يعود أبو عوّاد (مزارع ومربي ماشية) بذاكرته 15 عامًا إلى الوراء، واصفًا حال نهر الفرات واعتماد المزارعين ومربي المواشي عليه في سقاية مزروعاتهم ومواشيهم، وسباحة أطفالهم فيه واستجمام الأسر على ضفافه.
يقول أبو عوّاد (50 عامًا)، والمنتمي إلى بلدة الهجين بريف دير الزور، في حديثه لـ”نون بوست”: “كانت مياه الفرات صافية جدًّا، ويعتمد عليها الفلاحون والمزارعون ومربو المواشي والصيادون، وكان منسوب مياهه مرتفعًا، خاصة في الشتاء، أما اليوم فتُعتبر مياهه كارثة على المزارعين ومربي الماشية، إذ تغيّر لونه وأصبح داكنًا، كما أن رائحته أصبحت لا تطاق وانتشر البعوض والحشرات على ضفافه، وفُقدت أنواع كثيرة من الأسماك، وأصبح خطرًا على حياة المواشي والمزروعات التي تُسقى منه”.
يضيف أبو عوّاد شاكيًا: “نفقت مؤخرًا الكثير من أغنامي بعد مرض أصابها جرّاء شربها من مياهه الملوثة، كما نفقت العديد من قطعان الجواميس عند شخص أعرفه، حتى مزروعاتنا لم تعد بنفس الرائحة والطعم والإنتاج والقيمة الغذائية.. نحن مضطرون للاعتماد على مياه الفرات لسقايتها، فهي أفضل بكثير -رغم تلوثها- من مياه الآبار الارتوازية”.
أسباب متنوعة للتلوث وواقع مروّع
يشهد النهر الذي يعدّ أطول أنهار غرب آسيا كارثةً حقيقيةً، ويواجه زيادة الملوِّثات في مائه، بعد أن كان مصدرًا رئيسيًّا لمعظم مياه الشرب في محافظات الجزيرة السورية، إذ يدخل النهرُ الأراضي السورية عند مدينة جرابلس الحدودية قادمًا من تركيا، ويمرّ في الرقة ثم دير الزور منتهيًا عند البوكمال، ليدخل الأراضي العراقية مُسجِّلًا خلال مروره بالأراضي السورية فقط 610 كيلومترات.
ورغم المسافة الطويلة التي يقطعها، فقد تعددت أسباب تلوثه، خاصة مع خضوع المنطقة شمال شرق سوريا لهيمنة التنظيمات المسلحة من جهة، وانعدام الهدوء والاستقرار الفعلي وازدياد الأوضاع الاجتماعية والخدماتية سوءًا من جهة أخرى.
فمن سيطرة تنظيم “داعش” الذي استخدم الفرات كمقبرة جماعية كبيرة لرمي الجثث، إلى قوات “قسد” التي حوّلت الفرات إلى مرتع لعمليات تهريب النفط وما يتبع تلك العمليات من تسرُّب نفطي ضارّ إلى المياه، فضلًا عن اضطرار المدنيين بعد غياب خدمات الصرف الصحي ومكبّات النفايات التخلُّص منها في النهر، ناهيك عن عدم ترشيد استخدام الأسمدة والمبيدات في الزراعات القريبة من ضفافه.
يلفت الصحفي إبراهيم الحسين، المنتمي إلى الريف الشرقي لمحافظة دير الزور، إلى أن التلوث الحاصل في مياه الفرات هو تلوث قديم قبل عام 2011، إلا أنه لم يكن بهذا الحجم والخطورة والازدياد، حيث كان نظام الأسد يحوّل جميع مجاري الصرف الصحي والمنشآت الصناعية والمشافي إلى نهر الفرات، إضافة إلى تحويل نهر البليّخ الملوثة مياهه بشكل كبير إلى الفرات أيضًا منذ عام 2010 تقريبًا، مشيرًا أن النهر نتيجة جريانه وتدفقه الشديد كان يعافي تلوثه بمياه جديدة.
