج محاضرة جامعية عن ويليام وردزورث. في الأثناء، تندلع الحرب في الوطن ويجب على الزوجين أن يقررا ما إذا كانا سيعودان إلى قريتهما خارج رام الله أو يظلا في إنجلترا
يُظهر الفصل الثاني بعنوان “المشردون”، الذي تدور أحداثه في سنة 1982 الشخصيتين أدهم وعبير بعد الطلاق وبعد أن مكثا في المملكة المتحدة، بينما يأمل أدهم سدى في الترقية إلى رتبة أستاذ جامعي ويخالجه الارتباك من توقعات قسمه بأن بحثه – الذي يواصل التركيز على وردزورث والرومانسيين – يتخذ نهج ما بعد الاستعمار بسبب هويته. يحاول زميل أقدم متعجرف أن يشرح: “سيكون عملك أكثر إثارة للاهتمام بالنسبة لنا، إذا كان بإمكانك أن تكون مشابهًا لنفسك”.
في الفصل الثالث بعنوان “الرغبة في المضي”، انتقال لفرضية لو أن أدهم وعبير اتخذا الخيار المعاكس في نهاية الفصل الأول، وتدور الأحداث في سنة 2003 بعد أن عادا معًا إلى الضفة الغربية قبل 36 سنة، ويعيشان في خيمة مكتظة في مخيم للاجئين في جنوب لبنان مع طفليهما المراهقين وعميهما.
كان الانتقال بين مختلف الأحداث على امتداد ثلاث ساعات ونصف من عرض المسرحية سلسًا، وقد تطرقت ثلاثية “المشردون” إلى معنى الوطن ومهمة الأدب والتأثير الحتمي للقوى التاريخية الكبرى على أدق تفاصيل حياتنا اليومية. من خلال الترابط الثري بين النصوص الأدبية، تصوّر المسرحيّة طائفة من الشخصيات ذات الوجهات المتضاربة لكل منها ملامح محددة بدقة. وفي المشهد الأخير لطبال وآش، نرى الطاقة الشابة ونزاعات التبجح لشخصيات في أواخر منتصف العمر آمالها ممزقة. وتتضح من خلال الفصول الثلاثة للمسرحية الأدوار الكارثية التي لعبتها كل من بريطانيا وإسرائيل ولبنان في المحنة الفلسطينية.
لإنشاء عالم خاص بكل مشهد، يؤدي طاقم من ستة ممثلين بنباهة ما مجموعه 18 دورًا، وتستحضر الملابس الخاصة بكل فترة والموسيقى التصويرية الذكية الحركة عبر عشرات السنين. تتحرك الألواح الخشبية والأثاث للداخل والخارج خلال أول مشهدين للتعريف بالمكان بالإضافة إلى الإسقاطات الرائعة التي تجعل معالم الموقع مجردة مما يستحضر إحساس أدهم بالهدوء: صورة مجمّعة من الإشارات المائلة في شارع لندن بينما يشق طريقه المرتبك إلى قاعة المحاضرات، وفي صورة مقربة كبيرة تُرى نصلات من العشب تتأرجح مع النسيم عندما يزور منطقة أرض البحيرات المفضلة للشاعر ويليام وردزورث.
يتضمن الفصل الأخير مكانًا واحدًا: غرفة المعيشة في خيمة لاجئين حيث تُشدّد الأقمشة السميكة متعددة الألوان التي تغطي جدرانها حالة السكون الخانق لما يسميه حمزة شقيق أدهم “منزلنا المؤقت لمدة ستين سنةً” – وهو نوع مختلف من التشرّد. وتتشابه الأسرة واللاجئون بشكل عام (مثل ما يبينه أحد مقاطع وردزورث العديدة المقتبسة في المسرحية) مع “المشردين الذي يسكنون الغابات الخالية من المأوى”.
بصفته موضوع بحث أدهم، يصبح وردزورث مصدرا للتوتر والإلهام في نفس الوقت. من وجهة نظر معينة، يتماثل أدهم مع الفتنة التي تمارسها التضاريس المحببة على خيال وردزورث، وهي الفتنة التي لا تحتاج أن تسكن جسده ليحملها في عقله وقلبه. يوضّح أدهم أن “شاعر الطبيعة العظيم” يعرّف نفسه كجزء من الهدف الكبير للروح فقط عندما يتخلى عن ارتباطه بالمناظر الطبيعية التي ألهمته للكتابة في المقام الأول. كما يتضح أن أدهم يعاني من صدمة مختبرة وموروثة: فقد هربت والدته المتطلبة من الجليل إلى لبنان سنة 1948 مع زوجها وابنيها، لكنها رفضت البقاء في مخيم اللاجئين وعادت إلى الضفة الغربية فقط مع أدهم الذي كان رضيعًا، حيث كانت تسعى جاهدة لتعليمه ومنحه فرص لحياة أفضل. ونرى كيف يسعى أدهم إلى العيش بروح رومانسية تمجد الطبيعة وتتجاوز الخصوصية التاريخية للمكان؛ إنه يتوق إلى أن يُنظر إليه على أنه فرد في الموجة العالمية للبشرية.
