في أيام معدودات، خطفَ الموت أرواح شابات في عمر الورد، لكن هذه المرة عُنوةً، كانت أولًا نيرة أشرف، ضحية جامعة المنصورة في مصر، بعد أن أقدم زميلها على ذبحها في وضح النهار أمام أعين الجميع بسبب رفضها الزواج منه، وبينما الجميع يحاول استيعاب الصدمة وجرأة القاتل، تكرر المشهد في غضون أيام قليلة حين اخترقت 6 رصاصات جسد الشابة الأردنية إيمان إرشيد (20 عامًا) داخل حرم جامعة العلوم التطبيقية في عمان، كانت كفيلة بإردائها قتيلة، كل ذلك بقرار واحد وبسلاح لا يأبه لقانون أو حرمة المؤسسات التعليمية والمجتمع.
من الجانبَين النفسي والاجتماعي، تكون الجريمة محصّلة لعملية تفكير، وربما قد تستغرق لحظات أو فترة طويلة، وغالبًا ما تكون نتيجة صراعات تدور في ذهن الجاني بين قوتَين: قوة الدافع لارتكاب الجريمة وتتعلق بالغرائز الأساسية كالرغبة في البقاء أو الانتقام، وقوة المانع للتراجُع عن الجريمة بما تبقّى من إحساس بالرحمة أو بعض المشاعر المتبقية تجاه الضحية إن وُجدت.
وتقع الجريمة متى تغلّبت قوة الدافع على قوة المانع، وكلما كان سلوك الجريمة مبرَّرًا/ قابلًا للتبرير بالنسبة إلى الجاني، أضعفَ ذلك قوة المانع، وأبرز مثال ما يُعرَف بـ”جرائم الشرف” المبرَّرة بغسل العار، حيث تُرتكَب بكثرة وسهولة لوجود مسوّغات تنفي عن المجرم الإحساس بالذنب أو لوم الذات، بل يسارع لارتكاب الجريمة لـ”يطفئ ناره” أو يسترد اعتباره الاجتماعي كما يُقال.
ومن ناحية أخرى، تنفي المعالجة النفسية ستيفاني غانم أن يكون “الحب” دافعًا لهذه الجريمة أو جرائم مماثلة، فهذه الحالات لا تعكس حبًّا وإنما رغبة في التملُّك أو تعلُّقًا مرضيًّا، إذ لا يقود الحب إلى القتل أو التعنيف، وهؤلاء الذين يقتلون فتاة لرفضها الزواج هم ببساطة لا يؤمنون بحقّ المرأة في اتخاذ القرار، ويتذرّعون بالحب لتبرير جريمتهم أمام المجتمع.
لوم الضحية
لم تكن المشكلة بالحدث بحدّ ذاته وحسب، بل بردود فعل الرأي العام وخطاب لوم الضحية وتسخيف معاناة الضحايا، فالمجتمع الذي يضع مبررات القتل للمجرم، يكيل بمكيالين في حديثه عن الضحية في الوقت ذاته، فعلى مواقع التواصل الاجتماعي كان الحديث عن القتل يأخذ مسارات مختلفة، فهناك من بدأ يروّج للكواليس “الإنسانية” للقاتل قبل فعلته، ويلوم الضحية لتبرير الجريمة وتبرئة القاتل أو التخفيف من بشاعة فعلته، في مجتمع يطبّع مع قتل الزوجة والابنة والأخت في جرائم عنف أسري تتكرر بشكل مستمر، لتأتي قضية نيرة أشرف وإيمان إرشيد لتصفعنا من جديد وتذكّرنا بتلك النظرة إلى جسد المرأة باعتباره كيانًا مستباحًا من كل الأطراف.
في هذا السياق، ركز البعض حديثه عن ملابس الضحية مثل الداعية الشهير مبروك عطية، الذي فُهم منه أنه يبرر ذبح الفتاة، وأنه يُرجع سبب الجريمة إلى ملابس الضحية التي كانت ترتديها، واستدعت تلك التصريحات ردًا من دار الإفتاء التي قالت إن “ربط ترك الحجاب بالتحرش وقتل الفتيات هو حديث فتنة”.
