ليست رمزية الكتب والمكتبات في كونها حاملة للثقافة والمعرفة فقط، وإنما رمزيتها في المقام الأول في كونها جزءًا أصيلًا من تراث وثقافة الشعوب، وحلقات تربط بين الماضي والمستقبل، وبالتالي عندما يقضي الطاغية على هذه الذاكرة المجتمعية لشعب ما، فإنه يهدف من ذلك محو وجود هذا الشعب محوًا كاملًا.
حين قام الصرب بشنّ حرب على البوسنة والهرسك، وحاصروا العاصمة سراييفو في أطول حصار شهدته عاصمة أوروبية في تاريخ الحروب الحديثة، بدا واضحًا أن الصرب كانوا يتحركون من خلال إطار مرسوم بعناية، تمثّلَ في محو أي أثر إسلامي تاريخي يثبت وجود المسلمين في البوسنة والهرسك.
لذلك لم يكتفوا بالإبادة البشرية فقط، بل شرعوا بشكل مدروس ومتعمّد في اقتلاع وتدمير كل التراث الثقافي والفكري والديني في البوسنة، وكان من نتائج هذه الإبادة المرعبة والوحشية التي تجاوزت الأضرار المادية والإنسانية، أن فقدت البوسنة الكثير من تراثها وذاكرتها التاريخية.
مثقفون وعلماء متوحّشون
قبل أحداث العدوان الصربي على البوسنة عام 1992، كان الكثير من المثقفين والشعراء والعلماء الصرب يسعون للتمهيد للإبادة الثقافية للبوسنيين، ففي عام 1986 أصدر المنبر الفكري الرسمي في يوغسلافيا، والمتمثل في أعضاء الأكاديمية الصربية للفنون والعلوم (SANU)، مذكرة دعت إلى ضرورة التكامل الوطني والثقافي للشعب الصربي، وقد وردَ فيها: “إن تأسيس السلامة القومية والثقافية الكاملة للشعب الصربي هو حقهم التاريخي بغضّ النظر عن الإقليم الذي يتواجد فيه الصرب”.
ميلوسيفيتش، زعيم الحزب الشيوعي في صربيا والذي انقلب إلى النزعة القومية، تبنّى هذه المذكرة، والتي على أساسها شرع المثقفون والعسكريون الصرب في إعادة تشكيل البوسنة وفق تصوراتهم العنصرية، حيث أُنكر حق المسلمين في الوجود، وظهرت الكثير من الأشعار والكتابات التي دعت علانية إلى ذبح المسلمين البوشناق، ونزع الصفة الإنسانية عنهم، وتبرير التطهير العرقي والثقافي بحقّهم، إلى حد اعتبار البوسنيين أتراكًا دخلاء على هذه المنطقة، ومدمّري صربيا، وخونة لوّثوا العرق السلافي.
لكن اللافت هو تقديم الدكتور الصربي يوفان راسكوفيتش نظرياته المتعلقة بالتحليل النفسي للمسلمين، والذي ادّعى أنه اكتشفها من خلال ممارسته السريرية، حيث أعلن أن المسلمين يعانون ما أطلق عليه بـ”الشَّبَق الشَّرجي” (Anal-erotic fixation) بسبب ممارستهم المتكررة للوضوء والصلاة، وهذا الشبق الشرجي يولِّد لدى المسلمين كره للآخرين، أما الصرب بحسب هذا الدكتور فهم المجموعة الوحيدة التي تتمتّع بصحة نفسية سوية وقادرة على ممارسة السلطة، وبالتالي مصيرها هو الهيمنة على الشعوب اليوغوسلافية الأخرى.
كذلك أكّدت الدكتورة بيلجانا بلافسيك، أستاذة علم الأحياء والعميدة السابقة لكلية العلوم الطبيعية والرياضيات في جامعة سراييفو، على وجود تشوُّه جيني لمسلمي البوسنة بسبب اعتناقهم للإسلام، بحسب هذه الدكتورة هناك جين وراثي متجذّر في من يعتنق الإسلام، ولذلك تقول: “بالطبع مع كل جيل متعاقب من المسلمين، يصبح هذا الجين أكثر تركيزًا، ويزداد الأمر سوءًا، لأنه ببساطة يستفحل ويعبّر عن نفسه أكثر، ويفرض عليهم أسلوبًا في التفكير والسلوك”.
