في 30 يونيو/حزيران 2020، ورغم أن السودان في ذلك الوقت كان تحت عهدة حكومة مشتركة بين مدنيين وعسكريين، حاز فيها المدنيون صلاحيات تنفيذية واسعة عبر سيطرتهم على مجلس الوزراء، فإن السلطات، ورغم الطابع المدني للحكومة آنذاك، اتخذت تدابير أمنية صارمة، فأعلنت قبل 48 ساعة من 30 يونيو/حزيران ذاك العام، إغلاق الكباري والجسور أمام حركة المواكب التي أعلنتها لجان المقاومة في ذكرى “30 يونيو 2019” التي يعتبرها البعض الأكثر أهمية في المشهد السوداني في سنواته الثلاثة الماضية.
بوصلة للعملية السياسية
على حد سواء، ولكل الأطراف السياسية، يتخذ تاريخ “30 يونيو/حزيران” في السودان أهمية خاصة، التاريخ يؤرخ لليوم الذي أثبت فيه الحراك ذو الطابع الجماهيري أنه الأوفر حظًا بين جميع الأطراف في القدرة على توجيه العملية السياسية وضبط اتجاهاتها.
الحشود المؤلفة التي خرجت بعد صمت دام قرابة الشهر، ريثما فاق الجميع من صدمة مقتل المئات في مجزرة فض اعتصام القيادة العامة – الآلاف بحسب إحصاءات منظمة أسر شهداء ديسمبر – أثبتت للعسكريين أن أعمال القتل والتصفيات التي غامروا بارتكابها، لم تكن كفيلة بوأد الحراك ذي الطابع الجماهيري، فقد تميزت “30 يونيو” بكونها “نهوض من تحت الركام”، ركام الجثث التي خلفها فض اعتصام القيادة الذي كان الورقة الأخيرة في أيادي العسكريين تجاه الحراك الشعبي المدني.
من جهتها، أيقنت القوى السياسية المدنية أن قوتها الحقيقية تكمن في الزخم الذي يعطيه لها الشارع عبر تظاهرته التي تأتي في الغالب في صف مطالبها، عبر تلك المواكب التي ظلّت ترهق الأجهزة الأمنية، ونجحت مرارًا وتكرارًا في تعطيل وتنغيص سير الحياة اليومية للحاكمين، بأقل الكُلف والتكتيكات التي اكتسبها الشارع خلال التظاهرات التي أسقطت البشير، ثم التي خرجت آنفًا ضد العسكريين، مؤازرة للقوى السياسية المدنية.
وتتخذ الذكرى أيضًا خصوصية، نسبة لأنها تاريخ انقلاب البشير في عام 1989، الذي أسقطته الثورة التي يحبذ العديد ترديد كلمة “ما زالت مستمرة” مقرونة معها، في محاولة تصوير أن المشهد الممتد منذ ديسمبر/كانون الأول 2019 وإلى الآن ما زال مشهدًا واحدًا مستمرًا، كأنما أركان نظام البشير “لم تسقط بعد”.
أهمية خاصة لمواكب هذا العام
منذ وقت مبكر مطلع هذا الشهر، بدأت الدعاية المكثفة لمواكب “30 يونيو” في السودان وولاية الخرطوم بشكل خاص، ورغم الإجراءات الأمنية المشددة التي من المتوقع أن تتخذها السلطات منذ وقت مبكر – مع حديث عن قطع الإنترنت والاتصالات قبل ثلاثة أيام من انطلاق المواكب -، فإن نجاح المواكب بات أمرًا مسلمًا، مع الدعاية الكثيفة والدعوات التي أطلقها عدد من الأجسام والكيانات، إضافة إلى دعوات لجان المقاومة، القوة الأساسية المحركة للمواكب.
وتكثّفت الدعاية المضادة والمضللة للمواكب بشكل بائن على منصات التواصل الاجتماعي، فقد انتشرت العديد من الرسائل المفبركة والمنسوبة لعدد من رموز وقيادات الشارع، التي صيغت بعناية، تنادي بعدم الانخراط في المواكب، ما يوضح درجة الهلع التي تسيطر على الأجهزة الأمنية جراء المواكب المزمع تسييرها، ما دفعها لاتخاذ تدابير مبتكرة في الدعاية المضادة للمواكب القادمة.
وينظر العديد من المراقبين لتظاهرات 30 يونيو/حزيران هذا العام، بنظرة مختلفة، فرغم أن تظاهرات العام الماضي تم إحياؤها بطابع يغلب عليه اجترار ذكرى التاريخ، فإنها تحل هذا العام كحدث مستقل وجديد له خصوصيته في ظل المشهد السياسي الحاليّ الذي يبلغ ذروة غليانه هذه الأيام، مع الكثير من التكهنات والتوقعات حيال مستقبله المفتوح على العديد من الاحتمالات.