ويرى آخرون أن الحديث عن ملابس الضحية تغييب للقضية الأصلية، وهي أن الجاني قتلَ نيرة لأنها رفضت الارتباط به، وليس بسبب ملابسها، وجاءت حادثة مقتل الطالبة الأردنية لتعطي دفعة قوية لتلك الآراء التي أشارت إلى أن الضحية إيمان إرشيد كانت محجبة، لكن ذلك لم يمنع تعرضها للقتل.
لا تختلف الأصوات التي تلوم الضحية عن صوت القاتل في جريمته، حيث ما الذي يبرر ما يراه البعض في أن الفتاة تستحقّ القتل لأنها “متبرّجة” أو “غير محجبة”؟ بحجاب أو بغيره.. الضحية أنثى والقاتل واحد!
تكريس الثقافة المجتمعية
تقول المديرة التنفيذية لحملة “تقاطعات” النسوية الأردنية، بنان أبو زين الدين: “ما حدث مع إيمان في الأردن ومع نيرة في مصر يجعلنا ندرك أن العنف ضد النساء والفتيات عملية ممنهجة، وطريقة انتقالها من حيز الخاص إلى حيز العام ينذر بأمر خطير، لأن النساء لن يكن بعدها آمنات في أي مكان يتواجدن فيه، حين تكون جريمة في حرم الجامعي، والقاتل يحمل سلاحًا ويقوم بفعلته علنًا أمام أعين الجميع بما يهدد أمن النساء بصورة مرعبة، لذلك مهم جدًّا اعتبار هذه القضية قضية أمن دولة ويتم التعامل معها على أعلى المستويات وأخذ إجراءات عقابية سريعة بحقّ المجرم”.
وأضافت بنان أبو زين الدين، في حديثها لـ”نون بوست”، أن هذه الجرائم لا تشكّل حالات فردية بل تستمر بالحدوث في أماكن مختلفة من المنطقة بالعربية، في الوقت الذي تغيب فيه آليات الحماية والاستجابة لشكاوى التهديد، وتستمر الأنظمة والقوانين بالتطبيع مع العنف واستباحة أجساد ودماء النساء، عبر تأكيدها أولًا على سلطة الرجال على حيواتهن وأجسادهن، ومن ثم عبر تخفيف العقوبات ضد القتلة والمعتدين على النساء.
وطالبَت أبو زين الدين بـ”تخفيف الإجراءات البيروقراطية في آليات حماية النساء”، وتغيير منظومة الحماية للمعنّفات وإضفاء تسهيلات أوسع ممّا هي عليه راهنًا، إذ يقتصر الأمر على “الخط الساخن” في الجهات الأمنية، وأن تتمَّ إزالة “الوصاية” على المعنَّفات اللواتي يشترط وجود أولياء أمورهن في حال قدّمن شكاوى إزاء تعرضهن للتهديد أو الابتزاز.
في الأردن.. تدفع الثمن مرتين!
في الأردن تتداخل في التركيبة المجتمعية تقاليدٌ دينية وعشائرية محافظة، وحتى لا يأمن القاتل العقاب ويُسيء الأدب والقتل وينشر الجريمة، ينبغي ألّا ندع “فنجان القهوة” هو الحل، وأن يُصار بالقاتل إلى الحكم الذي يشفي الغليل.
تقول بنان أبو زين الدين إن المرأة تدفع الثمن مرتين عندما تحوّل قضيتها إلى طاولة الحل العشائري، الذي يشبه تمامًا إسقاط الحق الشخصي، حيث فيه تكريس للسلطة والولاية على أجساد النساء والفتيات، ونفي حقوق النساء في نيل محاكمة قضائية عادلة ضد المعتدي والمعنِّف والسالب لحقوقهن.
وتستطرد بالقول: “إن الضغط باتجاه تسويات أسرية هو تمديد لمعاناة النساء تحت ذريعة المجتمع والتقاليد، فمستوى الحماية في الأردن للنساء المعنفات ضعيف جدًّا، والكثيرات يحجمن عن تقديم حتى الشكوى لأنهن يعرفن أن الإجراءات عقيمة وغير فعّالة، وبالتالي حتى إذا ذهبت المرأة إلى الجهات المختصة ستظل في الدوامة ذاتها، خاصة أن الذهنية السائدة لا تنظر إلى قضايا العنف الأسري على أنها جرائم، بل مجرد مشكلة داخل أسرة ما، ينبغي حلّها من دون اللجوء إلى القانون”.