في الوقت نفسه، يتبين أن وردزورث بدوره لم يستطع تجاوز حدود التاريخ. في مشهد حاسم في صفه، يقوم أدهم وثلاثة طلاب بتحليل أبيات من قصيدة “المقدمة” للشاعر وردزورث الذي يتناول الفترة التي قضاها في فرنسا خلال الثورة الفرنسية. لقد ناقشوا المقطع الذي كتب فيه وردزورث: “أنا الذي داعبت والنسيم ورقة خضراء على الشجرة المباركة من بلدي الحبيب – الآن أُبعِدتُ عن مكاني الهنيء، وتناثرت في قلبي الزوابع”. ولا يسعنا في هذا الموقف إلا أن نسمع أصداء فلسطين.
يتجه الطلاب البريطانيون إلى مناقشة أبيات مختلفة ونظرا لعدم موافقة أدهم يتجادلون حول دور المعلومات “خارج سياق النص الأصلي” في تفسير العمل، لا سيما المقطع الذي كتب فيه وردزورث: “نعم لقد فرحت، فبعد ذلك، من المؤلم تدوين الحقيقة، أنا مبتهج بانتصار روحي عندما سقط الآلاف من الإنكليز، أو تُرك أولئك ذوو القلوب الشجاعة بلا مجد في الميدان أو مدفوعين إلى رحلة مخزية”.
يحاول أدهم، بغضب، دفعهم نحو ما يعتبره نقطة نهاية سخيفة لتحليلهم بينما يناقشون التفجيرات الأخيرة التي قام بها الجيش الجمهوري الأيرلندي في لندن. يقول أحد الطلاب: “نحن نكره الوسيلة ليس السبب”، ليرد آخر بسرعة “من نحن؟”. انتهت المشاحنات الصفية بتكبد أدهم ترقيته بعد أن شكاه طالب إلى المدير الذي يتهم أدهم قائلا: “هل تفرح كفلسطيني بهذه الفظائع؟” في غضون ذلك، كانت إسرائيل تقصف بيروت.
تصوّر منى منصور هنا التفاوت بين المقاومة والإرهاب بمهارة، بينما تكذّب أيضًا الاتهام المتكرر بأن العرب يميلون بشكل غير طبيعي إلى مهاجمة المدنيين. وفي الوقت نفسه، تسمح للجمهور بفهم تصورات أدهم أكثر مما يفعل هو نفسه. وفي رسم بطل الرواية الذي يتحدى الصورة الأكاديمية الصاعدة في الثمانينيات، تسلط منصور الضوء على نفس الاتهامات التي غالبًا ما يتم إطلاقها في الأعمال المتعلقة بفلسطين. يقول عضو هيئة تدريس مبتدئ لأدهم في إشارة إلى زملائه المدراء: “انظر، بالنسبة إليهم وبغض النظر عما تفعله، فطالما كونك فلسطيني فأنت متعلق بالسياسة”. لا فرق عندهم، كما يقول أدهم في رده: “لا أفكر في ذلك”.
تلعب هذه اللحظة دورًا متحفظًا في مواجهة تبادل اتهامات سابق عندما تشتكي والدة أدهم من انفجار الألعاب النارية في إسرائيل بالقرب من منزلهم. تقول والدة أدهم في المسرحية “كيف يسمونه عيد الاستقلال ولا يغصّون بالكلمات؟”، وتضيف: “إنهم يحتفلون بإخراج الناس قسرًا من منازلهم؟ وبقتل الرجال والنساء والأطفال؟”. فيحذرها أدهم من أن “تصبح سياسية”، فترد عليه: “من الذي يصبح سياسيًا؟”.
