يتعرض سوق العقارات في مصر هذه الأيام إلى موجة ركود هي الأخطر منذ عقود طويلة، بعدما قفزت أسعار مدخلات الصناعة بصورة جنونية كأحد تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية وجائحة كورونا الأخيرة، ما أحدث من الشلل التام لحركة البيع والشراء رغم ضخامة السوق المصري كواحد من أكبر أسواق المنطقة.
وبينما ينظر المصريون للعقارات كونها المجال الأكثر أمانًا للحفاظ على الاستثمارات والأموال، إذ بالأسعار الجنونية التي شهدها مؤخرًا تزلزل تلك الصورة، ما دفع الكثير من المصريين للاتجاه نحو البنوك للحفاظ على ما تبقى لديهم من مدخرات في ظل الأوضاع الصعبة التي يحياها المجتمع المصري كما هو حال معظم المجتمعات في الأشهر الأخيرة.
حالة من القلق تخيم على المراقبين للوضع الاقتصادي المصري إزاء سوق العقارات الذي يمثل نحو 60% من قيمة الاستثمار والإنتاج الكلي في الدولة، فضلًا عما يشكله من حاضنة كبيرة للشريحة الأكبر من العمالة، الذي سيكون له ارتدادات كارثية حال تعرضه لأي هزات من شأنها تفاقم الوضع المتأزم داخليًا.
زيادة أسعار مواد البناء
أدت الزيادات الكبيرة في أسعار الحديد والأسمنت كونهما المدخلان الأبرز في صناعة العقارات إلى ارتفاع ملموس في أسعار الوحدات ما نجم عنه نزوح عن عملية الشراء من المواطنين، فضلًا عن ارتكان كثير من شركات المقاولات إلى تأجيل خطط البناء لحين استقرار الأوضاع.
خلال العام الماضي ارتفعت أسعار الحديد والصلب بنسبة تقترب من 100%، حيث قفز سعر طن الحديد من 9800 جنيه في نوفمبر/تشرين الثاني 2020 إلى 19 – 20 ألف جنيه حاليًا، فيما ارتفع سعر طن الأسمنت من 725 جنيهًا قفز إلى 1500 جنيه (الدولار يساوي 18.71 جنيه).
ارتفعت أسعار الوحدات العقارية بنسب تترواح بين 30 – 35%، وذلك على أنماطها الثلاث (وحدات الإسكان الاقتصادي – الإسكان المتوسط – الإسكان الفاخر)
تزامنت تلك الزيادات مع تدني المستوى المعيشي للسواد الأعظم من المصريين، لا سيما بعد قرار تعويم العملة المحلية (الجنيه) في 2016، وهو القرار الذي أثر على حجم مدخرات المواطنين بشكل ملموس، ما انعكس بطبيعة الحال على سلوكياتهم الشرائية إزاء السلع المعمرة أو طويلة المدى كالعقارات والذهب وغيرها، إذ بات الشغل الشاغل اليوم للمواطن تلبية مطالب حياته اليومية من مأكل ومشرب بعدما وصلت الأسعار إلى مستويات جنونية تفوق مستوى متوسطي الدخول.
ونتاجًا لذلك ارتفعت أسعار الوحدات العقارية بنسب تترواح بين 30 – 35%، وذلك على أنماطها الثلاث (وحدات الإسكان الاقتصادي – الإسكان المتوسط – الإسكان الفاخر) بحسب خبير التخطيط الحضري والعقاري المهندس عبد المجيد جادو، الذي كشف عن زيادة الأسعار إلى “5 آلاف جنيه للمتر في وحدات الإسكان الاقتصادي، وما بين 5 إلى 12 ألف جنيه للمتر في وحدات الإسكان المتوسط، و20 ألف جنيه فيما فوق للمتر في الإسكان الفاخر حسب الموقع ونسبة الإشغال” وفق تصريحاته لوكالة “شينخوا” الصينية.
الملاذ الآمن.. البنوك تسحب البساط
“زمان كنا نستثمر فلوسنا في العقارات بصفتها المجال الأكثر استقرارًا، وبعد عام كامل من الغربة والعمل في بلدان أجنبية كنا نقوم بشراء شقة (وحدة عقارية) للاستثمار ثم نبيعها لاحقًا بسعر أفضل وهكذا.. لكن اليوم الوضع تغير تمامًا، فالأسعار فاقت قدراتنا كما أننا لا نضمن أن نجد مشتريًا في ظل الوضع الصعب الحالي”.. بهذه الكلمات كشف أشرف سالم، المحاسب المصري الذي يعمل في إحدى بلدان الخليج عن تغير نظرته للاستثمار العقاري قديمًا واليوم.
ويضيف أشرف (50 عامًا) أنه وأشقاءه الثلاث يشترون كل عام وحدة عقارية بسعر يترواح بين 350 – 400 ألف جنيه، في منطقة متوسطة، من أجل الاستثمار فيها لاحقًا، لكن الأعوام الأربع الأخيرة قفزت الأسعار بشكل غير طبيعي، فباتت أقل شقة بإمكانيات معقولة نسبيًا تتجاوز 750 ألف جنيه وهو ما فاق قدراتهم كما أنهم لا يضمنون بيعها مستقبلًا، وتابع “عندنا شقتين مش عارفين نبيعهم بقالنا سنتين بسبب الأسعار والناس مبقاش معاها فلوس”.. بحسب حديثه لـ”نون بوست”.