كمية مياه مصرف واحد لوحده تعادل كمية مياه الصرف الصحي لكامل حوض الفرات، وهناك العشرات مثل هذا المصرف
وينوّه الحسين أنه مع سيطرة تنظيم “داعش” على المنطقة امتلأ النهر بجثث القتلى على أيدي التنظيم، إضافة إلى استخدام المزارعين ومربي المواشي النهر كمكبّ لنفاياتهم الزراعية ومواشيهم النافقة، كما يقوم الأهالي وأمام غياب الخدمات الصرفية بتحويل مجاري الصرف الصحي إلى النهر ورمي نفايات بيوتهم في مياهه، ما أدّى إلى تراكم الفضلات والأكياس والمواد الصلبة على سطحه، فأصبحت رائحته منتنة ولونه داكنًا، وكأنه مياه مجاري.
وأكّد الحسين أن أهم ملوِّث للنهر هو التسرُّب النفطي، والذي لا يزال إلى يومنا هذا جرّاء عمليات التهريب من المعابر النهرية والممرات المائية، وسط غياب كامل للمنظمات المسؤولة، والعجز عن تقديم الحلول المبدئية للحدّ من تلوث النهر.
ومع انتشار تلك الملوِّثات في مياه الفرات يتوجّه الأهالي إلى الاعتماد على مصادر المياه غير الآمنة كالآبار الارتوازية من جهة، وشراء مياه شرب المعلَّبات لأطفالهم، إضافة إلى استخدام المياه المفلترة والاعتماد عليها في الشرب من جهة أخرى، خاصة بعد تسجيل حالات مَرضيّة بين الصغار والكبار، كالتسمُّم وأعراض الإسهال وارتفاع درجات الحرارة والتهاب الأمعاء وانتشار أمراض جلدية، نتيجة ازدياد الحشرات السامة، وسجّل سعر بيدون 20 ليتر من المياه المفلترة 1000 ليرة سورية، أي ما يعادل ربع دولار، وسط احتياج الأسرة وسطيًّا لبيدون واحد كل يومَين.
مستقبل مجهول
في أوائل شهر مايو/ أيار الفائت، أكّد ولات درويش، رئيس مكتب الطاقة في الإدارة الذاتية، الجناح السياسي لقوات “قسد” شمال شرق سوريا، أن تركيا تمارس حربًا ضدها من خلال حبسها مياه الفرات، لافتًا أن الوارد المائي بنهر الفرات قلَّ منذ بداية أبريل/ نيسان الفائت، وبالتالي تأثرت السدود الثلاثة المقامة على نهر الفرات، ما يشكّل خطرًا على جميع مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية شمال شرق سوريا، بسبب قلة الوارد المائي الذي يؤثّر بشكل مباشر على مياه الشرب.
وتنصّ المعاهدة التي وُقِّعت عام 1987 على تقاسم مياه الفرات ما بين تركيا والعراق وسوريا، حيث تتعهّد فيه أنقرة بتوفير 500 متر مكعب في الثانية لدمشق كمعدل سنوي، إلا أن هذه الكمية انخفضت إلى أكثر من النصف، حيث وصلت في فترات معيّنة إلى 200 متر مكعب في الثانية، وفق الإدارة الذاتية.
ملوحة
مع انخفاض منسوب المياه ترتفع نسبة الجفاف، بالتوازي أيضًا مع قلة الأمطار وارتفاع درجات الحرارة، وازدياد نسبة تركيز الملوحة في النهر حيث تعدّ أخطر الملوِّثات التي تصيب النهر، وخاصة أملاح الكبريتات.