لكن المثير للضحك هو ما ادّعته العالمة الصربية ندى تودوروف، حيث أكّدت على أن حكايات “ألف ليلة وليلة” التي يقرأها الأطفال المسلمون تقدّم لهم “توجيهًا لا شعوريًّا” لتعذيب وقتل المسيحيين، تشرح تودوروف نظريتها، فتقول: “بما أن هذه القصص مليئة بالإثارة الجنسية، فمن المؤكد أن المسلمين قرأوها بعناية خلال فترة البلوغ، كما يظهر تأثير هذه القصص على عقول المسلمين الواعية واللاواعية في ارتكاب الفظائع”.
كما ذهب نيكولا كوليفيتش أيضًا، أستاذ الأدب بجامعة سراييفو، ويعتبر من أهم المتخصصين في أدب شكسبير، وأصدر مجموعة كتب في النقد الأدبي والشعر، حيث تبنّى بكل إخلاص سياسة التطهير العراقي، وأثناء تدريسه في الجامعة لمدة 27 سنة كان يهين آلاف الطلاب البوسنيين، ويدعو إلى طردهم من البلاد لأنه يرى أن من المستحيل على الصرب أن يعيشوا مع المسلمين.
وأيضًا دافعَ الأكاديمي الصربي ميلوراد إكميستيش عن السياسات الصربية العنصرية تجاه المسلمين، باعتبارها تحمل في طياتها صراعًا طبيعيًّا من أجل البقاء البيولوجي والنقاء العرقي، كما ألقى الشاعر الصربي برانا كرنسيفيتش تصريحًا مماثلًا قال فيه: “الصرب لا يقاتلون بدافع الكراهية، بل بدافع اليأس”.
خاض ميلوسيفيتش 3 حروب من أجل إنشاء “صربيا الكبرى”، حارب سلوفينيا (27 يونيو/ حزيران-7 يوليو/ تموز 1991)، ثم كرواتيا (مايو/ أيار 1991-ديسمبر/ كانون الأول 1995)، ثم البوسنة والهرسك (أبريل/ نيسان 1992-ديسمبر/ كانون الأول 1995)
لقد اعتبرت وسائل الإعلام الصربية المسلمين البوسنيين جنسًا دون البشر، وأشارت إليهم بوصفهم غجرًا وقذارة وكلابًا وعاهرات وحيوانات، كما كان يكثر الحديث عن وجود مؤامرة إسلامية دولية ضد الشعب الصربي، وأن معركة ستلوح في الأفق مع المسلمين من أجل إنقاذ القيم والهوية المسيحيتَين.
ولذلك ركّز المفكرون الصرب على استغلال الأساطير القومية والتاريخية من خلال إحياء معركة كوسوفو التي تمّت عام 1389، وحوّل المثقفون الصرب وفاة الأمير الصربي لازاروس إلى أسطورة شبيهة بالمسيح تمثّل التضحية والموت، إلى درجة أن هذا الحادث تحول إلى صورة إرشادية تحدد دور الصرب في علاقتهم مع المسلمين السلاف.
علاوة على ذلك، قام رئيس صربيا ميلوسيفيتش في 28 يونيو/حزيران 1989 بمسرحية عاطفية، حيث قام بحشد أكثر من مليون صربي ليقدّم لهم رؤيته القومية الإقصائية لـ”صربيا الكبرى” التي تمركزت حول الإثنية والدين، وأيضًا ليذكرهم بمرور 600 عام على معركة كوسوفو، والنضال الأبدي للأمة الصربية، حيث قام ميلوسيفتش، وهو المتحدّث البارع، باستمالة الصرب من خلال استدعاء صور مثالية وسماوية عن تضحيات الشعب الصربي، وكيف أنهم وقعوا ضحية المسلمين، كما ركّز باللعب على وتر العاطفة والدين والمظلومية المتخيَّلة.
