تشكل الاستثمارات العربية في تركيا أحد أضلاع الاقتصاد التركي وواحدة من الثوابت المحورية التي استندت إليها أنقرة خلال السنوات العشرة الأخيرة في مواجهة الأمواج المتلاطمة التي تواجهها الدولة على المسار الاقتصادي في الداخل والخارج.
وعلى عكس ما يروجه المعارضون للرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه، فإن العرب في تركيا لم يكونوا يومًا عالة على أحد، ولم يستنزفوا خزانة البلاد كما يدندن الشعبويون لأهداف سياسية، لكنهم كانوا رقمًا صعبًا في الاقتصاد التركي، إذ شكلوا قرابة 16% من حجم الاستثمارات الأجنبية البالغة 164.6 مليار دولار، حسب البيانات الصادرة عن البنك المركزي التركي (TCMB).
وتحولت تركيا خلال العقد الماضي إلى قبلة المستثمرين العرب في ضوء المحفزات التي كانت تمنحها لرجال الأعمال ورؤوس الأموال، بجانب الأرضية المشتركة تاريخيًا وثقافيًا، ما جعلها مقصد رجال الأعمال الأول لا سيما على المستوى الخليجي، وكان ذلك – بمنطق برغماتي واضح – أحد الأسباب الرئيسية وراء تعزيز أنقرة علاقاتها مع العرب تحديدًا خلال السنوات الماضية.
التطورات الأخيرة التي شهدتها تركيا على مستوى السياسات الاقتصادية ومواقفها من اللاجئين السوريين تحديدًا ومسار التطبيع ذات الخطوات المتسارعة، من المحتمل – وفق خبراء – أن يكون له دور في رسم ملامح الاستثمارات العربية في السوق التركي مستقبلًا.. فهل تفقد أنقرة ريادتها كبوصلة رؤوس الأموال العربية الأولى؟
خريطة الاستثمارات الأجنبية
تتصدر أوروبا قائمة الاستثمارات الأجنبية في تركيا، بقيمة بلغت 120.1 مليار دولار (تشكل بين 60-87% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية)، تليها آسيا بـ29 مليار دولار، ونحو 14.3 مليار دولار من أمريكا، وذلك خلال الفترة من 2003 وحتى 2020، فيما جاء عام 2007 كأفضل الأعوام التي شهدت استثمارات أجنبية بنحو 19.1 مليار دولار.
تأتي ألمانيا في المركز الخامس في قائمة الاستثمارات الأجنبية في تركيا بإجمالي يقدر بنحو 10.1 مليار دولار
وتصدر قطاع التمويل والتأمينات قائمة مجالات الاستثمارات الأكثر حضورًا خلال تلك الفترة بـ54.2 مليار دولار، يليه قطاع الطاقة بـ18.1 مليون دولار، ثم قطاع المعلومات والاتصالات بقيمة 14.4 مليار دولار، ومن بعده قطاع تجارة الجملة والتجزئة بـ11.1 مليار دولار وقطاع التغذية بـ9.3 مليار دولار وأخيرًا التعدين بـ3.5 مليار دولار.
وتعتبر هولندا أكبر شريك استثماري لتركيا بقيمة 26.2 مليار دولار بما يشكل 16% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية، تليها الولايات المتحدة بحصة 12.9 مليار دولار بنسبة 7.8% من إجمالي الاستثمارات، ثم بريطانيا بـ11.6% مليار دولار تشكل نحو 7.1% من الإجمالي، وبعدها النمسا في المرتبة الرابعة بـ10.6 مليار دولار.
تأتي ألمانيا في المركز الخامس في قائمة الاستثمارات الأجنبية في تركيا بإجمالي يقدر بنحو 10.1 مليار دولار، أما الدول الخمسة الأخرى في بورصة العشرة الكبار فهي لوكسمبورغ وإسبانيا وبلجيكا وفرنسا وأذربيجان، إذ بلغت حصتهم الإجمالية من الاستثمارات نحو 42.3 مليار دولار خلال الفترة المذكورة.
الاستثمارات العربية
أما على المستوى العربي فبحسب تقديرات البنك المركزي التركي ارتفعت نسبة مساهمة الاستثمارات العربية في تركيا من 8% من قيمة الاستثمارات الأجنبية في 2016 إلى قرابة 16% بنهاية عام 2018 وسط توقعات بزيادة تلك النسبة مستقبلًا إذا حافظت أنقرة على محفزاتها لجلب الأموال الخارجية.
