يبدو المشهد الاقتصادي السوري العام مفكّكًا بعد أن قضت سنوات الصراع في سوريا على ما تبقّى من أصول اقتصادية، شوّهت ومزّقت الاقتصاد وحوّلته إلى ما يُعرَف بـ”اقتصاد النزاع“، الذي يفتقد المركزية الإدارية ويُدار بشكل غير متّسق وغير مترابط ومستقل.
ونشأت اقتصادات محلية متعددة بحدود فاصلة بينها، تقوم على نهب وسلب الثروات الخاصة والعامة والموارد الطبيعية، وتوزيعها على أمراء الحرب والفئات المستفيدة من الصراع، ما جعل الاقتصاد أكثر عرضة للهزّات وتقلُّبات البيئة السياسية والأمنية والاقتصادية والعسكرية في المنطقة، وعقّد عملية حوكمة القطاع الاقتصادي، وجعل احتمالية تشكُّل نهضة اقتصادية أمرًا بعيد المنال.
ومع تزايُد الحديث عن مناطق الشمال السوري الخاضعة للإدارة التركية، بوصفها “مناطق آمنة” قادرة على استيعاب اللاجئين السوريين وتأمين حياتهم ومعاشهم، خصّصنا هذه المادة للوقوف على واقع الحياة الاقتصادية والخدمية والإنسانية في الشمال السوري (مناطق العمليات التركية تحديدًا)، والتطرُّق إلى أبرز الأسباب والمشاكل الاقتصادية التي تعاني منها المنطقة، وآلية إدارة الحكومة السورية المؤقتة للعملية الاقتصادية والتنموية، في محاولة لتسليط الضوء على أهمية إحداث تغييرات اقتصادية جذرية مستعجَلة قبل شروع تركيا بمشروعها المتمثّل بإعادة اللاجئين السوريين إلى مناطق الشمال السوري.
إضاءة على الواقع
ينعكس الواقع الاقتصادي السوري المتردّي على الحياة المعيشية والإنسانية للسوريين، فقد أعلنت منظمة الصحة العالمية “أن نحو 90% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر“، وذلك مع تصدُّر سوريا قائمة الدول الأكثر فقرًا في العالم، بنسبة بلغت 82.5% بحسب بيانات موقع World By Map العالمي.
كما صنّف موقع Numbeo دخل الفرد في سوريا بأنه الأدنى في العالم، إذ يتراوح متوسط دخل الفرد في سوريا عام 2021 حوالي 768 ألف ليرة سنويًّا، وهو ما يعادل 305.73 دولارات (وفقًا للسعر الرسمي للدولار في سوريا)، وصنّف تقرير لصندوق السلام العالمي سوريا في المركز الثالث في مؤشر الدول الهشّة أو الفاشلة وأخطر بلد في العالم.
فيما أعلنَ برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة أن “12.4 مليون شخص في سوريا يعانون من انعدام الأمن الغذائي عام 2022، بزيادة قدرها 4.5 ملايين عن عام 2021، بالإضافة إلى تعرُّض 1.8 مليون مواطن سوري آخر لخطر الوقوع في انعدام الأمن الغذائي”.
يشهد الشمال السوري موجة ارتفاع أسعار المواد الغذائية والسلع الأساسية، خاصة المحروقات، مع قلة مصادر الدخل وانخفاض مستوى الدخل الفردي في مختلف القطاعات
ولا يعتبر الوضع الاقتصادي في الشمال السوري مستثنى من ذلك، حيث يعيش قرابة 80% من سكان الشمال الغربي في سوريا على المساعدات الإنسانية، نصفهم من الأطفال، فيما بلغ عدد النازحين في المنطقة حوالي 2.8 مليون نازح داخليًّا، منهم 1.7 مليون نازح يعيشون في المخيمات.
كما يعاني أكثر من 75% من السكان من انعدام الأمن الغذائي (أي 3.1 ملايين من أصل 4.4 ملايين شخص)، في وقتٍ تراجعَ فيه تمويل المساعدات الإنسانية بشكل واضح، وسط مخاوف مستمرة بإيقاف آلية تمرير المساعدات الإنسانية عبر الحدود إلى شمال غرب سوريا، ما ينذر بتفجُّر الأوضاع الإنسانية وحدوث مجاعات وتضاعُف الاحتياجات الإنسانية.