جدير بالذكر، أنه خاض 3 حروب من أجل إنشاء “صربيا الكبرى”، فحارب سلوفينيا (27 يونيو/ حزيران-7 يوليو/ تموز 1991)، ثم كرواتيا (مايو/ أيار 1991-ديسمبر/ كانون الأول 1995)، ثم البوسنة والهرسك (أبريل/ نيسان 1992-ديسمبر/ كانون الأول 1995)
خطاب سلوبودان ميلوسيفيتش في غازيمستان لإحياء ذكرى معركة كوسوفو
تلقّى الجمهور الصربي طوفانًا من هذه الخطابات التي صوّرت المسلمين على أنهم خونة للعرق وقتلة المسيح، إضافة إلى الدراما التلفزيونية والأفلام الوثائقية والصحف والروايات التاريخية التي قدّمت التاريخ على أنه النضال الأبدي للأمة الصربية الخالصة ضد عدو مسلم يهدد بقاءها.
كما كانت تفرض على الطلاب في الجامعات والفصول الدراسية قراءة نصوص إلزامية تتحدث عن الفساد الحقيقي للمسلمين، وتاريخ إجرام المسلمين البوسنيين مع الصرب، وبالتالي هيّجت هذه الدعاية التي أطلقها المفكرون الصرب مشاعر البغضاء والاحتقار تجاه مسلمي البوسنة، وأصبحت الإبادة الجماعية والثقافية للمسلمين مهيَّأة داخل أدمغة الشعب الصربي المشحون، والذي أصبح جاهزًا بكل حماس للانفجار، بل وصلت الإبادة لكونها عملًا مقدسًا، وواجبًا دينيًّا يستحقّ غفران الخطايا من قبل الكنيسة الأرثوذكسية الصربية التي دعمت وباركت آلات القتل والإبادة.
تحدّث غوجكو دوجو، شاعر قومي شهير وممثل لصرب البوسنة في بلغراد، إلى رادوفان كاراديتش، رئيس صرب بوسنة آنذاك، قائلًا له: “احرق كل شيء.. يجب ذبح المسلمين جميعًا”، كما صرّح الأخير قائلًا: “في غضون يومين إلى 3 أيام ستختفي سراييفو، وسيكون هناك 500 ألف قتيل، لن يكون هناك المزيد من المسلمين في البوسنة والهرسك”.
محرقة الكتب والمكتبات
كانت البوسنة من أكثر المناطق ثراءً وتنوعًا ثقافيًّا في منطقة البلقان، وجسرًا يربط بين الشرق والغرب، تميّزت بكونها تحمل طابعًا إسلاميًّا شرقيًّا في قلب أوروبا، كما افتخرَت كذلك بأنها امتلكت أعظم وأجمل المكتبات العامة، ليس في أوروبا فقط بل في العالم أجمع.
هذه المكتبات التي حملت من أنوار العلم والفكر، وجادت بها قرائح المبدعين، تعرّضت لنكبة كبرى عندما وجّه الصرب قذائفهم الحارقة بشكل متعمّد نحوها، وكانت المكتبة الوطنية القابعة وسط العاصمة سراييفو من بدايات المكتبات التي أحرقها الصرب، وهي أكبر وأجمل مكتبة في البوسنة والهرسك.
مبنى هذه المكتبة مهيب، تمَّ تشييده على الطراز المغربي في تسعينيات القرن التاسع عشر، ويعدّها البعض بمثابة الذاكرة التاريخية لكل أعراق البوسنة، يحكي أحد أمناء المكتبة فيقول: “أتذكر عدد المرات التي توقفنا فيها للإعجاب بما تحتويه المكتبة الوطنية، وكيف شعرنا بمستقبلنا الآمن كلما نظرنا إليها”.
