يسأل طفل في الفلوجة أمه، عمّن أحرق وجهه وشوه جسده، تجيبه أمه بمرارة: إنهم الأمريكيون، يرد الطفل بعفوية: أين أجدهم كي أنتقم منهم؟ تجيب أمه: ستجدهم عندما تكبر.
تتكرر هذه الواقعة كل يوم، حسبما يقول الفلوجيون، هي ليست واقعة عابرة، إنها إحدى وقائع حرب الأمريكيين على أطفال العراق التي شرعوا فيها، منذ أفتت مادلين أولبرايت، قبل عشرين عامًا، بأن قتل خمسمائة ألف طفل عراقي لا يساوي شيئًا أمام هدف الوصول إلى بغداد، وبارك فتواها تجار سياسة عراقيون، وضعتهم أمريكا في السلطة، عندما تحقق لها هدف الوصول، لكن السؤال ظل مشرعًا: ألم يتجاوز العدد هذا الرقم، والحرب الأمريكية على أطفال العراق ماتزال تتناسل فصولاً؟
لماذا أطفال العراق بالذات؟ لسنا عنصريين، لكننا مع الحكيم العربي، وقد أنستنا ذاكرتنا المعطوبة اسمه، الذي أجاب على السؤال في حينه، إنهم يخشونهم، لأنهم عندما يكبرون سيتحولون إلى “كتلة علم تمشي على قدمين”، هي اللعنة التي سوف تلاحق الأمريكيين ومن تحالف معهم، كما ستلاحق تابعيهم المحليين الذين شاركوهم “متعة” قتل الأطفال وحرق وجوههم وتشويه أجسادهم البريئة.
تكتب الدكتورة “سميرة العاني” طبيبة أطفال في مستشفى الفلوجة، أنها كلما أجرت عملية ولادة لم يكن أهل الوليد يسألونها كما كانوا في السابق: هل الوليد ذكر أم أنثى، إنما هل الوليد كامل الخلقة، وهل هو بصحة جيدة؟ فقد اعتاد الفلوجيون أن يشهدوا، ومنذ أن وطأ الأمريكيون أرض بلادهم، مشاهد سوداء من هذه التراجيديا المروعة، نصف أبنائهم يولدون مصابين بعيوب وتشوهات خلقية، ومعدل المصابين بالسرطان يفوق معدل من أُصيبوا في هيروشيما وناغازاكي اللتين قصفتهما أمريكا بالقنابل الذرية في الحرب العالمية الثانية، ليست الفلوجة وحدها، ففي جاراتها الجنوبيات 40% من حالات الحمل تنتهي بالإجهاض.
إنه اليورانيوم المنضب الذي صبته الولايات المتحدة حممًا على رؤوس العراقيين، وتقول التقارير الدولية الموثقة إن كمية ما قُذف من اليورانيوم على أهداف مدنية في مناطق مأهولة بالسكان، في مدن وسط العراق وجنوبه، تجاوز 440 ألف كيلوجرامُا، تمتد إشعاعاتها إلى مساحات شاسعة تصل إلى آلاف الكيلومترات، وتحتاج – برأي الخبراء – إلى أربعة مليارات ونصف المليار من الأعوام، لكي تفقد قدرتها على الإشعاع، وقد اكتشف العراقيون إلى حد عام 2006 نحو 400 موقعًا ملوثًا، لكن الحكام المنصبين من الاحتلال أوقفوا البحث، بطلب من واشنطن، وصمتوا عن الجريمة، لأن المسئولية عنها تطالهم هم أيضًا، انتبه العالم إلى فداحة الجريمة، وإن كان متأخرًا، ففي عام 2012 صوتت 143 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح قرار غير ملزم، يقضي بالمساعدة على تطهير العراق من تأثير اليورانيوم المنضب، لكن أمريكا رفضت الاعتراف بجريمتها، وامتنعت عن تقديم البيانات المطلوبة التي تساعد على تحديد المناطق التي قذفت عليها حمم اليورانيوم، وصوتت ضد القرار مع ثلاث دول أخرى هي بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، والعالم مايزال يسعى إلى استصدار قرار جديد عن الجمعية العامة في دورتها المقبلة في ديسمبر/ كانون أول المقبل، وثمة حملة عالمية يقودها ناشطون من مختلف الأنحاء، للضغط على مرتكبي الجريمة للاعتراف والاعتذار والمساعدة على تطهير العراق من آثار الجريمة.
يقول “بن غريفين”، وهو محارب بريطاني خدم في العراق، وأحد كبار الناشطين في هذه الحملة، وقد شهد بعض فصول التراجيديا بأم عينيه، في خطاب لافت إلى الرأي العام العالمي: “أشعر بغضب عارم، تركنا للعراقيين إرثًا من المواد السامة، يستمر تأثيرها على مدى أجيال، إنني وجنودًا عديدين آخرين (شاركوا في حرب العراق) لسنا سعداء، مع حقيقة جعلنا متواطئين مع هذه الأفعال”، وينبه بن غريفين ورفاقه إلى “ضرورة تنظيف مواقع التلوث، والكلفة لن تكون أكثر من 30 إلى 45 مليون دولارًا، وهي قطرة في بحر مما تصرفه الولايات المتحدة على حروبها”.
لن ننتظر، نحن العراقيين، من حكامنا أن يدينوا جريمة صب اليورانيوم المنضب على رؤوس أطفال بلادهم، كما لا نتوقع أن ترتفع أصواتهم للمطالبة بإحالة المسئولين عنها إلى محاكم دولية، إنما نريد منهم أن يطالبوا الأمريكيين، ولو مرة واحدة، باعتذار خجول عما ارتكبوه!
ونذكّرهم بأن أطفال العراق عندما يكبرون لن يصفحوا عن قاتليهم، ولن يغفروا لمشوهي أجسادهم فعلتهم تلك، ولسوف يصرخون في وجوههم، كما صرخ بابلو نيرودا: “أيها القتلة، من كل جريمة ارتكبتموها تولد رصاصات سوف تستقر في قلوبكم يومًا”.
المصدر: العربي الجديد