أفرزت عبثية نظام الأسد، في إدارة مكونات المجتمع المحلي السوري وتوازناتها في بيئة من الاضطهاد والاستبداد وغياب المساءلة والمحاسبة، نتائج كارثية ستظلّ ماثلة أمام تحرر المجتمع السوري فترات متعاقبة، تمثّلت بإحداث تصدُّع مجتمعي وتفكُّك الهياكل الاجتماعية، وإفقار المكونات المحلية بخبرات العمل السياسي والمجتمعي والتنظيمي والمدني الفعّال، وضرب العمل السياسي كليًّا داخل المجتمع السوري، الأمر الذي كان سببًا من أسباب فقدان الثقة بين مكونات المجتمع السوري وقوى الثورة والمعارضة خلال سنين الثورة السورية، عبّرت عنه حالة غياب ثقة الحاضنة الشعبية بالمؤسسات المعارضة.
وعزّز ذلك ضعف الخبرة المؤسساتية لدى المؤسسات المعارضة، وغياب الشفافية والكفاءة وسوء إدارة الملفات المختلفة، الأمنية والخدمية والإنسانية والاقتصادية، والتي كان لها دور كبير في توسيع الهوّة بين تلك المؤسسات وحاضنتها الشعبية، حيث لولا وقوف هذه الحاضنة خلف القوى الثورية لما استطاعت هذه القوى الصمود أمام ضربات النظام وحلفائه، ولما استطاعت الثورة السورية بلوغ هذه المرحلة من كفاحها.
ومع تراكم الهزائم السياسية والعسكرية التي مُنيت بها قوى الثورة والمعارضة، وما أصاب الكتل الشعبية من انتكاسة حياتية ومعيشية وتشريد وتهجير ولجوء بعد أكثر من عقد على عمر الثورة السورية؛ زادت الهوّة بين تلك المكونات المجتمعية (الحاضنة الشعبية) والقوى السورية المعارضة، وتراجعَت أهمية الاتّكاء على قاعدة مجتمعية صلبة لاستمرار الثورة وتحقيق أهدافها، في أعين القوى المعارضة التي ركّزت على تحصيل الشرعية الخارجية بدلًا من حلحلة مشاكلها الداخلية وتعزيز وحدة صفّها الداخلي، وهو ما انعكس سلبًا على مسار القضية السورية برمّتها.
في هذا التقرير، الذي نختتم به ملف “فوضى الشمال السوري”، نضيء على أسباب تراجع العلاقة بين قوى الثورة والمعارضة وحاضنتها الشعبية، عبر التركيز على ملف الحوكمة كأحد العوامل المؤثرة سلبًا على دينامية العلاقة، وسَوق بعض الوسائل والأدوات والحلول والرؤى التي من شأنها ردم الفجوة، وإعادة ترميم الثقة بين المؤسسات والمجتمع.
دور العامل الحوكمي في رفع مستوى السخط الشعبي
تتنوع الأسباب الموضوعية والذاتية التي تساهم بدرجات متفاوتة بتعميق الهوّة بين المؤسسات المعارضة من جهة والحاضنة الشعبية من جهة أخرى، وتتعدد تلك الأسباب لتشمل جوانب مختلفة، اقتصادية وعسكرية ودولية واجتماعية وسياسية.
ولكن ما يهمنا في هذا التقرير، التركيز على الجانب المتعلق بتأثير العامل الحوكمي للمؤسسات المعارضة وأدائها على رضا المكون المجتمعي وثقته بهذه المؤسسات، ولعلّنا نجمل هذه الأسباب كالآتي:
– غياب مبدأ الشفافية المالية والمكاشفة والمحاسبة والرقابة في آلية عمل المؤسسات، وبالتالي عدم وجود آلية واضحة لتسهيل تدفُّق المعلومات الموثوقة بين تلك المؤسسات إلى الفئات المجتمعية التي من خلالها تستطيع هذه الفئات معرفة كيف تمّت الاستجابة للقرارات التي تتّخذها الجهة المعنية ودرجة تنفيذها وتطبيقها، ومن خلالها تكون هناك فرصة لفهم الحاضنة الشعبية الصعوبات المختلفة التي تواجه المؤسسات المعارضة وإمكاناتها ومواردها.