يشير المهندس علي بطران العبد الله، المنحدر من قرية بقرص تحتاني في ريف دير الزور، أن هناك تصورًا بأن الصرف الصحي هو أكبر ملوِّث لنهر الفرات، لكن هذا من الناحية الجرثومية، أمّا عمليًّا فنسبة الملوحة هي أكبر ملوِّثٍ للنهر، والتي تأتي من ارتفاع نسبة الملوحة في المصارف (خنادق شكلها شبه منحرف، تحفر على عمق 4 أو 5 أمتار، تَسحب المياه المالحة من التربة الناتجة عن السقاية التي تستقر في الأرض، وتحمل معها الأسمدة والمبيدات والهرمونات التي يستخدمها الفلاح، حيث تتجمّع أخيرًا في المصارف وتصبُّ في الفرات بكميات هائلة).
مضيفًا أن نسبة الأملاح تؤثّر على النباتات من حيث الحجم والإنتاج، إضافة إلى تأثيرها على المزروعات التي تضرّ بالإنسان والحيوان وتسبّب أمراضًا خطيرة بشكل غير طبيعي، خاصة السرطانات وفقر الدم المزمن.
وينوّه العبد الله، الذي عمل قرابة 20 عامًا في وزارة الري فرع دير الزور، كما عمل مهندسًا في شركة نفطية خاصة، أنه أجرى دراسة لتحليل ملوحة للنهر من الطبقة إلى البوكمال لصالح وزارة الري عام 2005، بعد شكوى من الأهالي والمزارعين، انتهى بعدها إلى أن مياه الفرات تحرق مزروعاتهم على مساحة 2 كيلومتر نتيجة اختلاطها مع مياه المصرف، حيث وجد أن الملوحة في البوكمال أكثر بـ 6 مرات من الطبقة، والسبب الرئيسي للملوحة هي المصارف الزراعية التي تمّ تنفيذها في مشاريع الري، إذ تحوي نسبة عالية من الأملاح والمبيدات والهرمونات والأسمدة التي يستخدمها الفلاحون.
يشكّل خط المياه المشعّة العابر للنهر من دون أي حماية خطرًا قاتلًا عند تسرُّب المياه منه، حيث يسبّب السرطان ويعدم الحياة في النهر
يشير العبد الله إلى أن كمية مياه مصرف واحد لوحده تعادل كمية مياه الصرف الصحي لكامل حوض الفرات، وهناك العشرات مثل هذا المصرف.
وتعدّ الملوحة في بحيرة السد 0.1 ملليموز، وفي البوكمال 0.6 ملليموز، أي أعلى بمقدار 600%، وهي غير قابلة للشرب بالمقاييس الدولية، علمًا أن محطات تصفية مياه الشرب لا تغيّر الملوحة، فهي تخلّص المياه من الرواسب فقط، وبإضافة الكلور يموت جزءٌ من البكتيريا، ولكنها تبقى في مياه الشرب، حسب إشارة العبد الله.
كما يعدّ معمل الورق غرب طريق دير الزور الحسكة، الذي ينتج مواد كيماوية من ضمنها حمض الكبريت، من الملوِّثات الكبيرة لنهر الفرات، إضافة إلى معمل السكّر الذي له مجرى ملوِّث موجّه نحو الفرات مباشرة يصبّ نفاياته فيه دون معالجة.
لا يلتزم هذان المصنعان وغيرهما بقوانين الصرف الصناعي، إضافة إلى ملوِّثات النفط بشكل مباشر من خلال تسرُّبه إلى النهر عند انفجار خطٍّ ما، والمياه المشعّة والحامضية الصادرة من خزّانات ترقيد النفط، حيث كان يتم تجميع هذه المياه المشعّة بخزانات ثم تضَخّ بشكل عكسي باتجاه الآبار للتخلص منها، فأحيانًا تتسرّب هذه المياه إلى النهر، وأحيانًا نحو المزروعات فتحرقها، كما يؤكد العبد الله.
