تستمر هيئة تحرير الشام بمحاولاتها الحثيثة لإعادة التموضع ضمن المنظومة السياسية المحلية، في سياق البحث عن الشرعية الدولية والإقليمية، من خلال فرض وجودها ونفوذها كفاعل أساسي محلي في بيئة سياسية تعجُّ بالفوضى والتقلبات، عبر تبنّيها منهج براغماتي ينمُّ عن انتهازية قائدها أبو محمد الجولاني.
تمثّلَ هذا المنهج في سلسة تحولات نوعية أحدثتها الهيئة في منظومتها الفكرية والتنظيمية على مدار سنوات نشاطها في سوريا، والتي لامست في الغالب قضايا جوهرية قام عليها التنظيم في مرحلة من المراحل، وذلك خدمةً لأهداف سياسية مصلحية بحتة، تتمثل في محاولة تثبيت موطئ قدم في العملية السياسية المستقبلية المحتملة أو تمتين حكمها كسلطة أمر واقع في مناطق إدلب على أقل تقدير.
ويعدُّ الملف الأمني أحد المرتكزات الأساسية التي تستند عليه هيئة تحرير الشام في سياق بسط سيطرتها العسكرية والأمنية على مناطق الشمال السوري في إدلب، وتسويق نفسها على أنها صمّام أمان المنطقة، وحائط صدّ أمام حالة الفلتان الأمني وعدم الاستقرار، والتي لطالما وجّهت ذلك كرسائل سياسية لقوى إقليمية ودولية خارجية، ولم تكن تستهدف الداخل السوري بحال من الأحوال.
في هذا التقرير؛ نحاول فحص الواقع الأمني في إدلب، وطريقة إدارة هيئة تحرير الشام لحالة الفلتان الأمني والأحداث الأمنية المستجدة، مع الوقوف على محاولات الجولاني المتكررة لدخول مناطق درع الفرات وغصن الزيتون عبر استغلاله حالة الفلتان الأمني التي تعيشها مناطق الجيش الوطني، والاستفادة من الاضطراب الأمني لتسويق نفسه على أنه الضامن لنزع حالة الفصائلية والفلتان الأمني، ونقف على سيناريو دمج المنطقتَين أمنيًّا من حيث إمكانية التطبيق والعقبات.
حسابات الهيئة تطغى على أمن المنطقة
شهدت المناطق الخاضعة لسيطرة هيئة تحرير الشام خلال السنوات الأخيرة حالة من الفلتان الأمني هدّد الاستقرار النسبي في المنطقة، حيث تنوّعت النشاطات المزعزعة للاستقرار بين قصف برّي وجوّي أوقع أعدادًا كبيرة من المدنيين، وبين تفجيرات وعمليات اغتيال واسعة وعبوات ناسفة واختراقات أمنية من قوى مختلفة، كنظام الأسد و”داعش” و”قسد”.
يتم هذا رغم انحسار المعارك مع النظام نتيجة التموضع العسكري التركي في المنطقة، وتوقيع تركيا اتفاقًا مع روسيا عام 2020 يقضي بوقف إطلاق النار وإنشاء منطقة آمنة على طرفي الطريق الدولي M4، والبدء بتسيير دوريات روسية-تركية مشتركة عليه، للحدّ من انزلاق الأوضاع العسكرية وتحولها إلى حرب مفتوحة بين الطرفَين، والذي كان من المفترض أن يسهّل عملية الضبط وبسط السيطرة الأمنية.
تركّز هيئة تحرير الشام على الملف الأمني في مناطق سيطرتها انطلاقًا من حرصها على تمرير مصالح القوى الإقليمية والدولية خدمةً لأجنداتها السياسية الخاصة
وضمن خطواتها في تحسين صورتها وتعزيز شرعيتها المحلية وإقناع القوى الفاعلة بأنها جماعة ناضجة سياسيًّا يمكن التعاون معها على المستوى الدولي، وتوكيلها بضبط أمن المنطقة بعد الحرص على شطبها من قائمة الإرهاب، وتصدير صورتها المحلية بمشاريع الحوكمة والإدارة المحلية، وإبراز قدرتها في تثبيت سلطتها وفرض دعائم استقرار أمني في مناطق سيطرتها، سارعت هيئة تحرير الشام لاستحداث تشكيل سُمّي بـ”جهاز الأمن العام” الذي تمّ الإعلان عنه رسميًّا عام 2020، وتمثّلت مهمته –بحسب إعلان الجهاز– بـ”بناء منظومة أمنية موحدة مستقلة هدفها حفظ الأمن والاستقرار في المنطقة”.
وشهدت منطقة إدلب إثر ذلك طفرة أمنية “عسكرية” وتحسّنًا ملحوظًا بعد توسيع نشاط “جهاز الأمن العام”، محقّقًا جملة من النجاحات الأمنية (مقارنة بمناطق سيطرة الجيش الوطني) تمثّلت بسلسلة حملات أمنية لإلقاء القبض على عدد من المتورّطين بجرائم خطف وسلب، وملاحقة خلايا تنظيم “داعش”، والتي أسفرت عن ضرب تواجد التنظيم في إدلب وقتل واعتقال عدد من قادته وعناصره، وملاحقة خلايا تابعة لنظام الأسد وعصابات السطو المسلح، والقيام بحملات واسعة متكررة على مروّجي ومهرّبي المخدرات والممنوعات في مناطق إدلب، وذلك بالتعاون والتنسيق مع وزارة الداخلية التابعة لحكومة الإنقاذ التابعة مباشرة لهيمنة هيئة تحرير الشام.