وتتصدر دول الخليج قائمة الاستثمارات العربية، إذ تشكل مجتمعة نحو 9%، من إجمالي الاستثمارات المباشرة في تركيا، وتتوزع على العديد من المجالات الاقتصادية الرئيسية، أبرزها سوق العقارات والصناعة يليه التمويل والبيع الجملة وبالتجزئة وصولًا إلى الاستثمار في سوق الإعلام والتكنولوجيا.
تحتل قطر المرتبة الأولى في الاستثمارات الخليجية بتركيا بحصة تبلغ قرابة 20 مليار دولار، ما بين استثمارات مباشرة وأخرى طويلة الأجل، وفق صحيفة “يني شفق” التركية، فيما تشير بيانات الأناضول إلى اعتزام الدوحة تعزيز تلك الاستثمارات بحزمة أخرى تبلغ 7 مليارات دولار، تتركز في مجالي العقارات والصيرفة.
فيما ذهبت مؤشرات أخرى إلى صدارة الإمارات للقائمة من حيث الاستثمارات المباشرة بقيمة 4.3 مليار دولار، بحسب موقع “تي أر تي عربي” الذي كشف النقاب عن ارتفاع معدلات شراء المواطنين الإماراتيين للعقارات التركية بنسبة 160% خلال العامين الماضيين، حيث اشترى أكثر من 300 مستثمر إماراتي وحدهم أكثر من 300 ألف متر مربع في سوق العقارات التركي.
ومن بعدهما تأتي السعودية التي تستحوذ على 2.4% من سوق الأوراق المالية التركية، فيما توجد أكثر من 800 شركة سعودية في السوق التركي حتى اليوم وفقًا لعضو مجلس الأعمال السعودي التركي زياد البسام، فيما كشف ممثل وكالة دعم وتشجيع الاستثمارات التركية مصطفى كركصور، عن تجاوز الصفقات التجارية بين السعودية وتركيا حاجز الـ8 مليارات دولار العام الماضي، منوهًا أن أنقرة تستهدف زيادة الاستثمارات السعودية إلى 25 مليار دولار، والتبادل التجاري إلى 20 مليار دولار بحلول عام 2023.
وفي الوقت الذي يعزف فيه الشعبويون واليمينيون المتطرفون في تركيا على أوتار الكلفة الباهظة التي تتحملها تركيا جراء استضافتها للاجئين السوريين، مطالبين بترحيلهم إلى بلادهم، كشف المنتدى الأورومتوسطي لمعاهد العلوم الاقتصادية “فيميز” في تقرير صادر عنه، نشرته “الجزيرة” أن السورييين أسسوا قرابة 4800 شركة حتى 2017 برأس مال قدره 39.1 مليون يورو، بزيادة قدرها 168% عن 2014، فيما يتوقع التقرير استمرار معدلات تلك الشركات بين عامي 2023 و2028.
معظم الاستثمارات العربية تتركز بجانب العقارات في مجالات التمويل والمصارف وصناعة النسيج والمواد الغذائية والزراعة وتربية الحيوانات والتجارة الدولية
وفي المجمل قفز حجم التجارة بين تركيا والدول العربية مجتمعة من 9 مليارات دولار بدايات العقد الحاليّ إلى 45 مليار دولار 2019 وصولًا إلى 67.4 مليار دولار في 2021، حسب وزير التجارة التركي محمد موش، الذي كشف أن المقاولين الأتراك يتولون حاليًّا 3500 مشروع في الدول العربية بقيمة إجمالية بلغت 167.6 مليار دولار.
وتأتي العقارات على رأس القطاعات الأكثر استحواذًا على الاستثمارات العربية وفق خبير العقارات التركية Makbule Yonel Maya، المدير العام لـTSKB Real Estate Appraisal للتقييم العقاري، الذي كشف عن شراء العرب أكثر من 3000 عقار في تركيا في الربع الأول من 2019 فقط.
جاء العراقيون في المرتبة الثانية بعد إيران، فقد اشتروا ما يقرب من 21 ألف منزل منذ 2015 وحتى 2020، يليهم الأفغان ثم الروس، فيما تأتي السعودية في المرتبة الرابعة بشراء 11 ألف منزل، يليها الكويتيون بـ8 آلاف منزل، وذلك من إجمالي 256 ألف منزل بيعت في تلك الفترة.
وأوضح نائب رئيس منتدى الأعمال الدولي غزوان المصري، أن معظم الاستثمارات العربية تتركز بجانب العقارات في مجالات التمويل والمصارف وصناعة النسيج والمواد الغذائية والزراعة وتربية الحيوانات والتجارة الدولية، منوهًا أن مدينة إسطنبول وحدها تحتضن 17 ألف شركة عربية، في مقابل عشرة آلاف شركة عربية في غازي عنتاب، معظمها سورية.
