القدس؛ إنه يوم الاثنين، في وقت الصباح، والجو ماطر، وتحت أحد الأقواس الحجرية للمسجد الأقصى تجمّع ما يقرب من عشرين من النساء جلوساً على كراسي بلاستيكية أو على قطع من السجاد؛ يحتمين من المطر الغزير الذي حول ساحة الحرم إلى ما يشبه البحيرة. يتحدثن ويقرأن معا بصوت مرتفع من كتب دينية عكفن عليها. ثم تلتحق بهن نسوة أخريات، تحمل كل منهن سجادة صلاتها معها، جئن معا للاحتماء من العاصفة.
هؤلاء النسوة، اللواتي تتراوح أعمارهن ما بين أوائل العشرينات إلى ما يزيد عن السبعين عاماً يأتين يومياً إلى أهم موقع إسلامي في القدس وثالث أقدس بقعة في الأرض حسب الدين الإسلامي. وتحت أقواس المسجد أو في الساحات المظللة لقبة الصخرة الذهبية يقمن الصلاة، ويجتمعن ويتدارسن معاً. المسنات منهن، ومعظمهن لا يقرأن ولا يكتبن، تنظَّمُ لهن حلقات لتحفيظ القرآن الكريم بينما تنهمك الشابات منهن في تناول القضايا الدينية الأكثر تعقيداً وفي تعلم تاريخ المسجد وتاريخ المدينة المقدسة.
ولكن، ليس هذا هو السبب الوحيد الذي من أجله تأتي هذه المجموعة لزيارة الأقصى. تعرف هؤلاء النسوة بأنهن “المرابطات”، أي اللواتي يأتين للدفاع عن الحرم وحمايته من توغلات الإسرائيليين ومحاولاتهم فرض سيطرتهم عليه. تقول النسوة إنهن يراقبن عن كثب مجموعات الإسرائيليين اليمينيين والمتدينين الذين يداهمون ساحة الأقصى للزيارة من حين لآخر ويحاولون في بعض المناسبات إقامة شعائرهم داخل الأقصى – والذي يطلق عليه اليهود اسم جبل الهيكل ويعتبر في دينهم أقدس المواقع على الإطلاق.
وحينما تمر مجموعة من اليهود الإسرائيليين بالمسجد ترافقهم قوة من الشرطة، تهتف النسوة بأعلى أصواتهن “الله أكبر”، لتذكير الزائرين بأن المسجد مايزال في أيدي المسلمين، رغم التصعيد المستمر والاعتداءات المتزايدة. تقول لطيفة عبد اللطيف ذات الأربعة والعشرين ربيعاً: “كلما انتابنا شعور بأن ضررا قد يصيبنا نهتف الله أكبر، وكذلك حينما يهددنا الإسرائيليون أو يؤذينا الجنود”.
وتضيف: “أعيش في المدينة القديمة، وكنت من قبل آتي هنا في المساء للصلاة فقط. ولكن حينما رأيت المستوطنين يأتون كل يوم، ورأيت حرصهم الشديد على التواجد هنا، وأنهم يسعون لتدمير قبة الصخرة، أدركت أن لدي الحق في المجيء، بل أنه يتوجب علي أن أكون هنا. آتي إلى هنا لتوجيه رسالة وهي أننا لن نبرح هذا المكان أبداً، فهذا المكان لنا، ولن نغادره إلى أي مكان آخر”.
يشارك لطيفة عبد اللطيف في إيمانها الكثير من الفلسطينيين الذين يعتقدون بأن وضع المسجد الأقصى يتعرض لتهديد خطير. من الناحية الرسمية يسمح حاليا لليهود الإسرائيليين بزيارة الحرم الذي يشرف على إدارته الوقف الإسلامي، ولكن لا يسمح لهم بالصلاة داخله. إلا أن اليمينيين اليهود صاروا يتحدون هذه الترتيبات في السنوات والشهور الأخيرة مستعرضين قوتهم ومترددين على الحرم بشكل متزايد. وقد شهدت الفترة الأخيرة زيارات متتابعة للحرم من قبل المستوطنين اليهود، بما في ذلك بعض الأسماء البارزة داخل الكنيست، والذين يقولون إنهم إنما يؤكدون على حقوقهم الدينية في الصلاة في أقدس موقع في الديانة اليهودية.