في العموم، تركّز هيئة تحرير الشام على الملف الأمني في مناطق سيطرتها انطلاقًا من حرصها على تمرير مصالح القوى الإقليمية والدولية خدمةً لأجنداتها السياسية الخاصة، البعيدة عن ثوابت القضية السورية الجامعة ومصالحها، وتسعى من خلال طريقة تعاطيها مع القضايا الأمنية المستجدة إلى ضمان استمرار نفوذها وهيمنتها كسلطة أمر واقع في المنطقة، دون البحث عن أمن وسلامة واستقرار حقيقي في المنطقة.
فعلى سبيل المثال، بادرت الهيئة بحملات أمنية موسّعة مستمرة ضد خلايا تنظيم “داعش”، وضد الجماعات الجهادية الأخرى المتشدّدة كـ”حراس الدين”، لتقويض نشاطها وقدرتها القتالية، في سبيل إثبات قدرة الهيئة على ضمان أمن الفواعل الإقليمية والدولية المنخرطة، ومنع اتخاذ المنطقة قاعدةً لهجمات ضدهم، وملاحقة “المهاجرين” الأجانب المطلوبين دوليًّا، دون الذهاب بعيدًا في إنهاء وجود تلك الجماعات.
أتاح هذا لتلك التنظيمات حرية الحركة وقدرة على تنفيذ العمليات والوصول إلى الأهداف، رغم اعتقال المئات من عناصرها، لتبقى الجماعات المتشددة ورقة بيد الهيئة تستثمرها ضمن معادلة التوازنات الإقليمية والدولية، بغضّ النظر عن تداعيات تلك السياسة البراغماتية على مستقبل المنطقة، وما يمكن أن تجلبه من آثار سلبية سياسية وأمنية على مناطق الشمال السوري المحرر.
الهيئة منذ تأسيسها تحت اسم “جبهة النصرة” عام 2012 مستمرة حتى الآن في ارتكاب أنماط مختلفة من انتهاكات حقوق الإنسان
علاوة على ذلك، لا تعير هيئة تحرير الشام اهتمامًا بالغًا لمرتكزات الأمن والاستقرار الدائم، والذي يؤدّي تدهورها بطبيعة الحال إلى تقهقر الأمن المجتمعي العام، والتي تتعلق بالجوانب الاقتصادية والغذائية والمجتمعية، مقابل تركيزها على ما يتعلق بالأمن العسكري وتشديد القبضة الأمنية على مفاصل الحياة في الشمال السوري، حيث تبدو الهيئة غير مهتمة بالتعامل مع المشاكل الاقتصادية التي تواجه المنطقة.
هذا في الوقت الذي تغيب فيه الرؤية الاستراتيجية للتعامل الجادّ مع انخفاض مستوى الدخل وقلة فرص العمل وتزايد معدلات البطالة والاحتياجات الإنسانية وارتفاع نسب الفقر، والتي تفتح الباب أمام تزايد حالات السرقة والنهب والفوضى الأمنية، إلى جانب تسلُّط الأجهزة الأمنية التابعة للهيئة على المنظمات الإغاثية والإنسانية والتنموية وهيئات المجتمع المدني، وتضييق الخناق الأمني على المعارضين والصحفيين، وعلى قطاعات مجتمعية واسعة من السكان المحليين والمهجّرين، فضلًا عن تزايد وتيرة الاعتقالات التي تنفّذها الهيئة لمدنيين وناشطين وعاملين في المجال الإغاثي والإنساني، وتقليصها مساحة الحرية الشخصية والفردية للأفراد وسلب حقوقهم.
وكشفَ تقرير سابق أعدّته الشبكة السورية لحقوق الإنسان للحديث عن واقع الحقوق والحريات في المناطق الخاضعة لسيطرة هيئة تحرير الشام، أنّ “الهيئة منذ تأسيسها تحت اسم “جبهة النصرة” عام 2012 مستمرة حتى الآن في ارتكاب أنماط مختلفة من انتهاكات حقوق الإنسان، بما فيها عمليات قتل وتعذيب، فضلًا عن استمرار انتهاكات الاحتجاز التعسفي والاختفاء القسري”، موثّقًا “مقتل ما لا يقل عن 505 مدنيين على يد الهيئة بينهم 71 طفلًا و77 سيدة، و28 شخصًا بسبب التعذيب، إضافة إلى ما لا يقلّ عن 2327 شخصًا لا يزالون قيد الاحتجاز التعسفي أو الاختفاء القسري لدى سجون الهيئة”.