تركيا ذهب العرب
في تعليقه على اختيار العرب لتركيا لضخ استثماراتهم بسوقها، قال الخبير الاقتصادي أونور أونغون رئيس مجلس إدارة شركة “Onursal Gayrimenkul Geliştirme A.Ş” العقارية التركية: “مثلما يُنظر إلى الذهب على أنه ملاذ آمن في السلع، يرى العرب أن تركيا ملاذ أمن”، منوهًا في حديثه إلى أن معظم رجال الأعمال في الشرق الأوسط يميلون إلى الاستثمار في تركيا لما توفره من مناخ يدفع رؤوس الأموال إلى التنامي بطريقة تفوق أحلام المستثمرين، على حد قوله.
وقال أونغون: “كما أن حجارة إسطنبول من ذهب”، في إشارة إلى ملاءمة السوق هناك للاستثمار، فإن “بورصة، طرابزون، أوردو، مرسين، أضنة، جاناكالي، أنقرة، جميعم من ذهب كذلك”، مرجعًا جانب من تفضيل العرب للسوق التركي إلى المخاطر التي تعرضوا لها في الأسواق الغربية والروسية على حد سواء، وعليه اعتبروا تركيا الوجهة الأقرب والأفضل لهم خلال السنوات الماضية في ظل التقلبات السوقية الاقتصادية الأخيرة.
آخرون يرجعون هذا التفضيل إلى المحفزات التي تقدمها أنقرة للشركات الأجنبية التي وصلت في بعض الأحيان إلى تقديم الأراضي مجانًا مع الإعفاء الضريبي وخصم على الطاقة المستخدمة ودعم بالمعدات، هذا بجانب أن انخفاض تكاليف الإنتاج الصناعي والزراعي في تركيا يجعل هذه المنتجات منافسة في السوق الخارجي أمرًا سهلًا.
ومن الدوافع الإيجابية التي حفزت العرب على الاستثمار في تركيا جودة وسمعة المنتجات التركية العالمية بما يسهل دخولها إلى بلدان إفريقيا والعالم العربي بشكل سريع، كذلك الموقع اللوجستي التركي كحلقة وصل بين آسيا وأوروبا، والدعم الذي تقدمه الدولة للمستثمرين الأجانب خاصة العمل على قدم وساق من أجل تهيئة المناخ الملائم للاستثمار على كل القطاعات، التعليم والصحة والبنية التحتية وغيرها من المسائل التي كثيرًا ما تعرقل ضخ الأموال العربية في الأسواق الخارجية.
الموقع الجيوسياسي الهائل لتركيا يجعلها سوقًا مغريًا لرجال الأعمال العرب بصرف النظر عن واقعها الاقتصادي
ورغم هذا الحضور القوي للاستثمارات العربية في تركيا، فإنها لم تكن على المستوى المأمول لكثير من الخبراء، كما جاء على لسان رئيس جمعية رجال الأعمال والصناعيين الأتراك (موصياد) عبد الرحمن كآن الذي قال: “رغم القرب الجغرافي والروابط القوية المتجذرة، فإن العلاقات التجارية والاقتصادية مع الدول العربية ليست بالمستوى المطلوب”، مضيفًا “نريد نقل خبرات تركيا إلى الدول العربية وتعزيز التعاون معها على أساس مراعاة المصالح الاقتصادية المتبادلة”.
وفي الجهة الأخرى هناك رأي يعتبر أن الأزمة الاقتصادية التي تعرضت لها تركيا قبل 4 سنوات وهبوط العملة المحلية (الليرة) المفاجئ، كان عامل جذب للاستثمارات الخارجية العربية، كما ذهب رئيس مجلس إدارة شركة أبو ظبي التنموية القابضة، محمد حسن السويدي، الذي يرى أن الأزمة الأخيرة فتحت الكثير من الفرص أمام المستثمرين العرب لا سيما بعد تراجع الأسعار واستعداد أنقرة لمنح الأجانب المزيد من التحفيزات للبقاء في السوق الداخلي أو تشجيع الاستثمارات الخارجية، فقد انهال العديد من رجال الأعمال العرب على شراء الشركات المفلسة أو التي أوشكت على الإفلاس بأقل سعر ممكن.
وألمح أن الموقع الجيوسياسي الهائل لتركيا يجعلها سوقًا مغريًا لرجال الأعمال العرب بصرف النظر عن واقعها الاقتصادي، مضيفًا “الشيء المفضل لدي في تركيا أنها تقع في نقطة يمكن أن تصل إلى ألمانيا في غضون 12 ساعة ويبلغ عدد سكانها 84 مليون نسمة، قوة رئيسية للصناعات”، وتابع “إنها ذات أهمية لوجستية كبيرة، لذلك نحن مهتمون بالتأكيد”.