من وجهات النظر المختلفة، تطلب المسرحية منا الاستماع إلى من تعتبر قصصهم حكايات لتجارب معينة، ومن يُنظر إلى قصصهم على أنها غارقة في “المبالغة في النص” لما تحمله من أحداث تاريخية واضطرابات اجتماعية. تكمن الإجابة التي تطرحها ثلاثية المشردين في نظرة المشاهد أكثر من كونها في مواقف الشخصيات. فتوق الأسرة المأساوي للعودة في الفصل الثالث من المسرحية كان مؤثرا إلى حد كبير لكنه لا يخلو من البعد السياسي (وإن كان بطرق مختلفة إلى حد كبير) – بقدر الشوق العقيم للأخوات تشيخوف الثلاث للعودة إلى موسكو. ويعد المنفى، حسب المقولة الشهيرة لإدوارد سعيد، “الشرط الأساسي للحياة الفلسطينية”.
رغم عدم ذكر اسمه مطلقًا في المسرحية، فإن حضور سعيد كان واضحًا خاصة في الفصل الثاني. في سنة 1982، كان “الاستشراق” غائبًا لبضع سنوات، وهو وقت كافٍ لترسيخ القراءات المبتذلة لزملاء أدهم الأصغر سنًا، وللتأثير بما يكفي على جماهير اليوم ليكون لديهم تسمية جاهزة للافتراضات التي يضعها كبار السن عن شخصية مثل أدهم.
ولكن هناك مجموعة مختلفة من الكتاب الفلسطينيين الذين يقدمون الأساس التصويري لثلاثية المشردين، رجال أكثر ارتباطًا بالتلال والحجارة وبساتين أشجار الزيتون على غرار محامي حقوق الإنسان رجا شحادة الذي تدعو روايته “سرحات فلسطينية” القراء لمرافقته مشيًا عبر الضفة الغربية وهو يراقب تحولها في الطرق وشبكات الكهرباء وقمم التلال المدمرة والمباني الآخذة في التوسع في المستوطنات الإسرائيلية؛ ومريد البرغوثي في روايته “رأيت رام الله” وهي عبارة عن مذكرات عودة إلى الضفة الغربية في سنة 1996 بعد غياب دام 30 سنةً، وهو يحاكي أسلوب وردزورث في استجوابه للذاكرة الحسية للمناظر الطبيعية وتذكره المنحدرات الخضراء التي كانت “مغطاة بالأشجار والشجيرات والزهور البرية” ولكنها أصبحت الآن “جوفاء وطباشيرية”.
تستمد منصور كتابتها المسرحية من هذا العمل: “السياسة هي الأسرة عند الإفطار، مَن الموجود ومن الغائب، ولماذا؟ من يفتقد من عند سكب القهوة في أكواب الانتظار؟ أين أطفالك الذين غادروا إلى الأبد كراسيهم المعتادة؟ لقد قامت بإعادة تقديم بعض سطور الشاعر الكبير طه محمد علي في الفصل الثالث من المسرحية، معطية إياها لشخصية حمزي كمونولوج مكتمل. وهي مستخلصة من إحدى قصائد علي التي تم سردها من منظور شخصية أُجبرت على مغادرة قريتها سنة 1948 وما زالت تعيش داخل إسرائيل، رجل بسيط يُدعى عبد الهادي:
“في حياته
ما قرأ ولا كتب
في حياته
ما قطع شجرة
ولا طعن بقرة
(..)
في حياته
ما رفع صوته على أحد
إلا بقوله: تفضل
والله العظيم غير تفضل
ومع ذلك
فهو يحيا قضية خاسرة
حالته ميئوس منها
وحقه ذرة ملح
سقطت في المحيط”.
تتجذر هذه المراجع بهدوء في ثلاثية المشردين في مشهد حرفي ومجازي في آن واحد، بين الواقع والتمثيل، والأرض الفلسطينية المتقلصة وآفاق العقل المتسعة. يكتب البرغوثي: “لقد نجح الاحتلال الطويل في تغييرنا من أطفال فلسطين إلى أطفال لفكرة فلسطين”.
لكن الكلمة الأخيرة كانت لجوني ميتشل، التي سمي الفصل الثالث على أغنية لها تصر على حتمية – ولكن أيضًا شبه استحالة – المضي قدمًا، كما يفسح الصيف الطريق لـ “شتاء متشرد”. يصدح اللحن الكئيب لهذه الأغنية في نهاية المسرحية بعد أن تستعد جميلة ابنة أدهم وعبير لمغادرة مخيم اللاجئين للدراسة في الجامعة. لقد نُقل وعد نجاح أدهم الأكاديمي واتساع الآفاق في المشاهد الافتتاحية للمسرحية إلى جميلة في الختام، ولا يسع المرء إلا أن يشعر باندفاع الأمل وهي تودع عائلتها وتحلم بالوطن. ولكن للأسف، هي في طريقها إلى دمشق.
المصدر: صحيفة ذا نيشن