وترتفع معدلات البطالة في الشمال السوري إلى مستويات قياسية، سبّبتها قلة فرص العمل المتوفرة وحركة النزوح الشديدة والمتكررة بين المناطق، مع انخفاض حادّ في الأجور في منطقة تعدّ ذات كثافة سكانية عالية، إذ يُقدَّر عدد سكان مناطق الشمال السوري المحرر بـ 6.7 ملايين نسمة بشكل تقريبي، يعيشون على مساحة قدرها 20.3 ألف كيلومتر مربع، بكثافة تصل إلى 330 شخصًا في الكيلومتر المربع الواحد.
ويشير تقرير صادر عن فريق “منسّقو استجابة سورية” بداية عام 2022، إلى أن “نسب معدّلات البطالة تجاوزت 85% دون وجود حلول لإنهاء ظاهرة البطالة أو إيجاد فرص عمل للمدنيين في المنطقة بحيث تحقّق الاكتفاء الذاتي لهم ولعائلاتهم”.
ويشهد الشمال السوري موجة ارتفاع أسعار المواد الغذائية والسلع الأساسية، خاصة المحروقات، مع قلة مصادر الدخل وانخفاض مستوى الدخل الفردي في مختلف القطاعات، لا سيما عمّال “اليومية” وأصحاب المهن الشاقة التي لا تتناسب أجورهم بتاتًا مع ارتفاع الأسعار وموجة الغلاء التي تشهدها المنطقة، دون إيجاد حلول فعلية لضبط الأسعار أو تضييق الفجوة والتفاوت الكبير في أسعار المواد الأساسية، وعدم وجود دعم متواصل لهذه الأسعار يمكن أن يساعد المواطنين على إمكانية تحمّلها ومجاراتها.
وقد ظهر هذا جليًّا في تقلُّبات أسعار مادة الخبز وانقطاعه أحيانًا في عموم هذه المناطق، فضلًا عن الارتفاع المتكرر لأسعار الغذاء والحبوب والقمح واللحوم والخضار والفاكهة، وأسعار الوقود والمواصلات والكهرباء والإنترنت وإيجار المنازل، وباقي المقومات الحياتية الضرورية الأخرى.
وللمنظمات الإنسانية العاملة في سوريا، وما تقوم به من مشاريع خدمية وإغاثية وتوعية وتنموية، ومشاريع متعلقة بإرساء الاستقرار والتعافي المبكّر ومساعدة العاطلين عن العمل، تأثير مباشر على اقتصاد الشمال السوري، من حيث دورها الفاعل في التخفيف من معاناة السوريين وتأمين بعض مستلزماتهم.
الاستثمار الصناعي في الشمال السوري ينشط بشكل واسع مع ارتفاع نسبة المستثمرين السوريين والأجانب، وقيام العديد من المشاريع الاستثمارية والصناعية والحِرَفية، لا سيما بعد إنشاء المدن الصناعية
ولكن هذا الدور شهدَ تراجعًا تدريجيًّا واضحًا بمرور السنوات، نتيجة عدد من المشاكل والتحديات كتدخُّل سلطات الأمر الواقع والتضييق المالي والقانوني الخارجي، والتقييد الذي فرضه المانحون، وغياب البيئة الآمنة وموجات النزوح المفاجئة وضعف التنظيم القانوني والاستقلالية، وغياب الدور الفاعل للحكومة السورية المؤقتة، وعرقلة أطراف دولية وتحديدًا روسيا عمل المنظمات الدولية الأممية (التابعة للأمم المتحدة) عبر منع آلية إدخال المساعدات عبر الحدود، الأمر الذي ساهم في تشتُّت المنظمات العاملة والدول والأفراد المانحة وتخفيض نشاطهم، وهو ما كان له بالغ الأثر على منطقة شمال غربي سوريا.
ورغم ما يشهده القطاع الصناعي من صعوبات في تصدير المنتجات وتسويقها محليًّا وخارجيًّا، والاعتماد الكلي في الإنتاج على المواد الخام المستوردة، إلا أن الاستثمار الصناعي في الشمال السوري ينشط بشكل واسع مع ارتفاع نسبة المستثمرين السوريين والأجانب، وقيام العديد من المشاريع الاستثمارية والصناعية والحِرَفية، لا سيما بعد إنشاء المدن الصناعية (في أعزاز والباب والراعي وجرابلس) التي تقدّم خدمات عديدة للمجتمعات المحلية والحرفيين والعمال.
