يشتري السيد عفيف لعائلته مياهًا للمرة الثانية على التوالي هذا الأسبوع بتكلفة مليون ليرة بسبب انقطاع المياه المتكرر، وهي تكلفة عالية جدًّا تفوق دخله ما يضطره للاستدانة لأن عائلته المكوَّنة من 5 أفراد لا يمكنها الاستغناء عن المياه لفترة طويلة بطبيعة الحال.
حال السيد عفيف كحال الكثير من اللبنانيين الذين يشترون مياهًا أسبوعيًّا، تارة لتعبئة الخزانات وتارة أخرى للشرب، ويحتاج شراء المياه إلى ميزانية خاصة من العائلات المنهكة ماديًّا، ومع الأزمة ارتفعت أسعار تعبئة الخزانات وصارت حصرًا على الميسورين، فكيف للسكان أن يدفعوا بأسبوع مليون ليرة في حين أن الحد الأدنى للأجور هو 675 ألف ليرة؟
معاناة نقص المياه
لا تعتبر أزمة المياه من الأزمات المستجدّة بل تعود إلى سنوات ماضية، حيث اعتاد الكثير من اللبنانيين على شراء المياه خاصةً في فصل الصيف، وفي خضمّ الأزمة الحاصلة ازدادت المعاناة فيما يخصّ انقطاع المياه، والتي تُضاف إلى سلسة الأزمات التي استفحلت خلال الانهيار الاقتصادي.
ونشطت خلال الأزمة الشركات الخاصة وموزّعو المياه، وارتفع الطلب حتى صار البيع بالحجز مسبقًا، ما وضعَ الأسر والشركات تحت ضغط متزايد، والمحزن أن البلاد تشتهر بموارد مائية وفيرة، حيث يُعتبر لبنان من أغنى دول المنطقة بالمياه، به 40 نهرًا، وأكثر من 2000 من الينابيع الموسمية، ناهيك عن المياه الجوفية التي تتكون من مياه الأمطار والثلوج، لكن دون تنفيذ استراتيجيات للحفاظ عليها وحمايتها، سيظل لبنان عرضة لنقص حاد بالماء.
تحاول اليوم الأسر اللبنانية استهلاك أقل قدر ممكن من المياه داخل البيوت، خاصة أن المياه النظيفة لم تعد ميسورة التكلفة، ويدفع السكان جزءًا كبيرًا من دخلهم للشركات الخاصة لملء الخزانات الموجودة على أسطح منازلهم، حتى المرافق الحيوية مثل المستشفيات والمراكز الصحية محرومة من المياه الصالحة للشرب بسبب نقص الكهرباء، ما يعرّض الأرواح للخطر.
وحذّرت الأمم المتحدة من نقص المياه الشديد الصيف الماضي، وقالت إن أكثر من 4 ملايين لبناني قد يواجهون نقصًا حادًّا في المياه، أو قد تنقطع المياه عنهم بسبب أزمة الوقود.
باختصار، لبنان بشكل عام ليس بلدًا يعاني من ندرة المياه، لكن سنوات طويلة من سوء الإدارة والفساد جعلت الأمر كذلك، وملف المياه ما هو إلا أزمة ضمن أزمات ليست سوى انعكاس أو نتيجة للسرقة وسوء التنظيم التي تتحمّل مسؤوليتها الحكومات اللبنانية.
ففي موضوع المياه بالذات هناك إهمال دائم مع انعدام الحلول والخطط البديلة، فلا يوجد بالمقام الأول بنية تحتية كافية مثل مرافق تخزين المياه والبحيرات، أو أي جهود لإعادة شحن المياه الجوفية بشكل مصطنع. في نهاية المطاف تكون النتيجة كمن يعيش على واحة من المياه ولكنه يصرخ من العطش، بسبب فشل الدولة في تنظيم ملف المياه وأخذه بجدّية.