إلا أن الفلسطينيين يعتقدون بأن هذه المجموعات اليهودية تطمح في الاستيلاء الكامل على المكان، وهي مخاوف تؤكدها سلوكيات بعض المنظمات مثل “حركة جبل الهيكل” التي تصرح جهاراً نهاراً بأن “المعابد الوثنية” في الأقصى وقبة الصخرة ينبغي أن تدمر ويقام على أنقاضها الهيكل اليهودي الثالث. ولعل هذا ما يفاقم التوتر الذي شهدته ساحات الأقصى مؤخراً وما جرى فيها من مواجهات عديدة بين نساء المسجد وقوات الشرطة.
بينما تجمّع بعض الجنود يستظلون بشجرة في الجوار، وقفت عايدة صيداويل، التي تبلغ من العمر 53 عاماً، ترمق عن بعد بعينيها من مكان يطل على حديقة الحرم الجدر الزرقاء لقبة الصخرة، وتقول: “تصوري لو أنك منعت من الذهاب إلى الكنيسة والصلاة فيها، سيضايقك ذلك، وسوف يغضبك أيضاً”. وتضيف: “لست أبالي أن يدمر بيتي، وأن يصادر مالي، أما المسجد الأقصى فهو خط أحمر. إذا ما استولوا على الأقصى، فلن يكون شيء في القدس على ما يرام”.
من الصور التي أصبحت معلماً من معالم التوتر الناجم عن زيارات اليمينيين الإسرائيليين إلى الحرم الشريف، هي تلك الصور التي تظهر الرجال الممنوعين من دخول المسجد وهم يؤدون الصلاة في الشارع، ركعاً سجداً تشهد ظهورهم المحنية في أداء جماعي على إصرارهم على أداء الصلاة ولو في الشارع معتبرين ذلك في نفس الوقت تعبيراً عن الاحتجاج على منعهم. إلا أن ذلك جزء من الحكاية وليس الحكاية كاملة. فالنساء اللواتي يأتين إلى المسجد كل يوم يتعرضن هن أيضاً للاعتقال والضرب والمنع من دخول الحرم. ومع ذلك، فكلهن إصرار على الاستمرار في العودة مراراً وتكراراً وكلهن على استعداد لدفع ثمن باهظ مقابل البقاء في جوار المسجد.
في كل أسبوع هناك تقارير عن تعرض النساء للاعتقال أو للأذى على أيدي قوات الأمن بالقرب من الحرم. تقول لطيفة عبد اللطيف إنها احتجزت لمدة ساعتين في وقت مبكر من هذا الشهر، وجرى التحقيق معها وهددت بالطرد من المسجد. وتقول نسوة أخريات إنهن منعن مراراً من دخول الحرم – وهي القضية التي أثارتها عضو الكنيست حنين الزعبي، ويوثقها مقطع فيلم تظهر فيها النساء وهن يطاردن من قبل ضباط الشرطة ويمنعن من عبور بوابات الحرم إلى الداخل.
إلا أن المتحدث باسم الشرطة ميكي روزنفيلد نفى أن يكون قد حصل أي اعتقال أو أن يكون قد فرض حظر على دخول النساء إلى المسجد. وقال في تصريح لميدل إيست آي: “كانت هناك بعض الاضطرابات في جبل الهيكل خلال الأسابيع القليلة الماضية. هؤلاء النسوة يتجولن داخل جبل الهيكل ويمنعن السواح وغير المسلمين من التجول داخله، وفي بعض الأوقات يهتفن بصوت مرتفع في وجه الزائرين بشعار الله أكبر، ما يضطر الشرطة للتدخل”.
ما من شك في أن التوتر شديد لدى الطرفين. وفي الشهر الماضي صرحت عضو الكنيست موعليم رافائيلي لصحيفة الجروزاليم بوست بأنها تعرضت للدفع من قبل نسوة فلسطينيات حينما كانت تحاول زيارة المسجد الأقصى.
إلا أن النساء في المسجد يقُلْن إن الانتهاكات الإسرائيلية مستمرة، ويحمّلن السلطات المسؤولية عن الاضطرابات التي تندلع من حين لآخر.
تقول عايدة صيداويل إنها تعرضت مؤخراً للضرب من قبل قوات الأمن، وتظهر صورة لحجابها وقد مزقه الجنود أثناء الواقعة.