كما تساهم هذه المدن في توفير بيئة مناسبة لجذب المستثمرين ومنحهم امتيازات متعددة وتدوير عجلة الإنتاج وتشغيل اليد العاملة، وتقدِّم الإدارة المدنية المتمثّلة بالمجالس المحلية وغرف التجارة بدورها تسهيلات جمركية وتجارية وأمنية لاستقطاب المستثمرين وتطمينهم، فضلًا عن تقديم تركيا تسهيلات لدخول وخروج الصناعيين والتجّار والبضائع من وإلى تركيا دون تأشيرة، وهو ما يعدّ مؤشرًا إيجابيًّا يعزّز بوادر التعافي المبكر، ويساهم في تحريك عجلة الحياة الاقتصادية في الشمال السوري.
أسباب تردّي الواقع الاقتصادي
تؤثّر مجموعة من الأسباب والعوامل المتغيرة على الواقع الاقتصادي في الشمال السوري وفقًا لعدد من الدراسات وآراء بعض الخبراء، إذ تغيب الرؤية الاقتصادية الحاكمة لعمل القطاع الاقتصادي في ظل غياب واضح للمؤسسات المرجعية القضائية والقانونية، التي تسهم في صياغة القوانين واتخاذ القرارات لإدارة جنبات الاقتصاد، وتفرض سياسات اقتصادية رشيدة وتطبّقها على أرض الواقع وتضع الخطط الاستراتيجية الأمثل لإدارة الموارد الاقتصادية واستغلالها استغلالًا سليمًا، وتتجنّب التبعية المباشرة للمنظمات والمانحين الأممين والدوليين.
ويؤكّد الباحث الاقتصادي الدكتور يحيى السيد عمر، في حديثه لـ”نون بوست”، على “عدم وجود برنامج اقتصادي واضح المعالم للنهوض باقتصاد المنطقة نتيجة ضعف فاعلية الحكومة السورية المؤقتة، وضعف نفوذها على الأرض رغم غطائها السياسي، وعدم تطبيق سياسات استثمارية فعّالة”، إذ لا بدَّ من وجود سلطة تفرض نفوذها الكامل على المنطقة لتشييد اقتصاد قوي وتطويره عبر رسم خطط تنموية استراتيجية.
لا تزال البيئة الأمنية المضطربة هي العامل الأهم في تعثّر خطوات المسار الاقتصادي، وإعاقة أية جهود لتعزيز النشاط الاقتصادي ورفده بمزيد من الاستثمارات والمشاريع التنموية
وأدّى هذا الضعف الحوكمي بدوره إلى انتشار الفساد وغياب الرقابة الفعّالة التي تضبط الأسواق وتمنع الاحتكار وتراقب العملية التجارية، ما يزيد من المعاناة الإنسانية نتيجة تفاقم حالة الهشاشة الاقتصادية والتخبُّط عند كل أزمة مستجدة، وحالة التشرذم وتشتُّت الموارد.
فعلى سبيل المثال، رغم القدرات الاقتصادية التي تمتلكها مناطق الشمال السوري، خاصة تلك المتعلقة بالقطاع الزراعي والثروة الحيوانية، إلا أنه لم يتم استثمار تلك القدرة للوصول إلى حدّ الاكتفاء الذاتي في العديد من المحاصيل الزراعية كالقمح والشعير والخضار والبقوليات، ولم يتمَّ استغلال الفائض من مختلف المحاصيل لإيجاد أسواق تصريف خارجية، ما قلّص زراعتها بشكل كبير، وعرّض بعض تلك القطاعات لتهديد حقيقي قد يطال وجودها.
ويعزو الباحث يحيى السيد عمر التدهور الاقتصادي إلى جملة من الأسباب، داخلية ذاتية وأخرى خارجية موضوعية، فمن الأسباب الداخلية عدم وجود رؤية اقتصادية واضحة المعالم لدى الجهات الرسمية المحلية تحمل على عاتقها دعم المؤشرات الاقتصادية، إضافة إلى كون المنطقة حبيسة، أي ليس لها اتصال بحري مع العالم الخارجي ولا جوّي من خلال المطارات، ما يرفع من تكاليف مدخلات عملية الإنتاج، وبالتالي يحدّ من فاعليتها، جرّاء غياب أفق دعم المشاريع الصغيرة التي تعدّ رافعة اقتصادية هامة، ولغلبة ثقافة الاستهلاك وعدم قيام جهود رسمية لدعم الإنتاج وثقافته، وتراجع التعليم المهني كمًّا ونوعًا.