زخم سياسي له ما بعده
ليس من المتوقع أن يظل المشهد على ما هو عليه عقب تظاهرات “30 يونيو”، فرغم أن التظاهرات ظلت مستمرة منذ 25 أكتوبر/تشرين الأول العام الماضي بشكل شبه يومي، رفضًا للعسكر بصورة عامة وللمشهد السياسي المترتب على الانقلاب بصورة خاصة، فإن هذه المواكب تأتي في الوقت الذي تجري فيه تفاوضات تحت غطاء عملية تحاورية، لإنهاء الأوضاع المترتبة على الانقلاب، أي إنهاء الانقلاب نفسه.
لذا لم يكن من الغريب أن تكثف قوى الحرية والتغيير دعوتها ودعايتها لـ”المليونية” – كما يحب أن يدعوها منظمو التظاهرة الاستثنائية – تحت شعار إنهاء الانقلاب، إلا أن الغريب كان أن تدعم المواكب المرتقبة حتى المجموعة التي دعمت الانقلاب من القوى المدنية، مجموعة “الميثاق الوطني” المنشقة عن قوى الحرية والتغيير، التي دعمت المواكب بشكلٍ مفاجئ، ما عدّه مراقبون ومحللون اعترافًا بفشل الانقلاب، وتأكيدًا على قوة وحصرية الشارع في تحريك المشهد السياسي.
ويرى الباحث بمعهد الدوحة للدراسات العليا والمحرر بموقع “ألترا سودان” أبو بكر عبد الرازق أن حجم المشاركة الشعبية الكبيرة – المتوقعة بطبيعة الحال – في 30 يونيو/حزيران ستعطي زخمًا إضافيًا للصوت الرافض للانقلاب بصورة عامة، ولصوت اللاءات الثلاث “لا تفاوض – لا شراكة – لا شرعية”، معتبرًا أن الزخم المترتب على المواكب سينعكس مستقبلًا على أي تسوية قد تتم بين قوى الحرية والتغيير والعسكريين لصالح القوى السياسية التي ترفع شعار إنهاء الانقلاب، لتتساوى مع مطالب الشارع الذي يتوقع أن ترتفع مطالبه عقب الزخم الذي ستتركه المواكب كما هو متوقع.
رغم أنه ليس من المتوقع أن يسقط الانقلاب بفعل موكب 30 يونيو/حزيران ذاته، فإن الموكب سيكون خطوةً كبيرةً نحو إسقاط الانقلاب
وأشار الباحث في معهد الدوحة للدراسات العليا في حديثه لـ”نون بوست” إلى أن أثر المواكب لن يتوقف عند الجانب السياسي فقط، بل سينعكس أيضًا على التجربة التنظيمية الحديثة نسبيًا للجان المقاومة، ليساهم في صقل تجربتهم وتنظيمهم للمواكب وانتشارهم في مدن العاصمة وولايات السودان المختلفة.
وبخصوص التعليق على دعم مجموعة الميثاق الوطني المنشقة عن الحرية والتغيير، لمواكب 30 يونيو/حزيران، يرى عبد الرازق أن ذلك يعد اعترافًا صريحًا بفشل الانقلاب، بيد أنه يرى أن المجموعة باتخاذها هذا الخيار قد أفلحت في قراءة اتجاهات الشارع وتوجهاته.
وأضاف أن العسكريين أقروا بفشل الانقلاب مسبقًا عندما بدأوا في البحث عن مخرج عبر الجلوس مع القوى السياسية، لذلك – بحسب ما يرى أبو بكر – كانت المجموعة المدنية التي دعمت الانقلاب المتمثلة في قوى الميثاق الوطني، كانت أكثر حرصًا على استمرار الانقلاب حتى بعد إقرار العسكريين بضرورة الخروج من المأزق عبر الحل السياسي، معتبرًا أن إقرارهم بفشل الانقلاب عبر الانحياز لصوت الشارع ما هو إلا “تمسح بأذيال الثورة” بحد وصفه.
وأضاف قائلًا: “ختام القول، رغم أنه ليس من المتوقع أن يسقط الانقلاب بفعل موكب 30 يونيو/حزيران ذاته، فإن الموكب سيكون خطوة كبيرة نحو إسقاط الانقلاب، ففي حين المواكب تأتي في صالح القوى الرافضة للانقلاب من ناحية سياسية ومعنوية، ستنعكس سلبًا في الاتجاه المضاد، خصوصا مع حالات الانقسام التي تضرب معسكر الانقلاب”.