هناك امرأة أخرى في السابعة والستين من عمرها اسمها زويا بدواني تقول إنها تعرضت للأذى ولكن هذه المرة من قبل المستوطنين اليهود. وهي الآن تربط بضمادة رسغها الذي تعرض للكسر أثناء المواجهة، وتصر زويا بدواني على أنه مايزال يؤلمها، وتقول: “لقد كان الأربعاء الماضي يوماً سيئاً جداً. فقد جرى اعتقال وضرب أربعة من النسوة. لماذا يفعلون ذلك؟ هل لأننا نريد أن نصلي؟ هل لأننا نريد أن نهتف بعبارة الله أكبر؟ أم لأننا نساء. نحن مجرد نساء، وليس لدينا شيء، بينما هم جنود يحملون السلاح”.
رغم هذه التحديات تقول هؤلاء النساء إنهن إنما ازددن قناعة بالحاجة إلى البقاء في جوار المسجد للدفاع عنه. ورغم جرحها، فقد جاءت زويا بدواني إلى الأقصى من داخل إسرائيل مثل كثيرات غيرها يأتين إلى المسجد تقريباً كل يوم من مناطق مثل يافا وعكا أو حتى الجليل.
تعتقد المرابطات بأنهن كنساء لديهن بشكل خاص دور في غاية الأهمية، وذلك أن الرجال المقدسيين أكثر عرضة للاعتقال في ساحات الأقصى المكشوفة وفي ظل التواجد الكثيف للشرطة، ويشعرن بأن النساء أقل عرضة للاعتقال من الرجال، كما أنهن أقل نزوعاً نحو فقدان السيطرة واللجوء إلى العنف.
وبالفعل، يعتبر نضال المرابطات كمجموعة متكاتفة من النساء أمراً مركزياً في هذه المقاربة، وترى كثيرات منهن أن مثل هذا النضال من أجل الأقصى قد شكل تحدياً وأحدث تحولاً في بعض الأفكار المتعلقة بالأدوار التقليدية للمرأة. تقول المشاركات في الحراك بأنه برز بشكل واضح خلال السنوات الأربع أو الخمس الماضية، نظراً لأن المستجدات السياسية التي فرضت نفسها شجعت المشاركات في هذا النشاط على تحدي بعض الأفكار المحافظة بشأن دور الأنثى في المجتمع.
تقول لطيفة عبد اللطيف، والتي تعتبر من أصغر أعضاء هذه المجموعة سناً: “في السابق لم تكن النساء يخرجن كثيراً إلى المسجد. ولكن منذ أن ازداد الصراع صعوبة وخرج عن الطور المعتاد تحررت النساء من فكرة أن على المرأة أن تلتزم بيتها، وبأنه لا ينبغي لها أن تقول شيئاً، ولا أن ترفع صوتها”.
ومضت لطيفة تقول: “إن الثقافة السائدة هي التي تَحْمل الناس على التفكير بمثل هذا الشكل التقليدي الذي لا يقوم على أساس من الدين، على وجه التأكيد. منذ أن خرجت النساء إلى المسجد وأخذن يشاركن في مثل هذه النشاطات أصبحن أكثر انفتاحاً من الناحية الفكرية، وفهمْن أن الخروج بات واجباً عليهن، وأن بإمكانهم السفر، وأن بإمكانهن التعبير عما تكنه نفوسهن وما يجول في خاطرهن”.
بالنسبة للكثير من النساء هنا، يعتبر الأقصى نقطة مركزية ليس فقط بالنسبة للقدس بل وأيضاً بالنسبة لحياة كل واحدة منهن، فهو مركز المجتمع في المدينة التي نشأن فيها، وهو المعلم الذي ما فتئن يترددن عليه منذ كن أطفالاً صغاراً. إلا أن الأمر فيه ما هو أكثر من ذلك أيضاً، فالمرابطات يقلن إنه طالما بقي الأقصى بقيت فلسطين. لقد دفعهن الاعتقاد بواجب الدفاع عنه إلى تحدي الأخطار المحدقة بهن من عنف واعتقال وقيود.
تقول لطيفة عبد اللطيف: “لقد اعتقلت قبل أسبوعين، واحتجزوني لست ساعات واستجوبوني. ثم قالوا لي إذا عدت إلى الأقصى فسوف يصدر حظر بحقك، وسوف نرسلك إلى السجن. ولكني عدت في اليوم التالي مباشرة”.
وتضيف قائلة: “نعلم يقيناً أننا نجازف بحياتنا، ولكن لا يوجد أمامنا سبيل آخر. ماذا لدينا لنعبر به عما في نفوسنا؟ لا يحب أحد منا أن يعتقل، ولا يحب أحد منا أن يضرب، ولكن هذه هي الطريقة الوحيدة”.
المصدر: ميدل إيست آي / ترجمة عربي 21