يلفت المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، وعلى لسان الباحث القانوني عمر العجلوني، إلى أن ازدياد جرائم القتل ضد النساء لا يمكن فصله عن الارتفاع العام في جرائم القتل في المجتمع، لأن المرأة هي جزء من المجتمع تتأثر وتتفاعل معه سلبًا أو إيجابًا.
المرصد الأورومتوسطي مهتمّ بإجراء المحاكمات العادلة وتطبيق القرارات المتوافقة مع القانون، وبأن يُعاد النظر بالتشريعات التي تعرقل تنفيذ العقوبات وردع الجناة
ويقول المحامي العجلوني خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن أسباب تنامي حوادث القتل بالمجتمعات تعود إلى التأخُّر في تنفيذ العقوبة والردع وليست الأحكام نفسها، ففي حالات كثيرة يكون الحكم واضحًا على الجاني ومستند إلى نصوص القانون مع وجود الأدلة والبراهين، فتأخُّر تنفيذ العقوبات يخفّف من الردع العام بشكل كبير، بالإضافة إلى ما يُعرف قانونيًّا بـ”إسقاط الحق الشخصي””.
ويكمل: “حتى جرائم القتل من الممكن أن يتمَّ بها إسقاط الحق الشخصي فيها بالتالي لا توجد عقوبة، لذلك من المهم تعديل القوانين القائمة على إسقاط الحق الشخصي أولًا، خاصة عندما نتحدث عن القتل القصد والعمد، فالأمر لا يمسّ أهل الضحية فحسب، بل المجتمع بأكمله”.
إسقاط الحق الشخصي في القانون الأردني هو “رغبة المجني عليه بعدم مجازاة الجاني قانونًا”، ويكون أثره إما زوال دعوى الحق العام أو العقوبة المحكوم بها، وإما أن يكون سببًا مخفّفًا تقديريًّا للعقوبة، ويكون إسقاط الحق الشخصي من حق المجنى عليه (المشتكي) أو وليه أو وصيه أو القيّم إذا كانت الجريمة واقعة على المال، أو من أحد أولياء الدم إذا كان المجنى عليه متوفيًا كنتيجة للجريمة.
وعن الحلول العشائرية، أوضح المختص القانوني أنها ليست بالأمر السيّئ بالمطلق، لأنها بالبداية لا قيمة قانونية لها، إنما هذه الحلول تساعد في تهدئة النفوس وتسيير الأمور بشكل أفضل، فالإشكالية الوحيدة الكبرى تتمثل بأن الحلول العشائرية كثيرًا ما تفضي إلى إسقاط الحق الشخصي حتى بجرائم القتل على سبيل المثال، لذلك لو تمَّ إلغاء إسقاط الحق الشخصي من أساسه لبرز الدور الإيجابي والفعّال للحلول العشائرية.
ولفت إلى أن المرصد الأورومتوسطي مهتم بإجراء المحاكمات العادلة وتطبيق القرارات المتوافقة مع القانون، وبأن يُعاد النظر بالتشريعات التي تعرقل تنفيذ العقوبات وردع الجناة.
في مصر.. بطء الاستجابة
في مصر لا يختلف الأمر كثيرًا، فالمطالبات في إصلاح القوانين المصرية، العاجزة عن حماية النساء وإلزام المعتدي بعقوبة رادعة، والإمعان في تجاهل شكاوى الفتيات من التهديدات والابتزاز الإلكتروني، باتت أكثر جرأة بعد حادثة قتل الشابة المصرية نيرة أشرف.
ربما كانت جريمة قتل نيرة هي الأعنف والأكثر حضورًا ومشهدية، إلا أنها ليست الحادثة الأولى التي تتعرض فيها مصرية للملاحقة من رجل مهووس، وتفشل في الحصول على الحماية من جهات إنفاذ القانون.
كما تشكو البيانات النسوية المصرية من بطء الاستجابة القانونية تجاه شكاوى واستغاثات النساء المتعلقة بالتحرش والابتزاز الإلكتروني والتهديد،حيث طالبت عشرات النسويات الناشطات الصحفيات والحقوقيات، في بيان مشترك، من النائب العام المصري بالتدخل لوقف ما يحدث من تحريض ضد النساء والفتيات على مواقع التواصل الاجتماعي، على خلفية تعليقات بعض المدونين على حادث قتل الطالبة نيرة أشرف أمام جامعة المنصورة قبل أيام.