كيف تفاقمت الأزمة وأثّرت على الزراعة؟
مشكلة المياه في لبنان معقّدة ومتشعّبة، تبدأ بانقطاع الكهرباء وتنتهي بالتلوث، ناهيك عن الأطماع الإسرائيلية في المياه اللبنانية التي تمثّلت بسرقة مياه نهر الليطاني، ولسوء إدارة المياه تأثير على جميع القطاعات وجوانب الحياة الاجتماعية العامة.
بداية لا شكّ أن أزمة الكهرباء كانت العامل الرئيسي الذي ساهمَ في تفاقم الأزمة، فالرابط بين الكهرباء والمياه راسخ ووثيق، وهو ما يدركه المقيمون في لبنان، إذ عند انقطاع التيار الكهربائي تنقطع معه المياه، وتلعب الكهرباء دورًا رئيسًا في إيصال المياه إلى المنازل، كذلك هناك حاجة للكهرباء لضخّ المياه من مصدرها إلى معامل معالجة المياه، ولاحقًا لضخّها إلى الخزانات، فضلًا عن الحاجة إلى الكهرباء لمعالجة مياه الصرف الصحّي.
وفقًا لدراسة حديثة أعدّها معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية التابع للجامعة الأمريكية في بيروت، يعدّ نقص الكهرباء السبب الرئيسي لعدم تشغيل العديد من محطات معالجة الصرف الصحّي في لبنان، بحيث جرت العادة على التخلُّص من مياه الصرف الآسنة غير المعالجة في الأنهار والمياه الجوفية، ما يتسبّب في تلويثها.
مؤخرًا أُصيب مئات الأشخاص في شمال لبنان بمرض التهاب الكبد الفيروسي A، الذي يقول الأطباء إنه ناتج عن شرب مياه ملوّثة، وبعد أخذ عيّنات من مياه الدولة من كافة المناطق اللبنانية تبيّن أن المياه هي السبب في انتشار Hepatitis أو التهاب الكبد الحميد كما هو معروف.
وفي ضوء الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في لبنان، لم يعد بإمكان الكثير من الناس تحمُّل تكلفة شراء المياه المعبّأة، لذلك عادوا إلى شرب مياه الدولة، كما أن نقص الأدوية يعني أن اللقاحات لم تعد متاحة للجميع، ما يساهم في انتشار الأمراض.
في المقابل، أزمات المياه تلك تنعكس سلبًا على القطاع الزراعي الذي هو بأمسّ الحاجة إلى المياه، فالمحاصيل الزراعية تعتمدُ على المياه للنمو، وتضاؤُل الموارد المائية وتلوُّثها يشكّلان ضربة للمزروعات اللبنانية في سهول البقاع وعكار والخيام التي تحتاج إلى المياه الجوفية للري في الصيف، ما يجعل الخضار والفواكه أكثر تكلفة.
ويُعتبر نقص المياه وارتفاع كلفة الطاقة ونقص معدّات الري من المعوقات الرئيسية للمزارعين، وتعاني البلاد من الاستخدام غير العادل، أي أن هناك غيابًا كاملًا للتخطيط والتنظيم المائي فيما يخصّ الزراعة، كذلك معظم شبكات الري لا تعمل، ويعتمد المزارعون على الآبار الارتوازية أو المحاصيل البعلية منخفضة الإنتاجية.
فتشغيل مزرعة في لبنان على سبيل المثال يشكّل تحديًا لأسباب مالية وعملية، كذلك بات صعبًا تأمين وصول موثوق ومستدام للمياه أو شراء المواد الخام المستورَدة مثل الأسمدة التي أصبحت باهظة الثمن، وخفض التكاليف يعني تقليل الاعتماد على الواردات وحتى ضخّ المياه، لذلك يميل المزارعون نحو زراعة المحاصيل التي تتطلب كميات أقل من المياه، وهذا كله في نهاية المطاف يؤثّر على الإنتاج الزراعي وتراجعه من حيث الجودة والكمية.
هل تحلُّ السدود أزمة المياه؟
تعتبر السلطة، وعلى رأسها التيار الوطني الحر الذي يستحوذ على وزارة الطاقة منذ 10 سنوات، أن الحل الأمثل لأزمة المياه هو بناء السدود، ويتمسّك الوزراء ومعهم رئيس التيار جبران باسيل بفكرة إنشاء السدود، وشكّلت القضية صراعًا سياسيًّا ووطنيًّا على الساحة اللبنانية، حتى أنها قسمت الشارع اللبناني بين موالٍ ومعارض لفكرة السدود.
