خفتت التصريحات التركية تجاه العملية العسكرية المحتملة التي يعتزم الجيش التركي إطلاقها في بعض المناطق التي تسيطر عليها الميليشيات الكردية شمالي سوريا، وذلك بعد أن أطلق المسؤولون الأتراك جملة من التصريحات النارية التي تتوعد بالسيطرة على تل رفعت ومنبج وعين العرب وعين عيسى لحماية أمنها القومي ومنع الهجمات التي تنطلق من هناك باتجاه تركيا ومناطق المعارضة السورية في عفرين وأعزاز وجرابلس وتل أبيض وغيرها من المناطق.
ومع برودة التصريحات التركية تجاه عملية عسكرية مقبلة، يرى مراقبون أن تركيا أجلت عمليتها إلى أجل غير معلوم، وكانت صحيفة “حرييت” التركية قد حددت سابقًا موعدًا افتراضيًا للعملية، فقالت إن فترة ما بعد عيد الأضحى المقبل، ستكون موعد إجراء العملية العسكرية التركية الجديدة في سوريا، الجدير بالذكر أن تركيا لم تعلن أي موعد رسمي للحملة على غرار ما حدث في المعارك السابقة، حيث كانت أنقرة تبدأ التمهيد لعملياتها قبل شهور من إطلاقها.
لكن ما الجديد الآن؟ الجديد هو التوقيت، فقد تزامنت تلميحات العملية العسكرية مع إطلاق تركيا لمشروعها الذي يقضي بإعادة مليون لاجئ سوري من أراضيها إلى بلادهم ضمن ما بات يعرف بخطة “العودة الطوعية”، ويبدو أن أي تأخير في إجراء العمليات العسكرية يبطئ من تحقيق هذه الخطة التي رسم لها التنفيذ خلال عام وفقًا لمشاريع الحكومة التركية.
في هذا التقرير نتابع جديد العملية العسكرية التركية بالإضافة إلى جديد مشروع خطة المنطقة الآمنة في شمال سوريا.
تفاصيل جديدة عن إعادة اللاجئين
ما زال المسؤولون الأتراك يتناوبون على زيارة مناطق شمالي سوريا لتأكيد عزمهم إقامة مشروع المنطقة الآمنة، ومؤخرًا زار وزير الداخلية سليمان صويلو منطقة تل أبيض أو ما يعرف بمناطق “نبع السلام” واطلع على سير مخططات المناطق التي سيتم إنشاء المنازل الخاصة بالعائدين طوعيًا من تركيا بها، وقدم صويلو تفاصيل لأهالي المنطقة عن المشروع الذي سيقام هناك.
بدوره زار نائب وزير الداخلية التركي إسماعيل تشاطاكلي، منطقة “درع الفرات” وتفقد بعض المناطق التي تُنشأ بها بيوت للنازحين، كما زار مدينة الراعي بريف حلب ومنطقتها الصناعية، وأشار إلى “إيواء نازحين من سكان الخيم والمخيمات في منطقة أعزاز، بالمساكن التي انتهى تشييدها”.
ومع كل الجهود التي تبذلها تركيا لتسريع تنفيذ مخططها تبقى هناك عوائق كبيرة أمامها خاصة فيما يتعلق بالعملية العسكرية، فأحد أهم أهداف هذه المعركة توسيع الرقعة الجغرافية التي تسيطر عليها في سوريا، بالإضافة إلى وضع هامش أمان حول المناطق التي يفترض أنها ستكون آمنة، بحيث يتم إبعاد شبح القصف المدفعي من مناطق تكون قريبة، وفي حال سيطرت تركيا على منبج وتل رفعت ستكون قد ساهمت بضرب أهم نقاط انطلاق المليشيات الكردية تجاه تركيا وتجاه مناطق سيطرة المعارضة على حد سواء.
وفي إطار التجهيزات لإقامة هذه المناطق الآمنة يقول مصدر من المعارضة السورية لـ”نون بوست”: “الحكومة التركية عقدت عزمها لتنفيذ مشروعها حتى لو لم تطلق عملياتها العسكرية، خاصة أن المشروع بات مؤثرًا على الشارع التركي قبل الانتخابات”، ويضيف المصدر “الحكومة التركية تحاول إنجاز ما استطاعت من هذا المشروع في أسرع وقت”.
وعن التفاصيل التي لم تُنشر عن المشروع يقول المصدر إن تركيا أوكلت إلى الائتلاف الوطني السوري جزءًا من تأمين الدعم لهذه المناطق، عدا عن أن وزارة الداخلية التركية تنظم لقاءات دورية مع الشخصيات السورية الاعتبارية من صحفيين والعاملين في منظمات المجتمع المدني من أجل تهيئة الرأي العام السوري في تركيا والترويج للخطة وإنجاحها.
ويشير المصدر إلى أن تركيا ستعمل على إنشاء مجمعات سكنية في المناطق الآمنة وتشمل مساجد ومراكز تسوق بالإضافة إلى ملاعب وحدائق ومدارس ومراكز تعليمية وتأهيلية، عدا عن البيوت مختلفة المساحة لتناسب أعداد الأفراد في العائلة، حيث ستكون الشقق بمساحات مختلفة: 60 مترًا أو 80 مترًا أو 100 متر للشقة الواحدة.