وتتمثل الأسباب خارجية بالتضخم العالمي وارتفاع أسعار حوامل الطاقة وصعوبات الاستيراد، وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية التي تأثّرَ بها العالم أجمع ومنها مناطق الشمال السوري، إضافة إلى غياب أفق الحل السياسي للقضية السورية.
يرتبط الوضع الاقتصادي في الشمال السوري بالواقع السياسي العام في سوريا، وبالقدرة على تحقيق استقرار شامل ودائم في كافة المناطق، والمرتبط ذلك أساسًا بشكل الحل السياسي النهائي
من جهة أخرى، لا تزال البيئة الأمنية المضطربة هي العامل الأهم في تعثّر خطوات المسار الاقتصادي، وإعاقة أية جهود لتعزيز النشاط الاقتصادي ورفده بمزيد من الاستثمارات والمشاريع التنموية، حيث تشهد مناطق الشمال السوري حالة من الفوضى الأمنية المتأزِّمة نتيجة القصف المتكرر من أطراف مختلفة والتفجيرات وارتفاع مؤشرات عمليات الاغتيال والاختراقات الأمنية من قوى إرهابية مختلفة، وفوضى انتشار السلاح، ما يدفع المستثمرين للإحجام عن العمل والاستثمار، ويحدّ من نشاط المانحين لدعم المشاريع المختلفة، خاصة مع وجود حالة من الغموض تكتنف السياسات الإدارية والاقتصادية للقوى الفاعلة في الشمال السوري.
كما أن ضعف العملية القضائية وتحييد المؤسسة القضائية وتغييب دورها الفاعل في عملية إدارة الشمال السوري، وتخبُّط المرجعيات القانونية والتنظيمية الناظمة للأعمال والشركات والأموال والحقوق والعقود، قد أدّى إلى تعقيد عملية الاستقرار وسيطرة الفوضى والفساد وغياب الجهات الرقابية الفعّالة وانتشار الأعمال غير القانونية، وهو ما يستلزم المسارعة في مواجهة هذه العشوائية والفوضى المتزايدة بتهيئة بيئة قانونية تخضع لقرارات إدارة مركزية موحّدة، من شأنها أن تضبط المسار الاقتصادي والاستثماري وتقونن الجوانب المتعلقة بالأعمال بهدف حماية الأسواق والعمّال ومصالح التجّار والمستثمرين.
ويبرز طغيان الحالة الفصائلية والتنافس بين الفصائل على الموارد وتوسيع دائرة النفوذ داخل المفاصل الاقتصادية كأحد أهم الأسباب في تعطيل عملية التنمية وعرقلة الاستثمار المستقل وتطور البيئة الاقتصادية الجاذبة، حيث تهيمن بعض الفصائل العسكرية على قطاعات اقتصادية معيّنة كالعقارات والتجارة والتهريب، وتفرض سلطتها عمليًّا على المعابر الحدودية والداخلية، التي تعدّ مصدر دخل أساسي لمختلف القوى الفاعلة.
يتم ذلك عبر تشغيل هذه المعابر وحمايتها وفرض رسوم عبور على البضائع والشاحنات، والحدّ من سلطة الحكومة السورية المؤقتة وتغييب دورها الفعلي في إدارة المعابر، لتتحول مسألة إدارة المعابر والسيطرة عليها محلّ خلاف وصراع دائمَين بين مختلف القوى المحلية الفاعلة، الأمر الذي عرقل حركة التجارة والنقل وعزّز صورة الفلتان الأمني والفوضى الحوكمية في المنطقة.
ويرتبط الوضع الاقتصادي في الشمال السوري بالواقع السياسي العام في سوريا، وبالقدرة على تحقيق استقرار شامل ودائم في كافة المناطق، والمرتبط ذلك أساسًا بشكل الحل السياسي النهائي، إذ إن الضبابية التي تخيّم على المشهد السياسي تشكّل قلقًا لدى رجال الأعمال والمستثمرين، فضلًا عن الجهات المانحة والدول الراغبة بتشييد مشاريع وبنى اقتصادية استراتيجية في المنطقة.