تحديات تهدد بسحب البساط
يصف خبراء الاقتصاد رأس المال بأنه “جبان”، دائم الحركة والصيرورة، سرعان ما يهرب من مناطق التوتر إلى أخرى أكثر استقرارًا، ومن ثم فالبيئات التي تفتقد لمقومات الجذب لن تقاوم كثيرًا أمام الهروب والنزوح الجماعي للاستثمارات، مهما كانت النظرة المطمئة لتلك البيئات وتمتعها بمصداقية عالية من المستثمرين.
واصطدمت الاستثمارات الأجنبية ومنها العربية في تركيا خلال الآونة الأخيرة بعدة عوائق أدت إلى خسائر كبيرة ونزوح معاكس إلى بلدان جديدة وفق الخبير والمستشار المالي التركي غازي المهايني، المدير التنفيذي لمنظمة التقييم المالي الدولية (Accyber) التركية، الذي أرجع هذا النزوح إلى “عدم التأقلم مع واقع السوق التركي وآلية العمل والضرائب والقوانين ومتطلبات العمل وغيرها من المشاكل”.
واستعرض الخبير التركي في مقاله المنشور على موقع منظمة (Accyber) أسباب المشكلات التي واجهتها الاستثمارات العربية في تركيا خلال الفترة الماضية وعلى رأسها الانتكاسة التي تعرض لها القطاع العقاري بسبب ارتفاع أسعار مواد البناء، ما أدى إلى ركود كبير في المبيعات، تعزز هذا الركود مع الهزة العنيفة التي تعرضت لها الليرة ما نجم عنها خسائر باهظة للمستثمرين العرب.
ويلفت رئيس جمعية وكالات السياحة والسفر في الشرق الأوسط، حسين كيرك، إلى هروب المستثمرين السعوديين تحديدًا من السوق التركي بعد توتر العلاقات بين البلدين التي كان من تداعياتها الحظر الذي فرضته المملكة على البضائع التركية، منوهًا أن السعوديين نقلوا استثماراتهم من تركيا إلى بعض البلدان الأخرى كالإمارات والكويت.
اتهامات المعارضة التركية للسوريين والعرب عمومًا بأنهم أحد أسباب الأزمة الاقتصادية التي تحياها البلاد لا تعدو كونها شعارات للاستهلاك المحلي لا تخرج عن إطار التسييس لمكاسب سياسية
وقد أسفرت تلك العوامل والقرارات التي اتخذتها أنقرة مؤخرًا بشأن الضرائب مع الركود والتضخم وغيرها من مقومات الطرد الاقتصادي، إلى انسحاب بعض الشركات الدولية من السوق التركي، كما هو حال منصة Ebay الدولية التي تتخذ من ولاية كاليفورنيا الأمريكية مقرًا لها التي أعلنت قبل أيام توقف خدمة البيع الإلكتروني التي تقدمها في تركيا بشكلٍ كامل دون أن تكشف الأسباب التي أدت لهذا الإغلاق المفاجئ، فيما أرجعت المحللة المالية التركية تاجيره بكتاش، هذا الانسحاب “لأسباب سياسة واقتصادية في آنٍ واحد خاصة مع عدم وجود استقرار سياسي واقتصادي”.
تحذيرات أخرى تسير في اتجاه خلخلة السوق التركي بانسحابات متوقعة خلال الفترة المقبلة إذا استمرت سياسات الانتهاكات بحق السوريين (الذين يمتلكون أكثر من 4800 شركة برأس مال قدره 39.1 مليون يورو)، وهي الانتهاكات التي تصاعدت في الآونة الأخيرة بشكل لافت للنظر، بعدما تحول هذا الملف إلى ورقة ضغط سياسية متأرجحة بين الحكومة والمعارضة لتحقيق مكاسب سياسية.
وفي ضوء ما سبق يمكن القول إن اتهامات المعارضة التركية للسوريين والعرب عمومًا بأنهم أحد أسباب الأزمة الاقتصادية التي تحياها البلاد لا تعدو كونها شعارات للاستهلاك المحلي لا تخرج عن إطار التسييس لمكاسب سياسية، فالواقع يؤكد أن العرب الموجودين في تركيا يمثلون رقمًا صعبًا في معادلة الاقتصاد، ولهم حضور مؤثر في تماسك الاقتصاد التركي حتى اليوم، وأن أي هزة في هذا الضلع العربي ستكون لها تداعياتها الصعبة على الشارع التركي، ما يزيد من تفاقم واقعه المعيشي.