حلّ أمير قطر، تميم بن حمد آل ثاني، ضيفًا على القاهرة، في زيارة تستغرق يومين، قادمًا من العاصمة الرواندية كيغالي، بعد مشاركته في اجتماع رؤساء حكومات الكومنولث الـ26، وهي الزيارة الأولى له منذ أن شارك في القمة العربية التي استضافتها مدينة شرم الشيخ في مارس/آذار 2015.
كان في استقبال أمير قطر، الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، فيما تضمنت الزيارة “عقد مباحثات ثنائية بين الزعيمين لتناول مجمل العلاقات الثنائية بين البلدين الشقيقين وسبل تعزيزها فى مختلف المجالات، فضلًا عن التباحث بشأن تطورات القضايا السياسية الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك” بحسب بيان المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية المصرية.
وتأتي الزيارة بعد سنوات من التوتر شهدتها العلاقات بين الدوحة والقاهرة منذ ثورة يناير/كانون الثاني 2011، ووصلت حدتها في 2017 بعد انضمام مصر إلى الثلاثي الخليجي (السعودية – الإمارات – البحرين) في القطيعة الدبلوماسية لقطر لمدة تزيد على 3 سنوات قبل تبريد الأجواء خلال قمة العلا بدايات العام الماضي.
وحملت زيارة تميم إلى القاهرة الكثير من الرسائل لا سيما أنها تتزامن مع حراك سياسي إقليمي غير مسبوق وتحديات جيوسياسية لها صداها الواضح على خريطة الإقليم والمنطقة بصفة عامة، ما أثار الكثير من التساؤلات عن تطبيع كامل بين البلدين يطوي صفحة سنوات من الخصومة والتوتر.. فهل المناخ مهيأ لذلك الآن؟
حديث ودي بين #السيسي و #أمير_قطر في مطار #القاهرة#إرم_نيوز #قطر #مصر #تميم_بن_حمد pic.twitter.com/ZleHygAAhV
— إرم نيوز (@EremNews) June 24, 2022
ظرف استثنائي
تأتي جولة أمير قطر التي من المتوقع أن يختتمها بزيارة الجزائر لحضور حفل الافتتاح الرسمي لألعاب البحر الأبيض المتوسط، التي تحتضنها مدينة وهران (غرب) بناءً على دعوة من الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، في توقيت حساس للغاية، إذ تشهد الساحة الدولية العديد من التطورات والمستجدات المتسارعة التي سيكون لها تأثيرها على معادلة التحالفات الراهنة، كما أنها تأتي قبل نحو شهر من زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، المقررة 15 و16 يوليو/تموز المقبل، للسعودية، التي من المتوقع أن يلتقي خلالها بقادة دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن والعراق.
هذا بجانب الحرب الروسية الأوكرانية المشتعلة منذ فبراير/شباط الماضي التي كان لها تداعياتها الكارثية على الاقتصاد العالمي وتهديد منظومة الأمن الغذائي بعدما باتت الإمدادات الغذائية على المحك بما يهدد الكثير من المجتمعات والشعوب من بينها الشعوب العربية.
علاوة على تمدد النفوذ الإيراني ومساعي إنهاء مرحلة التخصيب للضغط على الولايات المتحدة وأوروبا للانتهاء من ملف الاتفاق النووي بالشكل الذي يتناسب وطموحات طهران التوسعية، وهو ما يهدد الأمن القومي الخليجي تحديدًا، الأمر الذي يتطلب التحرك الفوري قبل إصابة خريطة المنطقة بتغيرات جذرية تحدث خللًا كبيرًا في موازين القوى.
حراك سياسي إقليمي
لا يمكن قراءة زيارة الشيخ تميم بعيدًا عن الحراك السياسي الذي تشهده المنطقة في الأيام القليلة الماضية التي تشي بترتيبات مكثفة لبلورة موقف عربي موحد تعاطيًا مع الأحداث الأخيرة التي فرضت حزمة من التحديات التي تشكل تهديدًا مباشرًا لأمن واستقرار دول المنطقة سياسيًا واقتصاديَا وأمنيًا.
واستهل الحراك فعالياته بالقمة الثلاثة التي عقدت في مدينة شرم الشيخ المصرية قبل خمسة أيام بمشاركة العاهل الأردني عبد الله الثاني وملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة، بجانب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ناقشوا خلالها العديد من القضايا العربية المشتركة التي فرضتها التحديات الأخيرة.