وعلى عكس ما انتشر من إشاعات فإن هذه المناطق ستضم السوريين من كل المحافظات، وكانت قد انتشرت معلومات تفيد أن اللاجئين من أهل تلك المناطق هم من ستكون لهم الأولوية بالسكن في هذه البيوت، ويضيف مصدرنا “المشروع قد بدأ تنفيذه رسميًا والحكومة التركية عازمة على أن تبصر المناطق السكنية النور خلال سنة على أقل تقدير”.
وستعمل الحكومة التركية مع الائتلاف السوري على إنشاء نقاط وجود في الولاية التركية للراغبين في التسجيل والعودة إلى هذه المناطق، حيث سيتم تسليم منازل لمن يسجل عبر هذه النقاط فقط، وسيعمل الأتراك على السماح للسوريين العائدين إلى هذه المناطق التنقل إلى تركيا في السنة مرتين، لعدم قطع أعمالهم وزيارة أهلهم الموجودين في تركيا.
كما علم “نون بوست” أن تركيا ستعمل على تحفيز رجال الأعمال السوريين والأتراك لإنشاء مناطق صناعية لتوفير فرص عمل للعوائل المفترض عودتها، يشار إلى أن الحكومة التركية تستهدف في مشروعها هذا مليون سوري أي ما يعني 240 ألف عائلة على الأقل وهؤلاء بحاجة إلى نصف مليون عائلة بحسب الخطة التركية.
أما عن إدارة هذه المناطق فستكون تابعة للمجالس المحلية الموجودة في تلك المناطق، لكن الإدارة الفعلية ستكون في يد ولاة غازي عنتاب وهاتاي وكيليس، حيث سيشكلون لجنة لإدارة المناطق وتنظيمها والإشراف على الخدمات فيها، وبحسب المصدر فإن تركيا ستحظر الوجود العسكري في هذه المناطق سواء من الجيش التركي أم الفصائل العسكرية السورية، وسيقتصر الأمر على الشرطة وقوات حفظ الأمن.
وستكون الأولوية في هذه المناطق للعائدين من تركيا، فلن يستطيع سكان المخيمات الاستفادة من هذه الشقق إلا في حالة وجود فائض، لكن تعمل أنقرة على بناء مساكن خارج إطار هذه المناطق لنقل عوائل المخيمات إليها وهو مشروع قديم يتم تنفيذه على مراحل خصوصًا في المنطقة غير المشمولة بالخطة الجديدة لأسباب ذكرناها في تقرير سابق على “نون بوست”.
إضافة إلى ما سبق تجدر الإشارة إلى أن تنظيم هذه الخطة يقتصر على إدارة الكوارث والطوارئ “آفاد” التركية، والمنظمات التي تريد أن تعمل في هذا الإطار يجب أن تكون بموافقة من هذه المؤسسة، وبحسب المصدر التابع للمعارضة السورية فإن تركيا أقرت الشركات التي ستعمل على البناء وإنشاء هذه المناطق، ويشير إلى أن أنقرة تحاول التواصل مع المنظمات الدولية للمساعدة والتمويل في المشروع الذي تقدّر تكلفته مليار ونصف مليار دولار.
هل من رابط بين المعركة وخطة العودة الطوعية؟
لا يبدو أن مشروع خطة العودة الآمنة سيتأثر بتأجيل قرار المعركة القادمة من عدمه، فتركيا تسّرع الخطى لتنفيذ مشروعها كما ذكرنا من أجل الانتخابات وتهدئة الأجواء في تركيا تجاه وجود اللاجئين، أما عن العملية العسكرية، يقول القيادي في قوات المعارضة السورية محمد أبو الحسام: “العملية العسكرية لم تؤجل أو تلغ لأنها في الأصل لم يحدد لها موعد”، ويشير إلى أن “اجتماعات الفصائل العسكرية مع الجيش التركي مستمرة بقصد إعداد الخطط القادمة”.
ويرى أبو الحسام أن “العملية التركية ربما تتأثر بالتوافقات الدولية” ويذهب إلى أن “الجيش التركي مصمم حاليًا على السيطرة على منطقتي منبج وتل رفعت في ريف حلب في حال لم يحصل أي طارئ” ويقول القيادي السوري: “إقامة المنطقة الآمنة التي تتحدث عنها تركيا دون السيطرة على هاتين المنطقتين لن يكون ذا جدوى أمنية” خاصة أن المنطقتين تعتبران قاعدتين عسكريتين لقوات قسد وقوات النظام وغالب القصف المدفعي الذي يصيب مناطق درع الفرات وغصن الزيتون يأتي منهما.