هناك العديد من مشاريع السدود في لبنان حاليًّا، منها نُفِّذت ومنها قيد التنفيذ، نذكر من هذه السدود سد المسيلحة، سد القيسماني، سد بلعا، سد بقعاتا وسد بحيرة الكواشرة، رغم بناء هذه السدود لم يتغيّر شيء بل فشل أغلبها.
وضعت وزارة الطاقة والمياه، عام 2011، الاستراتيجية الوطنية لقطاع المياه، ووعدت بحلّ المشكلة بحلول عام 2021 بكلفة بلغت حوالي 10 مليارات دولار، وبعد مرور أكثر من 10 سنوات ازداد الوضع سوءًا، وتواجه هذه الاستراتيجية موجة كبيرة من الانتقادات من قبل سياسيين وخبراء لناحية افتقادها لدراسات الأثر البيئي والجدوى الاقتصادية، إضافة إلى اتهامات بالفساد عبر تلزيم إنشاء هذه السدود لمتعهّدين محسوبين على الطبقة السياسية الحاكمة.
ويكشفُ سد بسري الذي اقتحمه المتظاهرون عدة مرات اعتراضًا عليه، ملامح الصراع الكبير حول السياسة المائية الحالية، والتي تحوّلت إلى معركة سياسية بامتياز بين التيار الوطني الحر وحزب الله من جهة، وجمعيات أهلية وبيئية تساندها أحزاب سياسية أبرزها حزب القوات والكتائب اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي من جهة أخرى، فعلى ما يبدو أنها سرقة ضخمة والكل يريد حصته من هذه الصفقة.
تبقى السدود ضمن المشاريع التي على ما يبدو كانت وما زالت ذريعة للهدر وسرقة المال العام، وما الصراع السياسي إلا دليل على ذلك
من جهة ثانية، صرّح رئيس الحركة البيئية اللبنانية، بول أبي راشد، مرارًا لوسائل إعلام محلية أن المشترَك بين معظم السدود في لبنان هو جيولوجية الأرض المتشابهة، أي أنها متشقّقة كاريستية، تتسرّب منها المياه عند التجميع، ففي سد بلعة في البترون، الذي مضى عليه أكثر من 6 سنوات، تبيّن أن الأرض مشققة، فتحولت الأراضي المجاورة إلى مقالع وكسارات لسدّ هذه الشقوق، والحال مشابه في سد بقعاتا في الشوف، وفي سدّ المسيلحة للمرة الثانية يملأون السد لتعود المياه لتنقص وتتسرّب في الأرض من جديد.
ويقول أبي راشد إنه عام 2014 صدرت دراسة عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أكّدت أن نحو 65% من أرض لبنان كاريستية تسرِّب المياه إلى جوف الأرض، وأن مياه الثلوج والأمطار تخزّن بنسبة تفوق 50% في جوف الأرض.
بالتالي، حسب أبي راشد، يجب المحافظة على هذه الثروة الجوفية واستخدامها لأنها الأنظف وتتبخّر بنسبة أقل من المياه السطحية، فالينابيع تخرج من جوفه إلى سوريا وفلسطين والأردن، سائلًا: “كل هذه المياه في جوف الأرض ونحن نسعى إلى تخزينها فوق الأرض؟”.
تبقى السدود ضمن المشاريع التي على ما يبدو كانت وما زالت ذريعة للهدر وسرقة المال العام، وما الصراع السياسي إلا دليل على ذلك، حتى في ظلّ إفلاس الدولة وتراكم الأزمات ظلت تشكّل وزارة الطاقة مطمع الكتل النيابية، فهي بمثابة الدجاجة التي تبيض ذهبًا لهم، ويبقى المواطن اللبناني ينتظر شركة توزيع المياه الخاصة لملء خزاناته خوفًا من الانقطاع.