بعد مضي أكثر من ستة عقود، عاد 35 طالبًا وطالبة إلى مقاعدهم بمدرسة الكمالية في البلدة القديمة شرق مدينة غزة، يسترجعون ذكريات قضوها بين تلك الجدران الرملية التي يعود بناؤها إلى زمن العثمانيين، لكنها دثرت وتحولت إلى مكرهة صحية بعد إهمالها لسنوات طويلة قبل ترميمها من جديد.
تحسس الطلبة ملامح بعضهم بعدما غزت التجاعيد وجوههم، وبمجرد أن يتعرف أحدهم على الآخر يهللون فرحًا كما لو كانوا صغارًا وعادوا لتوهم من إجازة صيفية يتوقون لرؤية بعضهم، وما أثار حماسهم خلال الجلسة أن إحدى الطالبات وهي إلهام فرح – 85 عامًا – كانت منذ صغرها تعزف أمامهم على البيانو خلال طابور الصباح، واليوم عادت تعزف السلام الوطني الفلسطيني.
في السنوات القليلة الأخيرة برزت مبادرة “بيتكم عامر” لترميم البيوت الأثرية على يد عدد من الفنانين التشكيليين لإحياء البلدة القديمة بعدما كادت أن تمحى بسبب هدم عدد منها وإعادة بنائه على الطراز الحديث، وأخرى هاجر أصحابها منذ سنوات طويلة فتحولت إلى مكب للنفايات.
وتحولت البيوت المهجورة بعد ترميمها إلى مراكز ثقافية تحمل الطابع العمراني في زمن المماليك والعثمانيين، وباتت تحكي تاريخ مدينة عريقة تعاقبت عليها الكثير من الأزمنة، فكل زاوية من المباني تروي حكاية مكان شهد حياة اجتماعية وسياسية واقتصادية تروى تفاصيلها من بين تلك الرسومات المنحوتة على جدرانها.
ولعل ما دفع الشباب للنبش عن البيوت العتيقة وإحيائها من جديد، هو محاولتهم إبراز الطابع العمراني لمدينة غزة، فهي الوحيدة بين المدن الفلسطينية التي كادت تختفي بلدتها القديمة، فنجح الشباب في ترميم 47 بيتًا مسكونًا، ومنها ما تحول إلى مراكز ساهمت في إعادة المشهد الثقافي للواجهة بعدما بقي مغمورًا لسنوات طويلة بفعل الأوضاع السياسية.
ووفق إحصائية لوزارة السياحة والآثار بغزة، فإن عدد المباني الأثرية في البلدة القديمة بلغ 117 وتضم عددًا من البيوت والمساجد والكنائس والقصور والمقابر والمدارس. عبر تقرير لـ”نون بوست” نستعرض أبرز البيوت الثقافية التي أعيد افتتاحها حديثًا لإنعاش الحياة الأدبية والاجتماعية واستقطاب الشخصيات المؤثرة المهمة لتلقي الضوء على قضايا فلسطينية معاصرة.
المدرسة الكمالية
هي المدرسة الأثرية الوحيدة الموجودة في غزة، تقع في حي الزيتون بالبلدة القديمة، بالقرب من شارع عمر المختار شمالًا وشارع الكمالية جنوبًا، ومن الشرق والغرب تحيط بها محال تجارية. أنشئت في العهد الأيوبي عام 1237، على يد الملك الكامل ابن الملك العادل حاكم الدولة الأيوبية.
أُقيمت لتكون حلقة وصل بين طلاب العلم والتجار والفقراء والضيوف وكل ما هو متبادل بين بلاد الشام ومصر، فكانت بمنزلة صرح كبير للفقراء في تلك المدة، وتحولت بعد ذلك إلى مدرسة للبنات عام 1930 في عهد رئيس بلدية غزة فهمي بيك الحسيني، وبقيت هذه المدرسة شامخة إلى يومنا هذا.
تتشكل من مجموعة من الغرف و”الأواوين” في طابقين يطلان على فناء واسع، حيث كان الفناء جزءًا مهمًا في العمارة الإسلامية، وكان يستخدم كبيئة داخلية ومعالج بيئي في أوقات الصيف الحارة، وتفتح بعض الغرف على الفناء مباشرة، في حين تفتح معظمها على فراغ موزع شبيه بالإيوان.
صممت فراغات المدرسة لتكون موجهة إلى الداخل تجاه الفناء إلى البيئة الداخلية، وتُفتح الغرف على الفناء بفتحات مختلفة الشكل، منها الشكل المستطيل لشبابيك الغرف، والقوس المدبب الكبير للإيوان، وأقواس مدببة محمولة على أعمدة من الحجر في الطابق العلوي تفصل بين الممر المؤدي إلى الغرف والفناء، كما أن أسقف المدرسة مبنية بعقود متقاطعة.