في حديثه لـ”نون بوست” يخالف الباحث في مركز الحوار السوري سامر إيبش ما قاله القيادي في المعارضة السورية، فهو لا يرى أن هناك تلازمًا كبيرًا بين مشروع العودة الطوعية والعملية العسكرية التي أعلنتها تركيا، ويقول إيبش: “بالعودة إلى التقارير التي خرجت إلى العلن عن مشروع العودة الطوعية يمكن ملاحظة أن المناطق التي تشملها الخطة هي أساسًا مناطق نفوذ تركي خالص في الوقت الحاليّ، مع الأخذ بعين الاعتبار أن نجاح العملية العسكرية فيما لو بدأت بالفعل سيسهم في دعم الاستقرار في مناطق النفوذ التركي شمال سوريا بشكل عام، وربما يكون محفزًا لمزيد من السوريين الراغبين بالعودة إلى سوريا”.
في هذا الإطار يقول أنس الخطيب الخبير في شؤون الشمال السوري: “واضح أن الخطوات الفعلية لمشروع العودة الطوعية لم تبدأ بعد، ما يحدث الآن هو فتح الطريق والتمهيد للمشروع عبر المساعي لتوسيع المنطقة التي تسيطر عليها تركيا وحلفاؤها على الأرض في محاولة لضمان أمن المدن والبلدات المشمولة في الخطة وإبعاد خطر الميليشيات الانفصالية والإيرانية عن المنطقة”.
ويرى الخطيب أن الميليشيات تسعى إلى “إلغاء الوجود العربي السني وإضعافه في عموم سوريا وفي الشمال على وجه الخصوص لصالح مشاريع التغيير الديمغرافي وإقامة كيان انفصالي تحت مسمى روج آفا”، ويذهب إلى أن “الخطة في المرحلة التمهيدية وهي بحاجة لكثير من الخطوات على المستوى الميداني والسياسي والمجتمعي والإداري قبل الانطلاق”.
وعن تأجيل العملية العسكرية التركية أو إلغائها يقول إيبش: “يبدو أن الرغبة التركية قوبلت برفض روسي – أمريكي على الأقل حتى الآن، الأمر الذي يعكسه خفوت التصريحات وانخفاض وتيرة التحشيد ورفع الجاهزية عند مختلف الأطراف”، مضيفًا “هذا على الرغم من امتلاك أنقرة للعديد من الأوراق التي كانت تأمل أن تسهل عملية حصولها على الضوء الأخضر من كلا الطرفين الروسي والأمريكي، فقد لعبت أنقرة دورًا مرضيًا نوعًا ما لروسيا في الحرب الأوكرانية وغير مصادم للتوجهات الأمريكية والغربية”.
بدوره، يقول أنس الخطيب : “بشكل علني لم تحدد تركيا ساعة انطلاق العملية ولم يقل المسؤولون إنها قريبة جدًا لذلك لا يمكن القول بأنها أجلّت، لأنه يلزم من هذا القول وجود موعد أصلًا، والتحركات على الأرض لم تكن تشي بأن العملية قريبة”، ويضيف الخطيب خلال حديثه لـ “نون بوست”: “يبدو أن تركيا تريد انضاج مزيد من التفاهمات مع الفاعلين على الأرض قبل الإقدام على إطلاق معركتها، وهي تسعى ابتداءً لتحصيل بعض المكاسب بالطرق الدبلوماسية عبر اتفاقات مع الجانبين الروسي والأمريكي للتخفيف من تكاليف التوسع أثناء المعركة”.
كما يظهر إلى الآن وجود بعض العوائق في التفاهم مع الروس على ملفات غير سورية في ظل الإصرار الإيراني على عدم السماح باقتراب الجيش الوطني ومن النقاط المحاذية لنبل والزهراء عدا عن التخوف الإيراني الروسي المشترك من حدوث تخلخل على جبهات حلب المدينة، الأمر الذي يستوجب مزيد من عمل اللجان الفنية التي تواكب التفاوض بين الأطراف وبالتالي المزيد من الوقت، بحسب الخطيب.
إلى ذلك تأمل أنقرة من خلال معارضتها لانضمام كل من السويد وفنلندا إلى حلف الناتو أن تنتزع موافقة أمريكية على العملية العسكرية في سوريا مقابل التراجع عن هذه العرقلة، ووفقًا للباحث السوري “يبدو أن المفاوضات بخصوص هذا الشأن وصلت إلى طريق مسدود، في الوقت الذي لا ترغب فيه الولايات المتحدة بتقديم تنازلات كبيرة لتركيا مقابل تراجعها عن الفيتو، مع كونها مستعدة لدفع السويد وفنلندا للتجاوب مع مخاوف تركيا الأمنية فيما يتعلق بدعم الدولتين واستضافتهما لأفراد من حزب العمال الكردستاني كما تتهمهما تركيا”.
في الخلاصة.. عدم وجود توافق حاليّ بين تركيا من جهة والولايات المتحدة وروسيا من جهة أخرى بخصوص العملية العسكرية، لا يعني تخلي تركيا عن مسعاها، ومن الواضح أن خطة العودة الآمنة تتأثر بالحملة العسكرية لكنها غير مرتبطة بها ارتباطًا عضويًا، في ظل الرغبة الحاليّة للرئيس التركي بتحقيق مزيد من النقاط داخليًا استعدادًا لاستحقاق الانتخابات المحتدم.