دخول مليون لاجئ إلى المنطقة دون وجود بنية اقتصادية قادرة على استيعابهم سيؤدي إلى تفاقم الضغط على الطلب الكلي في ظل ثبات العرض وحتى تراجعه، ما يعني تحفيزًا للتضخم
بالإضافة إلى أن غياب ملامح الحل السياسي يفرض تحديات جمّة على المؤسسات الحوكمية، من حيث بقاء مصير المنطقة عمومًا رهن التوافقات الدولية والإقليمية لحين تبلور حل سياسي شامل، وهو ما يجعل من الصعوبة تقديم إجراءات وحلول تحقّق تغييرًا سريعًا استراتيجيًّا في المدى القريب.
في المحصلة، يغيب دور الحكومة السورية المؤقتة كسلطة تنفيذية فاعلة في الشمال السوري، ويظهر عجزها في تحقيق منجزات عملية ميدانية، نتيجة التشظّي الحوكمي وعدم الاهتمام التركي بدعم سلطة مركزية موحّدة، حيث تفضّل تركيا الاعتماد على المجالس المحلية لإدارة المنطقة عبر مكاتبها الفنية والقانونية.
وتعطي تركيا هذه المجالس قدرًا كبيرًا من الاستقلال المالي ضمن مناطقها، وربطَتها إداريًّا بشكل مباشر بالولايات التركية الأقرب إليها، متّبعةً التقسيم والهيكلة الإدارية التركية ذاتها، ما أدّى إلى عجز الحكومة السورية المؤقتة عن فرض سلطتها وتحوّلت في كثير من المواقف إلى “سلطة شكلية” لا تملك نفوذًا فعليًّا على القوى الفاعلة المختلفة، الأمر الذي سبّب خللًا كبيرًا في العملية القانونية والإدارية والمالية، إلى جانب غياب الشفافية والمساءلة والمحاسبة.
خاتمة
يبدو من الصعوبة الحديث عن تحقيق تغيير سريع في المدى القريب للحالة الاقتصادية في الشمال السوري، نظرًا إلى بقاء الأسباب الحقيقية الداخلية والخارجية التي أشرنا إليها آنفًا، والموانع السياسية التي تقف حائلًا أمام أي خطوة تنموية تعمل على إصلاحٍ متكامل استراتيجي بعيد المدى لمختلف القطاعات الاقتصادية والتنموية في مناطق الشمال السوري.
ولكن ذلك لا يعني الخضوع للعقبات المتراكمة والاستسلام للواقع المترهّل، فلا بدَّ من العمل على تحسين ظروف الواقع والتخفيف من الآثار السلبية وإعادة العجلة الاقتصادية لمسارها الصحيح، من خلال الانطلاق من تصور ينبع من أهداف ورؤية استراتيجية طويلة المدى، بشراكة مع الفاعلين المحليين والدوليين المؤثرين في الاقتصاد، وعدم الاقتصار فقط على الحلول الإسعافية التي لا يبدو أنها تفلح في تحقيق نهضة اقتصادية أو تعافٍ اقتصادي حقيقي، نظرًا إلى كونها إجراءات “طارئة/ مؤقتة”.
وأما فيما يتعلق بـ”المنطقة الآمنة” التي تتعهّد الحكومة التركية باقتراب إنشائها لإعادة نحو مليون لاجئ سوري من تركيا إليها، فقد رأى الباحث يحيى السيد عمر أنه “من المتوقع أن يكون لهذا الأمر أثر سلبي على المؤشرات الاقتصادية، فالاشتباكات المسلحة التي من المتوقع أن ترافق العملية ستعزّز صورة المنطقة بأنها غير آمنة وغير صالحة للاستثمار، كما أن دخول مليون لاجئ إلى المنطقة دون وجود بنية اقتصادية قادرة على استيعابهم سيؤدي إلى تفاقم الضغط على الطلب الكلي في ظل ثبات العرض وحتى تراجعه، ما يعني تحفيزًا للتضخم ورفعًا لمستويات البطالة والفقر”.
وبالتالي، فإن إعادة تأهيل الاقتصاد المحلي وإصلاح هياكل الحوكمة عبر تفعيل دور حكومة مركزية تضمن تحقيق الأمن والاستقرار على مختلف الأصعدة، من شأنه أن يشجّع اللاجئين السوريين على العودة طواعية، ويجذب القوى الاستثمارية والدعم الدولي اللازمَين للنهوض بعملية التعافي الاقتصادي الشامل في المنطقة، وإخراجها من دائرة الفوضى والفساد والتسلُّط الفصائلي.