– الضعف الهيكلي وغياب العمل المؤسساتي الكُفء، وانتشار الفساد بين أروقة تلك المؤسسات، لا سيما ضمن الأجسام العسكرية التي أنهكت الناس بالإتاوات والتحكم بأسعار الاحتياجات الأساسية، فضلًا عن الامتيازات الفصائلية والمحسوبية والتطفُّل على أرزاق وموارد المكونات المحلية بدلًا من خدمتهم.
– ضعف المشاركة الشعبية داخل المؤسسات المعارضة، وغياب التمثيل العادل لمختلف المكونات الاجتماعية والسياسية والعسكرية في تلك المناطق، وتغليب المحاصصة السياسية في العضوية ضمن تلك المؤسسات على الاحتراف والكفاءة، وهو ما عبّر عن حالة فشل إداري تسبّب في تشتيت الطاقات وانتشار الفوضى، وأفقدَ هذه المؤسسات شعبيتها وثقة الناس بها، والتي عزّزها الأداء السيّئ للقوى السياسية والعسكرية.
– غياب الدور الفعّال لمؤسسة الجيش الوطني كقوة إدارية مركزية جامعة لمختلف القوى العسكرية، قادرة على إنهاء حالة التنافس والاقتتال الداخلي بين مختلف القوى الفصائلية على حفظ الأمن والنظام، حيث إن الحفاظ على الأمن والاستقرار يعدّ من أهم العوامل المساعدة في كسب الحاضنة الشعبية وضمان تأييدها للقوى العسكرية ومن خلفها مؤسسات المعارضة ككل؛ ولكن وطأة الفوضى الأمنية، وبيئة عدم الاستقرار نتيجة التوترات الأمنية، والاحتكاكات المسلحة المستمرة بين الفصائل العسكرية، والتنافس على الموارد وتوسيع دائرة النفوذ، وتعدد المرجعيات وغياب التنسيق فيما بينها، وتقديم الولاءات الفصائلية على الصالح العام، كل ذلك عزّز الصورة السلبية للقوى العسكرية وزاد من الشرخ بينهما.
– هيمنة الفصائل وتسلُّطها على الجانب المدني والخدمي، ما أدّى إلى تشكُّل فهم مغلوط لدى الحاضنة الشعبية لدور القوى العسكرية، ورفع التطلُّعات في الوقت الذي تعاني فيه هذه القوى من شحٍّ في الموارد.
وفي هذا السياق أشارَ د. أحمد قربي، الباحث في مركز الحوار السوري، في حديثه مع “نون بوست” إلى أن “الفصائل العسكرية حمّلت نفسها أعباء خدمية تفوق نطاق قدراتها، وتخرجها عن أصل مهامها، بدلًا من التركيز على عملها العسكري فحسب، وقد أدّى هذا التوجه إلى إشكالات مزدوجة عسكريًّا ومدنيًّا، وألقى بآثار سلبية على الخدمات التي كانت الجهات المدنية أكثر قدرة على النجاح فيها فيما لو أتاحت لها الفصائل ذلك”.
وأكّد على “ضرورة تخفيف الاحتكاك بالحاضنة الشعبية، وجعل قضية ضبط الأمن منوطة بالشرطة والمحاكم، وحتى إذا أرادت الفصائل تقديم الخدمات فيجب أن يكون ذلك عبر المجتمع المدني والمؤسسات المدنية، وليس بصفتها حاكمة عسكرية للمنطقة”.
– تحييد المؤسسة القضائية وتغيبب دورها الفاعل في عملية حوكمة الشمال السوري، وهيمنة الفصائل العسكرية وتدخلها في قرارات وتوجهات المؤسسة القضائية، والذي أدّى بدوره إلى الحدّ من مساحة الاستقلالية لدى السلطة القضائية، وتخبُّط المرجعيات القانونية والتنظيمية، ما انعكسَ مباشرة على عجز المؤسسات المعارضة عن تحقيق منجزات عملية ميدانية استراتيجية، وعدم قدرتها على تأمين الموارد والمساعدات، في ظلّ عجزٍ عن تقديم رؤية اقتصادية حاكمة لعمل القطاع الاقتصادي وإدارة جنبات الاقتصاد، تفرض من خلالها سياسات اقتصادية رشيدة وتطبّقها على أرض الواقع وتضع الخطط الاستراتيجية الأمثل لإدارة الموارد الاقتصادية واستغلالها استغلالًا سليمًا.