دكَّ الصربُ في 25 أغسطس/ آب 1992 بقنابلهم الفوسفورية مبنى المكتبة الوطنية، ومنعوا المياه من الوصول إلى المكتبة، والتي ظلت تحترق لمدة 3 أيام كاملة، وتطايرت ألسنة النار من كل نافذة من نوافذها البالغ عددها 86 نافذة، وفرضت القوات الصربية حصارًا على سراييفو، وصار التجول في المدينة خطيرًا، واختبأ القناصون المتوثبون في مبانٍ مرتفعة داخل الشوارع ليُطلَق الرصاص على أي عابر، حتى أن الشوارع كانت تحمل لافتات معلّقة مكتوب عليها: “احذر.. قنّاص”.
رغم ذلك كان الناس يخرجون من بيوتهم في مواجهة وابل نيران القناصة، لينقذوا ما تبقّى من مكتبتهم التي تنهش نيران الحقد رفوفها وجدرانها، والبعض سقطَ قتيلًا على الأرض وهو في ذهابه وإيابه لإنقاذ الكتب، حتى رجال الإطفاء الذين جاءوا لإخماد النيران في المكتبة استهدفهم الصرب بالمدافع المضادة للطائرات لمنعهم من الوصول لإطفاء الحريق.
ولم ينجُ كذلك أمناء المكتبة من القتل، مثل الشهيدة عايدة بوتوروفيتش، أمينة قسم التبادلات الدولية بالمكتبة، والتي كانت تبلغ من العمر 30 عامًا، قتلها الصرب بقذيفة هاون أثناء محاولتها وزملاؤها إنقاذ الكتب والمخطوطات النادرة من النيران.
وأيضًا قُتل مدير المكتبة الدكتور ريزو سيجاريتش أثناء محاولته تركيب أغطية بلاستيكية لبعض الثقوب في المبنى، وقُتل أيضًا ميركو أزينوفيتش رغم أنه رجل في الستينيات من عمره وكان قد تقاعدَ بالفعل، لكنه أراد البقاء لمساعدة المكتبة وقت الحرب.
وفقًا لمراسل وكالة “أسوشيتد برس”، جون بومفريت، والذي كان متواجدًا أثناء إحراق الصرب للمكتبة، شكّل المتطوعون من المواطنين سلسلة دروع بشرية، حتى يتمكّن أمناء المكتبة من تمرير الكتب التي يمكنهم جمعها من المبنى المحترق إلى الشاحنات التي تقف في طوابير في الخارج، وفي مقابلة مع أحد أمناء المكتبة قال: “تمكّنا من حفظ عدد قليل فقط من الكتب الثمينة، لكن كل شيء آخر احترق، والكثير من تراثنا الوطني ملقى في الرماد”.
لقد تحوّلت خزانة كتب فاقت المليون ونصف المليون مجلد، و155 ألف مخطوط نادر، و600 مجموعة كاملة من دوريات الصحف والمجلات المنشورة في البوسنة منذ منتصف القرن التاسع عشر، بالإضافة إلى مجموعات البحث الرئيسية بجامعة سراييفو، والرسائل العلمية، وأعمال العلماء والشعراء والنقاد والكتب الدبلوماسية والوثائق، والروايات والكتب التاريخية، وأمّهات المصادر المعرفية، كل هذه الدُّرَر الثمينة تحولت إلى غبار هامد.
ولم ينجُ من جحيم الحريق الذي استمرَّ في المكتبة مدة 3 أيام (25-27 أغسطس/ آب) سوى 10% فقط من محتوياتها النفيسة، حيث قدّر البعض عدد الكتب والمخطوطات المحترقة بما يساوي 440 كيلومترًا من مساحة الرفوف المتصلة، ولذلك يعتقدُ الكثيرون أن حرق المكتبة الوطنية هو أكبر حادثة لحرق الكتب بشكل متعمد في التاريخ الحديث.
ويصف أحد أمناء المكتبة هذا الحادث الأليم، فيقول: “كانت الشمس محجوبة بدخان الكتب، وكانت أوراق الكتب المحترقة موجودة في كل أنحاء المدينة، والصفحات الهشة من الرماد تطفو على الأرض مثل الثلج الأسود”.