التنسيق الأمني
تستغلّ هيئة تحرير الشام بشكل واضح حالة الفوضى الأمنية التي تضرب مناطق سيطرة الجيش الوطني والتسيُّب الأمني على مستوى فصائله وتزايد وتيرة الاقتتال بين تلك الفصائل، في إطار مسعاها للتغلغل في تلك المناطق أمنيًّا وعسكريًّا عبر التفاخر بـ”نجاح قبضتها الأمنية” في تحسين الواقع الأمني في مناطق سيطرتها، والتصريح المتكرر بقبولها الاندماج والتنسيق الأمني وتشكيل إدارة موحدة مع مناطق تموضع الجيش الوطني، التي وصفها قائد الهيئة، أبو محمد الجولاني، بأنها “غارقة في الفوضى والمخاطر الاجتماعية والأمنية والاقتصادية والسياسية، لوجود سلطات متعددة بعكس مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام، مبديًا استعداده للتعاون والاندماج مع فصائل الجيش الوطني”.
لا يمكن إنكار حجم التغييرات الجوهرية التي أجرتها هيئة تحرير الشام ضمن منظومتها الفكرية والتنظيمية لتحسين مظهرها الخارجي، والانعتاق من لباس الجهادية المعولمة والتوجُّه نحو فصيل محلي معتدل ثوري، ولكن بات من الواضح أيضًا ارتباط هذه التغييرات بتقلُّبات الهيئة المصلحية المرحلية، والتي تتمثّل حاليًّا بتسويق نفسها ونزع تهمة تصنيفها بالإرهاب دوليًّا، وتثبيت موطئ قدمها وتمتينه محليًّا بعد تفكيكها الفصائل الثورية وضرب القوى المدنية والسياسية في مناطق إدلب، والتي من الممكن أن تتراجع الهيئة عن هذه التنازلات والمراجعات والتغييرات التي أحدثتها في حال اقتضت مصلحتها الشخصية ذلك، لأنها لم تنطلق أصلًا من حاجات الشعب السوري ومبادئ ثورته ومفاهيمها.
تفتقر الهيئة القدرة على نسج روابط متينة تفاعلية مع المكونات المجتمعية والحواضن الشعبية في مناطق الشمال السوري المحرر ككل
وبناء عليه، يبدو من الصعوبة بمكان الحديث في المدى القريب عن تحقيق اندماج شامل بين هيئة تحرير الشام وفصائل الجيش الوطني، أو حتى إحداث خرق مهم على صعيد التنسيق والاندماج الأمني بينهما، نظرًا إلى عدم رغبة الهيئة واستعدادها للتنازل عن قضايا الأمن والعسكرة ولا حتى عن الأمور التنظيمية والإدارية لصالح أي جهة منافسة، مدنية كانت أو عسكرية.
وينمُّ هذا عن نهم عقلية الجولاني في الاستئثار بالسلطة واحتكار الحكم ورفض الاعتراف بالآخر، والامتناع عن الشراكة مع الفاعلين المحليين الآخرين، مقابل إبداء مرونة في التعامل مع الفواعل الإقليمية والدولية، فضلًا عن غياب الثقة بين الطرفين نتيجة تاريخ الهيئة المليء بالانتهاكات والاعتداءات على الفصائل وعلى المخالفين لها، والتي لا يمكن ترميمها و إصلاحها عبر الاقتصار على التواصل غير المباشر وتبادل المعلومات والتنسيق الأمني والعسكري المحدود.
ويبدو أن مسألة التصنيف ضمن لوائح الإرهاب التي تلاحق هيئة تحرير الشام – والتي لا يبدو أن القوى الدولية، وتحديدًا الدول الغربية والولايات المتحدة، في وارد إعطاء الهيئة شرعية دولية، أو رفع اسمها عن قوائم الإرهاب في المدى القريب، لأسباب عديدة متعلقة بمواقف تلك الدول وأجندتها تجاه الملف السوري، رغم التنازلات التي قدّمتها – تقف عائقًا أمام دعم القوى الدولية والإقليمية للاندماج أو التنسيق الأمني الواسع بين الهيئة والجيش الوطني، لا سيما من قبل تركيا، الذي يمثّل ملف فصل المعارضة المعتدلة عن “الجماعات المتشددة” نقطة ضغط تستثمره بعض الفواعل الدولية كروسيا، للضغط عليها في مسار المحادثات والمفاوضات بين الجانبَين.
ختامًا، تفتقر الهيئة القدرة على نسج روابط متينة تفاعلية مع المكونات المجتمعية والحواضن الشعبية في مناطق الشمال السوري المحرر ككل، ولا يبدو أن هناك رغبة حقيقية في إثبات مصداقية تحولاتها وسلوكها تجاه مبادئ الثورة السورية وتجاه الشعب السوري، كما لا يبدو أنَّها جادّة فعلًا في إنشاء نظام إداري تشاركي موسّع مع المؤسسات والقوى الثورية والمدنية الأخرى، ما يعني بقاء دينامية العلاقة بين هيئة تحرير الشام وقوى الجيش الوطني ومؤسسات المعارضة السورية الأخرى مجمّدة على مختلف الأصعدة، الأمنية والاقتصادية والسياسية، ومرتبطة بالتفاهمات بين القوى الدولية والإقليمية المنخرطة.