وقالت الموقّعات في بيانهن، الذي ما زال يستقبل توقيعات المتضامنات: “نحن الضحايا القادمات في تلك المعركة، ولأن المحرّض يعد شريكًا في الجريمة، نتقدم ببلاغ جماعي على تلك الجرائم التي تحرض ضد النساء والفتيات في مصر، وإضافة إلى ما تمَّ ذكره ورغبة منا في حماية أنفسنا من أن نكون الضحية القادمة، نطالب بقانون موحَّد للعنف يحمي نساء مصر لا يحمي الجاني”.
وقالت الموقّعات إن “التحريض على العنف مجرَّم طبقًا للقانون المصري، وهو أمر بالغ الخطورة، لأنه يتمثل في بثّ التصميم أو التشجيع أو دفع شخص أو عدة أشخاص بأي وسيلة كانت، بهدف تنفيذ جرائم عنف، ويستوي هنا أن يكون التحريض مباشرًا أو غير مباشر، فرديًّا موجهًا إلى شخص بعينه، أو تحريضًا عامًّا موجهًا إلى جماعة غير محدودة من الناس”.
ويوضّح المحامي المصري المتخصص في قضايا الأحوال الشخصية، رمسيس النجار، أن قانون العقوبات المصري لا يرتّب أية التزامات على جهات إنفاذ القانون (الشرطة) في توفير أية حماية خاصة لمن يطلبن عدم التعرض لهن من ملاحقيهن.
ويضيف في مقال له أن تحرير محاضر عدم التعرض وأخذ تعهّدات بذلك “مجرد محضر إداري” لحماية الطرف المبلغ، حتى لا يتعرض له الطرف المشكو في حقّه، “فالأصل في الدستور والقوانين عدم تعرض أي شخص لآخر”.
وبحسب النجار، تقتصر أهمية محاضر عدم التعرض على “إيقاع الظرف المشدد”، أي أن المحكمة تأخذ بها باعتبار جريمة القتل أو الاعتداء أو السرقة قد تمّت بنيّة مبيّته “مع سبق الإصرار والترصد”، ما يغلق باب تخفيف العقوبة على المعتدي، أي أن أثره يقع بعد ارتكاب الجريمة ولا يحمي من وقوعها.
غُيّبت الثقافة الرفيعة والصحافة
السلطة الرابعة في البلاد لم تكن بمعزل عن هذا السجال الحاصل، بل وجّه البعض أصابع الاتهام إلى الإعلام وما يبثّه للمتلقي من روايات وإشاعات تضلّل الرأي العام، وإلى الأفلام والمسلسلات التي عُرضت خلال السنوات الأخيرة، معتبرين أنها تحتفي بمظاهر البلطجة وتصوّر مرتكبيها بطريقة تجعلهم يحظون بالإعجاب لدى الجمهور، وبالتالي تحوّلهم إلى “قدوة” لدى أولئك.
وبرزت آراء تفيد بأن المجتمع المصري والعربي تعرّض لعملية تجريف واسعة على مدار السنوات الماضية، وأدّى هذا التجريف، وفقًا لتلك الآراء، إلى تغييب كامل للدراما الجيدة التي تقدّم نماذج إيجابية وشخصيات متوازنة تصلح لأن تمثل قدوة للشباب، كما غُيّبت الثقافة الرفيعة والصحافة التي تشتبك مع هموم الجمهور وتناقش مشكلاتهم وتنحاز إليهم ضد السلطة.
بالعودة إلى بنان أبو زين الدين، تقول إن الثقافة المجتمعية الذكورية، بما تشمل من مؤسسات إعلامية وفنية ودينية، تكرّس أحقية الرجال في أجساد النساء، إذ تستمر في تفريغ الرجل من القيم الأخلاقية والإنسانية وتعيد حشوه بالعنف والغضب والاستحقاق، وتخلق نماذج من أنماط علاقات غير صحية قائمة على السيطرة وحب التملك والغيرة المرضية والعنف، لتقدّمها للمتلقي المستهلك بوصفها علاقات عاطفية ملحمية.
نهايةً، الرحمة على أرواح النساء اللاتي لا نعرفهن، اللاتي سُلبت طمأنينة قلوبهن وحريتهن وزهقت أرواحهن ودفنت أجسادهن وهنّ مذعورات ولم يرتكبن أي ذنب، الرحمة لهنّ والعزاء لنا.