مشاهد من حرق المكتبة الوطنية
وفي 17 مايو/ أيار 1992، قبل 3 أشهر من إحراق الصرب للمكتبة الوطنية، كانت المدفعية الصربية تستهدفُ بقذائف الفوسفور مكتبة المعهد الشرقي في سراييفو (تأسّست عام 1950)، والتي اُعتبرت من أغنى الأماكن في العالم بالمخطوطات، حيث كانت تضمّ مخطوطات إسلامية ويهودية، ووثائق عثمانية في شرق أوروبا يرجع بعضها إلى القرن الحادي عشر الميلادي.
وثائق شديدة الندرة توثّق 5 قرون من تاريخ البوسنة، أكثر من 7 آلاف وثيقة تعود للقرن السابع عشر، و5 آلاف مخطوطة شرقية يرجع تاريخها إلى القرن الحادي عشر الميلادي، إضافة إلى 300 ملف ميكروفيلم لكتابات بوسنية من مكتبات مخطوطات أخرى، و10 آلاف مجلد من مكتبة أبحاث المعهد، و300 مجموعة من الدوريات.
كل هذا الكنز التاريخي الذي لا يقدَّر بثمن أحرقه الصرب بمنتهى القسوة في أقل من ساعتَين، ويعقّب أحد الأمناء فيقول: “إن تدمير مكتبة هذا المعهد الذي كان أحد أهم المراكز البحثية الرئيسية لدراسة البلقان، يمثل خسارة لا يمكن أبدًا تعويضها”، وبحسب البروفيسور András J. Riedlmayer فإن حرق مكتبة المعهد الشرقي هو أكبر خسارة حدثت في محرقة المخطوطات.
وفي مايو/ أيار 1992 تعرّضت أقدم مكتبة في البوسنة والهرسك، مكتبة الغازي خسرو بك، للقصف الصربي، وهي مكتبة تمثّل الذاكرة الثقافية والتاريخية لمنطقة البلقان، وإحدى أهم ركائز هوية البوشناق، فقد بلغ عمر المكتبة 482 عامًا، حيث يرجع تاريخ بنائها لعام 1537 عندما قام بتأسيسها والي البوسنة خسرو بك، والذي جعلها وقفًا لطلاب العلم، ولم تتوقف عن أداء رسالتها منذ تأسيسها إلى يومنا هذا، حيث يزورها يوميًّا ما بين 100 إلى 200 طالب وباحث.
تُعتبر مكتبة الغازي خسرو بمثابة وديعة لوثائق خاصة بالتاريخ الثقافي والسياسي للبوسنة والهرسك، أكثر من 110 آلاف مخطوطة أثرية، و10 آلاف مخطوطة فريدة، يعود بعضها للقرن الرابع والخامس الهجريَّين، وكذلك 500 ألف كتاب نادر بعدة لغات، منها الفارسية والتركية والعربية والعثمانية والبوسنية القديمة المكتوبة بالعربية، ولغات أوروبية مختلفة.
إضافة إلى أرشيف الوثائق التاريخية المتعلقة بالفترة العثمانية في البوسنة والهرسك، وأرشيف مجموعة الوقفيات البالغ عددها 1400 وثيقة، وأيضًا وثائق تحتوي على نظام وتاريخ التعليم في البلاد، كما يوجد بالمكتبة جناح للخرائط القديمة وجغرافية العالم السياسية والديمغرافية في عصر الإمبراطوريات العظمى.
احتوت مكتبة الغازي خسرو على مخطوطات في الأدب والمنطق والفلسفة والتاريخ والطب والرياضيات، مؤلّفات في شتى الفنون والمعارف لبوسنيين وغيرهم من الأمم الأخرى، ومن أهم وأقدم المخطوطات الموجودة في المكتبة كتاب “إحياء علوم الدين” للإمام الغزالي، والذي يعود إلى عام 500 للهجرة، حيث كُتبت هذه النسخة خلال حياته.