بيت السقا الأثري
في أحد شوارع حي الشجاعية شرق مدينة غزة يقع أول منتدى اقتصادي عرفته فلسطين الذي تعود جذوره إلى القرن الـ17 الميلادي، ولا يزال هذا البيت الأثري صامدًا منذ 360 عامًا.
بنى هذا البيت أحمد السقا – أحد كبار تجار غزة آنذاك -، وتبلغ مساحته 700 متر مربع وفيه إيوان واسع حول 3 غرف، ويتوسط ساحة البيت، درجان يؤديان إلى أنصاف قباب وأقواس، توضح ما تتميز به الحقبة العثمانية من معمار وهندسة، تعبر عن تاريخ وذكريات، نقشت على كل زاوية من زواياه.
تتدلى من القباب المقوسة ثريات قديمة، وتستند القباب على أعمدة ضخمة بنيت من الأحجار الرملية القديمة، بينما تتزين نوافذها القديمة بعدد من القوارير الفخارية التي تضفي على المشهد مزيدًا من الملامح التراثية القديمة.
في الثمانينيات بقي مهجورًا إلى أن جاءت السلطة الفلسطينية عام 1994، وسجلته كموقع أثري في وزارة السياحة والآثار الفلسطينية لتهتم به، لكن بقي على حاله.
ومنذ نحو سنتين، أُعيد ترميم البيت المهجور من جديد ليتحول إلى مركز ثقافي ومكتبة عامة، تقام فيه المسرحيات والندوات الأدبية والأمسيات الشعرية.
سباط العلمي
يقع البيت الأثري في قلب المدينة التلية بحي الدرج في البلدة القديمة وفي الجهة الشمالية من المسجد العمري الكبير، ويعود هذا البيت الأثري إلى القرن الـ17.
يتميز بالطابع الإسلامي التقليدي للعمارة الإسلامية في الفترة العثمانية، فيتكون من ممر مسقوف بقبو متقاطع بين بنائين رئيسيين يمر أسفل منهما شارع ضيق لا يزيد على الثلاثة أمتار فقط، ويوجد أعلى الممر المسقوف غرفة تغطيها قبة.
كان لهذا السباط دورًا مهمًا في الحفاظ على النسيج التقليدي لشبكة الطرق التي تربط أجزاء الحي، فهو يطل على شارع الوحدة من الجهة الجنوبية، ضمن نسيج عمراني تاريخي مكون من عدة مبان تاريخية، يشمل الجامع العمري وسوق القيسارية ومقبرة الغصين وقصر الباشا، إضافة إلى سباط كساب وعدة بيوت تاريخية.
تعود ملكية السباط لآل العلمي منذ أنشئ، وتوارثته العائلة حتى يومنا هذا، ليتحول إلى مزار تراثي عريق متجذر في أصول التراث الفلسطيني والحضارة الفلسطينية.
مطعم بيت ستي الأثري
المطعم الأثري الأول في قطاع غزة، حيث يعتبر معلمًا مهمًا من معالم الحضارة، لما يحتويه من إرث تاريخي وزخارف وتراث ومقتنيات قديمة.
ليس صعبًا الوصول إليه، فعبر زقاق ضيق في حي الزيتون شرق مدينة غزة يصل الزائرون إلى “بيت ستي”، وهو منزل يعود إنشاؤه لما قبل نحو 430 عامًا، حوّله أصحابه إلى مطعم أثري مع محافظتهم على مرافقه الأساسية وخصوصية مكوناته الأثرية.
وتظهر ملامح المطعم الأثرية من مدخله، فبابه مبني محيطه من أحجار قديمة بارتفاع منخفض مقوس أعلاه، يتبعه دهليز صغير معتم إلا من إضاءة فانوس أضيف إليه مؤخرًا، وصولًا إلى أرض الديار، وهي فناء غير مسقوف وسط المنزل مزروع فيه بعض أشجار الزينة والنباتات المتسلقة على الجدران.
وتشرف أرض الديار على قاعات المطعم الثمانية بالطابقين الأرضي والأول، ومكوناته المكتظة بمعالم العمارة العثمانية المتأثرة بالطراز المملوكي، خصوصًا الإيوان المقوس والسقف المغلق الجدران من ثلاث جوانب، بينما الجهة الشمالية مفتوحة بالكامل وتطل على الفناء عبر عمودين.
وبالتوازي مع ملامح عظمة العمارة الإسلامية المنبعثة من مكونات المطعم الإنشائية، فإن محتوياته الأخرى يفوح منها عبق التاريخ، كالسرج والتماثيل والنحاسيات والخشبيات والفخاريات وغيرها.
يشبع “بيت ستي” حنين الغزيين إلى البلدات القديمة في القدس ونابلس والخليل ويافا وبقية المدن الفلسطينية، التي يحرمهم الاحتلال من دخولها منذ نحو عقدين، لذا بات يبحث الغزي عن كل جدار عتيق يوشك على الاندثار فيبث فيه الروح بعد ترميمه.