الرأي ذاته ذهب إليه “جلال” الشاب الأربعيني الذي كشف أنه وفي ظل الأسعار المبالغ فيها اضطر لادخار المبلغ الذي بحوزته في البنك، بعدما بات الحصول على شقة تمليك مسألة شاقة ودربًا من دروب الخيال، لافتًا في حديثه لـ”نون بوست” إلى أنه ينتظر حتى تتضح الأمور بشكل نهائي وبعدها سيقرر ما إذا كان سيقدم على شراء وحدة عقارية أم يُبقي على ماله في البنك خاصة بعد العروض المقدمة والخاصة بشهادات بنكية بعائد نسبي مرتفع.
وكان البنك الأهلي وبنك مصر وهما حكوميان قد طرحا مؤخرًا شهادة ادخار استثنائية بسعر عائد سنوي كبير يبلغ 18%، وسط إقبال كثيف من المواطنين، إذ جمعت حتى مايو/أيار الماضي نحو 750 مليار جنيه لدى البنكين، وهو ما كان له أثره الكبير سلبيًا على قطاع العقارات، بعد سحب السيولة النقدية من السوق في محاولة للقضاء على ظاهرة الدولرة، بحسب خبراء.
ضربات متتالية
وكان السوق العقاري في مصر قد تعرض لهزات عنيفة خلال الآونة الأخيرة جراء بعض الإجراءات والقرارات التي اتخذتها الدولة التي كانت تهدف لضبط السوق برمته بحسب البيانات الرسمية لكنها ساهمت في تعميق الأزمة، حيث أصابت القطاع كله ب من الشلل التام.
أبرز تلك الإجراءات كان في يناير/كانون الثاني الماضي، حين لوح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بوقف البناء لمدة 10 سنوات، لحين وضع آليات لضبط التراخيص وخلافه، داعيًا المصريين إلى وضع أموالهم في البنوك بدلًا من بناء البيوت أو استثمارها في قطاع العقارات، حيث قال خلال كلمته على هامش افتتاح مدينة أسوان الجديدة (جنوب) “هذا الاستثمار ليس في محله، بدلًا من وضع الأموال في العقارات ضعوها في البنوك، ولو أنك ترغب في بناء عقار بقيمة مليوني جنيه أنصحك بوضع هذه الأموال في البنك، لأن الاستثمار في العقار فرصة ليست كبيرة”، وتابع “الدولة أخذت العديد من القرارات الخاصة بوقف المخالفات والبناء العشوائي، وكان منها إعادة بناء البلاد في غضون 10 سنوات، ولن يسمح لأي شخص بالبناء طوال هذه الفترة، من أجل إعادة ضبط آليات العمل والتراخيص”.
خلال العامين الماضيين ونتيجة للضربات التي تلقاها سوق العقارات فقدت أكثر من نصف الشركات العاملة في المقاولات حصتها السوقية، ما دفع بعضها إلى البحث عن مجالات أخرى غير المقاولات
وقبل ذلك بعامين تقريبًا أصدرت السلطات المصرية قرارات بوقف البناء بشكل تدريجي، ففي منتصف 2020 كان قرار منع تراخيص البناء لمدة 6 أشهر، ومن قبله قانون التصالح في مخالفات البناء، الذي كان بمثابة القنبلة التي زلزلت قطاع العقارات في مصر ولا تزال تبعاتها حتى اليوم.
كل تلك الأمواج المتلاطمة التي تعرض لها سوق العقارات أغرقته في كثير من الأزمات والمشاكل التي يدفع القطاع ثمنها اليوم، عزوف قهري عن البيع والشراء، فقاعات مستمرة أفضت إلى ركود حقيقي بعيدًا عن الشعارات والتصريحات الوردية التي سرعان ما اصطدمت بالواقع الفعلي.
كارثة اجتماعية
الركود الذي مُني به قطاع العقارات سيكون له تداعياته السلبية على قرابة 40% من العاملين المصريين في سوق العمل البالغ 30 مليونًا، بحسب أحدث أرقام الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء المصري، فضلًا عن أكثر من 36 ألف شركة مسجلة بقطاع التشييد والبناء، منها 15% فقط تحصل على مشروعات كبيرة ومتوسطة.
العامان الماضيان ونتيجة للضربات التي تلقاها سوق العقارات فقدت أكثر من نصف الشركات العاملة في المقاولات حصتها السوقية، ما دفع بعضها إلى البحث عن مجالات أخرى غير المقاولات، فيما لجأ البعض الآخر إلى العمل من الباطن بطرق غير رسمية للوفاء بالتزاماتها المالية، وفق شهادات سابقة لـ”نون بوست”.
الشهادات التي شملت مهندسين وعمال وإداريين كشفت أنه منذ بدايات 2020 لجأت الشركات إلى تقليص حجم العمالة لديها بنسب تتراوح بين 20 – 35%، فيما تحمل الباقون أعباء عمل إضافية برواتب أقل، ما دفع الكثير منهم إلى السفر خارج البلاد للبحث عن فرص أفضل بعدما وصل الحال بقطاع العقارات إلى “طريق صعب” بحسب بعضهم.
وفي المجمل فإن استمرار الركود بقطاع كالعقارات بما يمثله من ثقل كبير وسوق متسع، بما يتجاوز 60% من حجم وقيمة الاستثمار الكلي والإنتاج المحلي للدولة، سيضع الاقتصاد المصري في مأزق حقيقي يعمق وضعيته الحاليّة سوءًا، فضلًا عن الزج بمئات الآلاف من العاملين به إلى مستنقع الفقر الذي يخيم بأجوائه القاتمة على أكثر من 30% من المصريين.