وكذلك مخطوطة من كتاب “فردوس الأخبار بمأثور الخطاب” جمعها أبو سجي شيراويح الديلمي الهمداني، ومخطوطة من كتاب “الكشف والبيان في تفسير القرآن” لأبي إسحاق النيسابوري، ويقول حاسو بوبار، أمين المخطوطات الإسلامية: “عندما زرت مكتبة الغازي خسرو بك، لم أكن أتوقع وجود كتب بهذا الجمال المنمّق، إنها مكتبة تعود إلى مئات السنين”.
ورغم قصف الصرب لمكتبة الغازي خسرو، والتي فقدت بعض من محتوياتها، وتعرّضت أجزاء منها للتلف، إلا أنها نجحت من ألّا تلاقي مصير المكتبات الأخرى نفسه بفضل القائمين على المكتبة، وعلى رأسهم الدكتور الرائع والشجاع مصطفى ياهيتش الذي استطاع مع فريقه الصغير إنقاذ 10 آلاف مخطوطة من المحرقة، وذلك في عملية جريئة استمرّت طوال سنوات الحرب والحصار، وقدّرت مجلة المجتمع الكويتي ما فقدته مكتبة الغازي خسرو بـ 3 آلاف مخطوطة.
واستمرارًا لمسلسل إبادة الكتب والمكتبات، وجّه الصرب نيرانهم الشيطانية نحو مكتبة زادار البحثية، والتي كانت تضمّ بين جنباتها 600 ألف مجلد، 5566 مجلة فصلية، 33 كتابًا طُبع قبل عام 1500، 1080 مخطوطة، 1350 كتابًا نادرًا، 1200 خريطة جغرافية، 2500 صورة فوتوغرافية و1500 مدونة موسيقية، كل هذا أصبح غبارًا في طيّ النسيان، كذلك أحرقوا بقذائف المدفعية مكتبة أساقفة الروم الكاثوليك في موستار، وفقدت المكتبة أكثر من 60 ألف كتاب ومخطوط.
أيضًا أحرق الصرب مكتبة دار محفوظات الهرسك في موستار، ودمّروا 50 ألف كتاب ووثيقة تاريخية، وكذلك أحرقت ميليشيات HVO في منتصف يوليو/ تموز 1993 مكتبة مجلس الجالية الإسلامية في ستولاك، والتي كانت تضمّ 40 مخطوطة من القرن السابع عشر، بالإضافة إلى كتب وسجلّات مجتمعية تعود إلى القرن التاسع عشر.
وفي أوائل أغسطس/ آب 1993 تمَّ إحراق مكتبة مسجد الإمبراطور في ستولاك، وكانت تحتوي على عشرات المخطوطات البوسنية والعربية والتركية والفارسية، من القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر، وكذلك تمَّ إحراق مكتبة مسجد بودغراسكا ومكتبة تاون ميوزيام ومكتبة الدير الفرنسيسكاني، والتي ضمّت أكثر من 17 ألف مجلد يمتدّ تاريخها من القرن الخامس عشر إلى القرن التاسع عشر، كما أحرقت القوات الصربية جميع المكتبات العامة في كل من فوكوفار وفينكوفتشي حتى سُوِّيت بالأرض.
ولم تنجُ كذلك مكتبات الجامعات من مدافع الصرب، حيث أبيدت مكتبة جامعة موستار، ويقدّر البعض أن 60% من مكتبات كليات البوسنة تلاشت، حيث فقدت البوسنة 400 ألف كتاب و500 مجلة دورية من مكتبات 10 كليات من جامعة سراييفو فقط، كما تعرّضت 8 فروع من مكتبة بلدية سراييفو العامة للقصف والحرق، فضلًا عن تدمير كل المساجد القديمة التي كانت تحتوي على مكتبات وسجلّات الممتلكات.
وحتى المكتبات الخاصة والشخصية لم تنجُ من جحيم الصرب، مثل مكتبة الراحل علي صديقوفيتش (1872-1936) التي كانت تحتوي على 100 مخطوطة باللغة التركية والبوسنية والعربية والفارسية، حيث تبرّع صديقوفيتش بكامل مكتبته القيّمة وأوراقه الشخصية لمسجد جانجا القديم، والذي كان يضم ّأيضًا مجموعات قيّمة من الكتب والمخطوطات النادرة التي أُضيفت إلى مكتبة المسجد.