ويعتبر الباحث أحمد قربي أن “الملف الاقتصادي يُعدّ من أهم الملفات بالنسبة إلى الحاضنة الشعبية، خصوصًا في البيئات غير المستقرة، والتي تكون النزاعات فيها قد أرهقت المواطنين، ما يدفعهم للبحث عن “روافع اقتصادية” لتجاوز هذا الواقع، وهو ما يحتّم بدوره على قوى الثورة والمعارضة العمل على مشاريع تلامس حاجات الناس اليومية الملحّة، كتحسين الوضع الاقتصادي وزيادة مستويات الحوكمة”.
– التبعية والارتهان لقوى دولية مختلفة، وتحديدًا تركيا، بحكم العلاقة التي تربطها مع مؤسسات المعارضة السياسية والعسكرية، وخضوع تلك المؤسسات لتقديرات الإدارة التركية التي يتّسم تعاطيها مع مختلف قضايا الحكم المحلي (القانوني والخدمي والعسكري والسياسي) بعدم الوضوح والفاعلية، وهو ما شكّل حالةً من عدم الاستقرار والتشتُّت والتوتر وتعقيد العملية الحكومية، وإخضاع المنطقة إداريًّا لمرجعيات متعددة، حيث تتبع كل منطقة من مناطق الشمال إداريًّا لولاية تركية مختلفة عن الأخرى.
وتعتبر نقطة علاقة مؤسسات الثورة والمعارضة مع الفواعل الدولية إحدى أهم القضايا التي تتناولها الحاضنة بالنقد والاتهام، إذ تُتهم هذه المؤسسات بتبعيتها لأجندات خارجية، وعدم امتلاكها استقلالًا سياسيًّا، وتمرير هذه المؤسسات مصالح قوى خارجية على حساب مصالح الحاضنة.
ويعتقد الكاتب والمعارض السوري د. ياسر العيتي أن “رؤساء المجالس المحلية يتلقّون التعليمات من الولاة الأتراك، وأن القطاعات الخدمية تتلقّى التعليمات من المنسّقين الأتراك المعنيين بهذه القطاعات (صحة – تعليم – قضاء – أوقاف)، وبالتالي لا يمكن الحديث عن حكومة مؤقتة ولا عن جيش وطني نظرًا إلى عدم وجود قرار وسلطة فعلية لها على الأرض”.
– غياب دور منظمات المجتمع المدني، ومحدودية نشاطها وعملها في إدارة الشأن المدني، حيث تلعب منظمات المجتمع المدني دورًا مهمًّا في بناء ثقة الحاضنة الشعبية بمؤسسات المعارضة، من جهة فاعلية هذه المنظمات في تمكين الفرد والاستفادة من قدراته في إدارة المناطق المحررة خدميًّا، بما يساهم في إذابة الجليد بين المجتمع المحلي والمؤسسات القائمة.
عوامل إعادة ثقة الحاضنة بمؤسسات قوى الثورة
تعصف بالقضية السورية ظروف استثنائية تعقّد مسارات الحلّ السوري، وتفرض مزيدًا من التحديات على حوامل الثورة السورية من مؤسسات ثورية معارضة قائمة وحواضن مجتمعية شعبية مكلومة، ما يجعل من الصعوبة بمكان بناء ما تهدّم من أواصر كانت قائمة بين قوى الثورة والمعارضة ومؤسساتها القائمة، وبين حواضنها الشعبية، والتي لا بدَّ منها حاليًّا كعامل أساسي لبناء هذه المؤسسات شرعية داخلية تنطلق منها لإعادة هندسة علاقاتها الخارجية بشكل متوازن، مبنيّ على التعاون والشراكة مع الفواعل الدولية والتنسيق معها، لا على التبعية والخضوع والتذلُّل.
ورغم ذلك ترتسمُ بعض الأدوات والوسائل التي قد تساعد جدّية المؤسسات القائمة في تطبيقها بتجسير الهوّة مع حواضنها المجتمعية، وهو ما قد ينعكسُ على مسار الثورة السورية بجناحَيها العسكري والسياسي.