ويتفق المهندس الكيميائي حسان العثمان مع العبد الله في أن ازدياد الملوحة في الفرات تشكّل خطرًا مرعبًا على حياة الكائنات الحية، إذ تفوق الملوحة الآن -حسب تأكيده- 500 ملغ/ليتر، وقد سجّلت 90 ملغ/ليتر عام 1980، ويأتي ذلك بسبب قلة تدفق نهر الفرات الذي تتحكم تركيا بـ 35% من تدفقه عن طريق السدود، و65% من تغذية نهر الفرات التي تأتي من المياه الجوفية في سوريا، كما أن استصلاح الأراضي عن طريق تصريف الأملاح إلى النهر يؤدي إلى ازدياد الملوحة.
ويؤدّي تصريف الصرف الصحي للمنازل ومخلّفات المصانع والمشافي إلى النهر، دون محطة معالجة ودون قيود، إلى ارتفاع كمية المواد العضوية المنحلّة في الماء، وتُسمّى TOC، إلى الحدّ 300 ppm التي يصعب فصلها عن الماء، وتغيِّر مواصفات الماء وطعمه ولونه.
كما يشكّل خط المياه المشعّة العابر للنهر دون أي حماية خطرًا قاتلًا عند تسرّب المياه منه، حيث يسبّب السرطان ويعدم الحياة في النهر، نظرًا إلى احتواء الماء عناصر مشعّة، إلى جانب خطوط النفط العابرة أيضًا للنهر، والتي يمكن أن تكون قنبلة موقوتة عادمة للحياة، حسب العثمان.
احلول غائبة
قبل اندلاع الثورة السورية، كان هناك إجراءات متّخَذة لحماية بحيرة السدّ، والتي تعتبر إحدى أنقى البحيرات، عبر منع تصريف المياه غير الآمنة إلى البحيرة، سواء الناتجة عن الصرف الصحي أو الزراعي، إضافة إلى تنفيذ 5 محطات معالجة كخطوة أولى في التجمعات القريبة من نهر الفرات، والتي تصبّ المياه الناتجة عن الصرف في مجراه، أما اليوم وبعد توقف هذه الإجراءات ازدادت أوضاع النهر تعقيدًا.
الخبير في مجال السدود والموارد المائية، المهندس عبد الرزاق العليوي، ومدير دائرة صيانة مشاريع حوض الفرات بالرقة سابقًا، رأى أن التلوث في نهر الفرات مرعب جدًّا، حيث أثبتت دراسات شخصية قام بها العليوي قبل الثورة، أن العيّنات اليومية للمياه المأخوذة من بحيرة سد الفرات في الطبقة، ومن النهر بعد الطبقة، مرفوضة لشرب الإنسان والحيوان من ناحية جرثومية، بسبب وجود 4 مستويات جرثومية منها أشنيات الفطر التي تسبِّب الزحار والإسهالات.
وقال العليوي لـ”نون بوست” إنه “بالنسبة إلى التلوث الكيميائي بالعناصر السمية الكبرى والصغرى فهو مرتفع جدًّا، ويؤدي إلى أمراض خطيرة تصل للسرطانات، أما التلوث الفيزيائي فارتفاعه بسبب المخلفات المختلفة التي تُرمى في النهر”.
وعن الحل للحدّ من التلوث، نوّه العليوي أن القطع المباشر للمصارف التي تتجه إلى النهر، وبناء محطات معالجة ثالثية التصفية بالحدّ الأدنى، ثم إرسال المياه المصفّاة إلى النهر من الحلول الناجعة، كذلك منع المواطنين من تلويث النهر بأي ملوِّث بشكل مباشر من خلال سنّ قوانين مناسبة.
مع مضي الوقت لا يزال نهر الفرات ورافده الخابور يُستنزَفان بشكل مرعب، وسط غياب السياسات المائية الإيجابية، ووقوف سلطات الأمر الواقع مكتوفة الأيدي، وحالة الصراع التي تشهدها مناطق شمال شرق سوريا، فيما يعاني السوريون العطش والأمراض والأوبئة، ويعاينون بأمِّ أعينهم احتضار نهرهم العظيم يومًا بعد يوم.