أحرقَ الصرب المكتبة عن بكرة أبيها في ربيع 1993، ولم ينجُ منها كتاب واحد، كما تمّت تسوية مقبرة المسجد المجاورة بالأرض، والتي كانت تضمّ مقابر عشرات العلماء المسلمين البوسنيين، وعلّق الصحفي روبرت فيسك على هذه الإبادة قائلًا: “إنهم يقتلون الموتى كما يقتلون الأحياء”، وفي مدينة بانيا لوكا (ثاني أكبر مدن البوسنة) كان يُطلَب من المسلمين تسليم شهادة تثبت أنهم سلّموا كل ما لديهم من كتب.
إبادة الذاكرة
في حقيقة الأمر، عداد الخسائر لا يتوقف عند إبادة الكتب والمكتبات فقط، هناك الكثير من الملفات المرعبة والدامية، مثل أعداد العلماء والمثقفين الذين تمَّ إعدامهم، ومعسكرات الاعتقال، وعشرات الآلاف من النساء اللواتي اغتصبهن الصرب كجزء من الممارسات العسكرية الرسمية، إضافة إلى مئات المساجد والمآذن والمدارس والمعاهد الدينية التي سُوِّيت بالأرض، حيث قدّر البعض أعداد المساجد التي هدمها الصرب عام 1993 بنحو ألف مسجد، وحتى مقابر المسلمين وشواهد قبورهم طمسها الصرب حتى يُمسَح كل أثر للبوسنيين.
لقد وصل الأمر بالصرب إلى إزالة كل ما يشهد على وجود المسلمين البوشناق، حتى لو كان شاهد قبر، لأن حتى شواهد القبور تهدم مزاعم الصرب تجاه البوسنة، ويعقّب ياهتيش: “إذا كانت شواهد القبور هدفًا للصرب، فهل نتصور أن كنوز المعرفة ورموز الهوية الحية كالمخطوطات والكتب ستكون في منأى عن العدوان؟ (..) إن المخطوطات دليل على وجودنا في هذه الأرض منذ قرون، وهذا لا يخدم أهدافهم العدوانية، فهم يزيّفون التاريخ عن عمد”.
وبحسب المدير السابق لمكتبة الغازي خسرو، مصطفى ياهيتش، فإن العدوان الصربي على البوسنة لم يكن يهدف فقط إلى تعريض حياة السكان لكل أشكال التدمير المنهجي حتى يستسلموا، بل كان الصرب يريدون اقتلاع المسلمين ديموغرافيًّا ودينيًّا وثقافيًّا ومحو أي أثر ودليل يثبت أنهم عاشوا وامتلكوا في هذه الأرض التي لهم فيها جذور تاريخية.
لذلك يرى ياهيتش أن الصرب عمدوا من خلال تدمير التراث الثقافي إلى إثبات أن مسلمي البوسنة لا ينتمون إلى وطنهم، وإنما هم بقايا للغزاة الأتراك، وبالتالي ركّز الصرب على محو جميع السجلّات والوثائق الماضية التي تُظهر شرعية المطالب التاريخية للمسلمين في البوسنة، وكذلك محو سجلّات المواليد والوفيات والزيجات، حتى لا يطالب الناس الذين طردَهم الصرب قسرًا بممتلكاتهم بعد ذلك.
وفي الختام، لا يخضع المستضعفون للسيطرة الكاملة إلا إذا أبيدت ذاكرتهم التاريخية، علينا أن نعي أن الضرر الذي يلحق بالذاكرة أسوأ بكثير من التدمير المادي، الكتاب أشبه بكينونة تختلف عن كينونة الأشياء الجامدة الأخرى، فلنتذكر إذًا ضحايانا من الكتب التي لا تقلّ أهميةً عن ضحايا الدم، وكما تعبّر ليلى غازيتش: “أصعب شيء يمكن تخيّله هو قتل الكتاب”.