تلاها جولة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الشرق الأوسطية، التي استغرقت 3 أيام وضمت مصر كمحطة أولى تلاها الأردن، واختتمها بالعاصمة التركية أنقرة، وهي الزيارة الأولى له خارج إقليم الشرق الأوسط منذ نحو 4 سنوات، وحملت معها الكثير من الرسائل المباشرة.
الزيارة تأتي قبل عشرين يومًا من قمة جدة الخليجية المنتظرة والمقررة في 16 يوليو/تموز المقبل، التي من المتوقع أن تخرج بتوصيات تعزز التماسك الخليجي العربي في مواجهة تداعيات الحرب الروسية وأزمة سوق الطاقة العالمي فضلًا عن التموضوعات التي فرضتها التغيرات الواضحة في السياسة الأمريكية إزاء الشرق الأوسط.
الاقتصاد لطي صفحة الخلافات
بات من الواضح أن الاقتصاد هو الباب السحري القادر على طي صفحات الخلاف بصرف النظر عن سطورها الداكنة، ساعد على ذلك الأوضاع الصعبة التي تعاني منها بعض الدول التي وجدت نفسها مجبورة على التراجع خطوات للوراء لإعادة تقييم المواقف في ضوء التطورات الأخيرة والتحديات التي تواجهها.
ورغم الخلاف البين في العلاقات بين القاهرة والدوحة بسبب حزمة من الملفات على رأسها جماعة الإخوان المسلمين وملف الإسلام السياسي برمته والموقف من ثورات الربيع العربي الذي كانت قطر أحد أبرز داعميه، جاءت العلاقات الاقتصادية بمثابة الباب الخلفي لاستمرار العلاقات ولو على أنقاض العلاقات السياسية التي تجمدت لسنوات.
مؤخرًا أعلنت قطر عن ضخ حزمة من الاستثمارات في السوق المصري بلغت 5 مليارات دولار أمريكي لتنشيط حركة الاستثمار، بجانب ارتفاع الاستثمارات القطرية في مصر خلال الربع الأول من العام المالي الحاليّ (2021-2022)، من 116.9 مليون دولار العام الماضي إلى 121.8 مليون دولار العام الحاليّ، بزيادة نسبتها 4.2% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، بحسب بيانات الجهاز المركزي المصري للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي).
وعلى هامش منتدى قطر الاقتصادي الذي عقد في 21 يونيو/حزيران الحاليّ قال وزير المالية القطري علي بن أحمد الكواري: “قطر تعد مستثمرًا رئيسًا بمصر في جميع القطاعات، وسوف تستمر استثماراتنا في مصر كما استمرت روابطنا التاريخية”، فيما أعرب نظيره المصري محمد معيط عن تطلع بلاده إلى زيادة الاستثمارات الخليجية بما فيها القطرية في مصر، مع تحويل الودائع الخليجية في مصر إلى استثمارات حقيقية تستفيد من الفرص التنموية الواعدة المتاحة بمختلف المجالات.
وفي المقابل تجنب البلدان خلال العام الماضي منذ اتفاق العلا الدخول في معارك جانبية بشأن الملفات السياسية التي تشهد تباين في وجهات النظر، حيث ارتأى الجانبان تنحيتها مؤقتًا تحاشيًا لأي توتر يعيد الأمور إلى نقطة الصفر مرة أخرى، فتوقفت الآلة الإعلامية هنا هناك عن الاستهداف المتبادل والهجوم المتكرر على الشخوص والسياسات، وكان الارتكان إلى أرضية التعاون الاقتصادي هو الخيار الأمثل للدولتين في الوقت الراهن.
#مصر و #قطر لتطوير آليات العمل المشتركhttps://t.co/GsZ9WAlbYm
— صحيفة الشرق الأوسط (@aawsat_News) June 24, 2022
تطبيع كامل أم منقوص؟
ليس هناك شك أن السيولة السياسية التي تشهدها المنطقة مؤخرًا تأتي مدفوعة بالتحديات والتهديدات التي أطلت برأسها مع المستجدات الأخيرة، ما يعني أنها تحركات ليست ذاتية الدفع ولم تولد من رحم التنسيق والتناغم في المواقف وإزالة البقع السوداء التي لطخت رداء العلاقات البينية على مدار سنوات طويلة.
وكما يذهب علماء السياسة والاجتماع فإنه لا شيء ثابت في السياسة، فهي فعل برغماتي في المقام الأول، يقوم على المصلحة الذاتية التي قد تفرض على الحكومات والدول إعادة ترتيب بين الحين والآخر لمواقفها وتوجهاتها استنادًا إلى بوصلة المصالح، وليس الأيديولوجيات والمرتكزات الوطنية.