بداية، لا بدَّ من التأكيد على ارتباط أي عملية إصلاح في مسار الحوكمة والمنظومة الإدارية لمؤسسات المعارضة السورية، بمدى فاعلية وجدّية الجانب التركي في إنجاح هذا المسار، لما للوزن التركي من حضور مهم وحاسم في مناطق الشمال السوري، وهو ما يستوجب تحرُّكًا سوريًّا تركيًّا مشترَكًا لإعادة بناء المؤسسات المدنية والعسكرية وإخضاعها لسلطة قضائية وقانونية مدنية مستقلة مدعومة شعبيًّا وتمتلك نظام مساءلة ومراقبة.
كما تبرز الحاجة الفعلية لتفعيل القرار السوري عبر دعم إدارة مركزية سورية يديرها السوريون بشكل كامل، وإعادة تعريف العلاقة مع الحلفاء والقوى الدولية، وتحويلها إلى دائرة التنسيق والتواصل في كافة المجالات العسكرية والاقتصادية والأمنية والمدنية، والانطلاق حصرًا في التعاطي مع الفواعل الدولية “الحليفة” من قاعدة المصلحة السورية الخالصة، والالتزام بقضايا الحاضنة الداخلية والإطار الوطني، وعدم الارتباط بمشاريع خارجية، وتحرّي الشفافية مع الحاضنة بشكل عام وفي هذا الملف تحديدًا، نظرًا إلى أخذه حيّزًا كبيرًا في قائمة الاتهامات التي تطال هذه المؤسسات، وبسبب حجم تأثيره المباشر على علاقة المؤسسات مع الحاضنة الشعبية.
ويأتي الملف الأمني والإصلاح المؤسساتي للقوى العسكرية والأمنية من أولى الملفات التي قد يؤدّي إصلاحها إلى استعادة جزء من ثقة الحاضنة الشعبية، بعد انتزاع الملف الأمني من يد الفصائل العسكرية، وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية عبر إنشاء جهاز أمني موحَّد يعمل لصالح المنطقة كاملة.
وفي هذا السياق يؤكّد قربي على “ضرورة تركيز الفصائل على مهامها العسكرية، وعدم التدخل في الشأن المدني، كي لا تُعاد تجربة الماضي التي ثبت فشلها بغضّ النظر عن سياقاتها، فالمطلوب من الفصائل أن تركز على مهمتها الأساسية التي تبدأ من حدود المناطق المحررة وليس داخل المدن والقرى، وتخفيف الاحتكاك بالحاضنة الشعبية، وجعل قضية ضبط الأمن منوطة بالشرطة والمحاكم، وحتى إذا أرادت الفصائل تقديم الخدمات فيجب أن يكون ذلك عبر المجتمع المدني والمؤسسات المدنية، وليس بصفتها حاكمة عسكرية للمنطقة”.
إضافة إلى ذلك، إن فسح المجال أمام منظمات المجتمع المدني لتقديم الخدمات والمستلزمات الحياتية والمعيشية والصحية المتعلقة مباشرة بالحاضنة الشعبية، وسحب يد الفصائل العسكرية عن إدارة المجال الخدمي، يساهمان في خفض مستوى الاحتكاك بين الفصائل العسكرية والمجتمع المحلي، ما قد يقلِّل من حجم المشاكل التي تنشأ عادة نتيجة هيمنة الفصائل على الملف الخدمي والإداري، ويساعد على تحسين الواقع الاقتصادي.
ختامًا، تبدو فرصة رفع مستوى الثقة بين المؤسسات والمجتمع المحلي وكسب الحاضنة الشعبية مجددًا ممكنة -رغم صعوبتها- في حال إبداء قوى الثورة والمعارضة جدّية تتبعها خطوات عملية، تصبّ في صميم الارتقاء بمبادئ الحوكمة الرشيدة بكافة تجلياتها التي أشرنا إليها سابقًا، عبر إعادة بناء وهيكلة مؤسسات احترافية قادرة على تمثيل مطالب الحاضنة، وتوفِّر لها بيئة أمنية وخدمية واقتصادية مناسبة، بعد استعادة استقلالية قرارها الوطني.
وأيضًا عليها ترتيب علاقاتها الداخلية والخارجية بناءً على مصالح حواملها الشعبية وقضيتها ومبادئها فقط لا غير، بحيث تستعيد هذه القوى جزءًا من شرعيتها الداخلية المفقودة، تنطلق منها لإعادة نسج الشراكات والتحالفات مع الفواعل الإقليمية والدولية، وتعزّز بها شرعيتها الخارجية.