إعادة التاريخ الشفوي للبلدة القديمة
يتهافت الغزيون لا سيما الشباب منهم على زيارة البيوت العتيقة التي يزيد عمرها على مئتي عام وأكثر لحضور فعالية ثقافية أو معرض تراثي.
داخل بيت السقا الأثري كان يستقبل عبد الله الرزي – الفنان التشكيلي ومنسق مبادرة “بيتكم عامر” – عددًا من الزوار ليعرفهم على معالم وتاريخ البيت وما يحمله من تفاصيل تروي حياة أبنية عريقة.
يقول الرزي لـ”نون بوست”، إن فكرة مبادرته بدأت من مدرسة الكمالية وذلك في إطار الوعي الثقافي للبلدة القديمة، لافتًا إلى أن الاهتمام بترميم المباني الأثرية يعتبر قضية وطنية بسبب تعرضها لهجمة كبيرة من العزلة والإهمال والتعديات، فكان لا بد من الحفاظ على واقع المدينة التاريخية وهويتها الثقافية.
وبحسب قول الفنان التشكيلي، فإن ما أثار حماسهم لتنفيذ مبادرة “بيتكم عامر” أن كثيرًا من البيوت الأثرية يهدمها أصحابها بهدف التوسعة أو بناء جديد، وبالتالي كل تلك المباني التي تروي التاريخ سيكون مصيرها الدفن.
بعد ترميم البيوت الأثرية يتم العمل على تهيئتها للنشاطات الفنية والثقافية، لإعادة الروح التاريخية للحقبة المملوكية والعثمانية التي شيدت فيها تلك المباني
ويوضح أنه وفريقه بالتعاون مع مؤسسات مختصة يبحثون منذ خمس سنوات عن المباني الأثرية المهجورة لإعادة ترميمها والحفاظ عليها، مشيرًا إلى أنهم يدعون في أوقات كثيرة أشخاصًا عاشوا في تلك البيوت التي رممت من أجل إعادة التاريخ الشفوي لها عبر سردهم لمواقف حدثت في المنطقة سواء عاشوها أم حفظوها عن آبائهم أو أجدادهم.
وأشار الرزي إلى أن بعد ترميم البيوت الأثرية يتم العمل على تهيئتها للنشاطات الفنية والثقافية، لإعادة الروح التاريخية للحقبة المملوكية والعثمانية التي شيدت فيها تلك المباني، لافتًا إلى أن حنين الشباب للبلدة القديمة يشجعهم على حضور الكثير من الفعاليات التي يتم التركيز خلالها على التراث الفلسطيني القديم والإنصات إلى الحكايات الشعبية التي يرويها الحكواتية والمؤرخون، عدا عن فقرات الزجل والأهازيج الشعبية، بالإضافة إلى إقامة المعارض التراثية بشكل دائم.
ربط الفنون الأدبية بالبيوت الأثرية
ولأن البيوت الأثرية باتت ملاذًا للكتاب والأدباء والفنانين، كونها مرتبطة بأعمالهم الإبداعية، لم يترك الكاتب محمود جودة دعوة أو مناسبة إلا وكان حاضرًا سواء في قصر الباشا أم بيت السقا أم سباط العلمي أم بيت ستي وغيرهم من البيوت العتيقة، ليسهل على نفسه ربط نصوصه الأدبية التي يلقيها على الحضور بروح المكان.
ويؤكد لـ”نون بوست” أن ترميم البيوت الأثرية يعتبر عملًا بطوليًا في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة، رغم أن ذلك مطلوبًا في قطاع غزة الذي يفتقر إلى المراكز الثقافية.
ويرى جودة أن استغلال المباني التاريخية وتحويلها إلى مكتبات عامة ومراكز ثقافية، يعيد الاعتبار للحياة الثقافية لما فيها من شاعرية وإحساس عميق لمرتاديها، واصفًا طريقة بنائها بالتاريخ الذي يروي قصة جيل بطباعه وعاداته.
قائلًا: “إقامة المناسبات الأدبية والفنية في الأماكن العتيقة من البلدة القديمة يضيف لها، خاصة لو كانت رواية كتبها غزي يسرد فيها عن تاريخ قديم”، مبينًا أنه من خلال رواياته دومًا يحاول ربط الإنسان بالأماكن الواقعية وتجسيد الجغرافيا بشوارع البلدة القديمة.
البيوت والمباني الأثرية التي تم البحث عنها خلال السنوات الأخيرة ليست مجرد بيوت، بل رحلة عبر التاريخ تحكي طقوس وعادات أناس سكنوا بين تلك الأزقة وعاشوا تفاصيل لا تزال محفورة على جدرانها الرملية.