وانطلاقًا من تلك القاعدة يمكن قراءة التقارب القطري المصري، والمصري التركي، والسعودي الإماراتي التركي، والتركي الإسرائيلي، بصورة عملية، بعيدًا عن العواطف التي كانت تسيطر على الخطاب الإعلامي لتلك العواصم إزاء بعضها البعض طيلة الفترة الماضية، التي كانت ترتكن إلى الشعبوية أكثر منها إلى البرغماتية التي أصبحت اللغة الأكثر انتشارًا وموثوقية لدى الجميع.
لكن في المقابل هو تقارب أعرج، يقف على قدم واحدة، مبعثه الأول والأخير ثنائية المصالح والتحديات الراهنة، وعليه فإن استمراره مرهون ببقاء تلك الثنائية المتوقع استمرارها لفترات ليست بالقصيرة، ما يضع البلدان أمام مسؤوليات جسام لترقية هذا التقارب – إن كانت هناك إرادة سياسية – إلى مستويات متقدمة تصل إلى التطبيع الكامل، وإن كان ذلك بحاجة إلى تنازلات قوية في ظل الخلافات الكبيرة بين الطرفين التي على رأسها المعارضة المصرية في قطر واحتضان الأخير للكثير من قيادات الإخوان، التي رغم المرونة التي أبدتها الدوحة في هذا الملف، ما زال يمثل قلقًا كبيرًا للقاهرة.
محطات في مسار العودة
وشهد مسار عودة العلاقات المصرية القطرية بعد الحصار الدبلوماسي الذي فرضه الرباعي على القطريين العديد من المحطات خلال العام والنصف الأخير، البداية كانت بإنهاء الخلاف رسميًا خلال قمة العلا التي كسرت حدة الجمود رغم تململ بعض العواصم من هذه الخطوة التي جاءت بدعم سعودي في المقام الأول.
وبعد أقل من 3 أسابيع على القمة، أعلنت الخارجية المصرية عن استئناف العلاقات الدبلوماسية مع الدوحة، فيما استضافت الكويت أول محادثات مباشرة بين وفدي البلدين، لترتيب الخطوات الضرورية لتنفيذ المصالحة وفق قائمة من الإجراءات، وكان ذلك في فبراير/شباط 2021.
ولم يمر شهر تقريبًا على هذا اللقاء حتى زار وفد قطري القاهرة – في أول زيارة رسمية لمسؤولين سياسيين قطريين منذ الأزمة – في جولة استمرت يومين لتسريع أجواء المصالحة، أعقبها زيارة وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل الثاني، حيث التقى الرئيس المصري وتبادلا معًا سبل التعاون.
وفي يونيو/حزيران 2021 توجه وزير الخارجية المصري سامح شكري إلى الدوحة على رأس وفد مصر المشارك في الاجتماع الوزاري لوزراء الخارجية العرب، وفي الثالث والعشرين من الشهر ذاته أعلنت القاهرة تسمية عمرو الشربيني، سفيرًا فوق العادة لدى قطر، لترد الدوحة في الشهر بتعيين سالم بن مبارك بن شافي، سفيرًا فوق العادة ومفوضًا أيضًا لدى القاهرة.
وشهد أغسطس/آب 2021 أول لقاء بين السيسي وتميم منذ صيف 2017 (القمة الخليجية الأمريكية في الرياض) على هامش مشاركتهما في قمة عراقية دولية، لتبدأ مرحلة إبرام الاتفاقيات بين البلدين، ففي مارس/آذار الماضي وقع البلدان حزمة من الاتفاقيات الاستثمارية بلغت قيمتها 5 مليارات دولار بحسب مجلس الوزراء المصري، وذلك قبيل الاتفاقيات المتوقع إبرامها خلال الزيارة الحاليّة التي يعول عليها المصريون بجانب زيارة ولي العهد السعودي لإنعاش خزينة البلاد بحزم استثمارية كبيرة تخرجها من عثرتها الاقتصادية الراهنة.
في ضوء ما سبق، فإن زيارة أمير قطر للقاهرة والحراك الذي تشهده المنطقة سيقود حتمًا إلى تطبيع مرحلي في ضوء التحديات والتهديدات الراهنة، ويمكن القول إنها خطوات مهمة في ضوء التنسيق الإقليمي وفق معطيات المعادلة الجديدة، لكنه التطبيع المخلخل الهش في ظل الثقوب الغائرة في جدران العلاقات العربية العربية، في انتظار إرادة سياسية قوية لترقيته إلى تطبيع كامل ومترسخ، وإن كان ذلك يتطلب تنازلات جمة لتسوية الملفات الخلافية أولًا، فهل يملك الجميع تلك الإرادة؟