مراوغة محتملة.. ولا أثر!
لا يخفى أن تاريخ المجموعة العسكرية الحاكمة الآن في السودان مليء بالمراوغة والنكوص عن العهود، وقياسًا على ذلك استقبل العديد من المتابعين الأحاديث التي تحدثت عن اقتراب الوصول إلى تسوية باعتبارها إحدى ألاعيب المجموعة العسكرية لتجاوز الموقف التفاوضي الحاليّ الذي يميل لصالح المدنيين باصطفاف الشارع مع مطالب المدنيين.
وحتى الآن، ورغم تفاؤل العديد من المراقبين لسير عمليات الحوار التي تميل إلى كونها تفاوضًا أكثر من ميلها إلى الجانب التحاوري، ليس هناك ما يمكن التأكيد عليه بخصوص مكاسب حقيقية، وإنما ثمّة تسريبات غير رسمية تتحدث عن اقتراب التسوية، هذا مع نفي جهات عسكرية نافذة لإمكانية عقد اتفاق ثنائي.
ولا يستبعد أن تعود المؤسسة العسكرية بعد انقشاع سحابة تظاهرات 30 يونيو/حزيران إلى موقفها المتمسك بالسلطة والرافض لوجود سياسي مدني حقيقي، إذ لا تعجز المؤسسة العسكرية عن المبررات التي تستأثر باسمها بالسلطة، ويكفي وصف القوى السياسية بالتعنت، ورفض توسيع قاعدة المشاركة، كما كانت تلك الأوصاف مُبِررًا لها لتنفيذ انقلابها في 25 أكتوبر/تشرين الأول.
وبسيناريو شبيه، يوضح الكاتب والناشط السياسي منتصر إبراهيم ملامح المشهد السياسي في أعقاب التظاهرات المرتقبة، فيشير إلى أن النظام الحاليّ يستند إلى شرعيته باتفاق سلام جوبا، الذي يعتبره أحد أبرز ما تصبو له العملية السياسية الجارية.
ويقلل إبراهيم في حديثه لـ”نون بوست” من الأثر المرتقب للتظاهرات، قائلًا إنها ستمر كأي ذكرى مرّت لـ”30 يونيو”، مع إشارته إلى أن القوى المحركة للتظاهرات تفتقد للتمثيل السياسي، إذ وصف أنها قوى شعبية في الأساس.
وأضاف أن جهود المجتمع الدولي الحاليّة تنصب على تحقيق السلام الذي أطرافه المؤسسة العسكرية والحركات المسلحة، مستبعدًا أن تتفتق العملية الجارية – التي نفى عنها صفة التفاوض، مشددًا على أنها حوار شامل بين مكونات محددة – عن تسوية بالشكل الذي يروج له.
تيارات التغيير الجذري.. مكاسب في كلِ حل
سواء أفضت العملية السياسية الحاليّة إلى تسوية سياسية أم لا، فإن المستفيد الأكبر من التظاهرات سيكون التيار الذي يدفع بخيار التغيير الجذري إلى المشهد السياسي في السودان. علمًا أن تيار التغيير الجذري، هو تيار عريض يرفض التسوية السياسية ويرفض مبدأ الحوار مع العسكريين من الأساس ويطالب بتسليم السلطة بلا شرط ولا قيد.
ورغم أن التيار لم يتشكل حتى الآن كجسم سياسي، فإن بعض الجهات والأجسام ذات الثقل طرحت نفسها باعتبارها جهات تسعى لتغيير جذري، على رأس هذه الجهات لجان المقاومة، القوى الأساسية المحركة للشارع منذ الانقلاب، وحتى ما قبله، فقد ظلّت بُعبعًا مخيفًا يتخذ خيار الشارع كأول الخيارات لتحقيق مطالبه.
إضافة إلى لجان المقاومة، فثمّة تحركات قامت بها جهات وأحزاب سياسية ذات ثقل، على رأسها الحزب الشيوعي السوداني، الذي أفضت تحركات له مع قادة حركات مسلحة غير موقعة على اتفاق سلام جوبا، بغرض تشكيل تحالف للتغيير الجذري، إلى اعتقال عدد من قياداته في مايو/أيار المنصرم.
تلك الأجسام العديدة التي ترفع شعار الإسقاط الكامل للعسكريين، ستكون الفائز الأكبر على أي حال، ففي حال عدم الوصول إلى تسوية سياسية تساهم قليلًا في خفض درجة حرارة الشارع، فلن يجد تيار التسوية بدًا من العودة واللجوء إلى تيار التغيير الجذري، الذي لن يكون قد خسر أي شيء حتى ذلك الحين.