خلال فترات الهدوء والاستقرار النسبي، لا فرق بين متابعة قمم مجموعة السبع أو تجاهلها. لكن القمة الأخيرة كشفت الفشل التاريخي لهذه الفعاليات. ويؤكد التجمع في جبال الألب البافارية أسوأ مخاوفنا عن انهيار الغرب ويفضح مدى تعثر التزام العالم اللامتناهي بتعزيز قيم الحرية.
وفي الوقت الراهن، يبدو أن الغرب يفتقر إلى الوحدة والإرادة لمنع روسيا من ضم أوكرانيا – باستثناء ما يبدو رسميًا – وليس له استراتيجة متسقة لمكافحة تنامي النفوذ الصيني.
إن فلاديمير بوتين يسير بخطى ثابتة نحو تحقيق طموحه النهائي المتمثل في تبديد وهم النظام العالمي الليبرالي بحيث ينقسم العالم إلى مناطق نفوذ متنافسة. يبدو أن الغرب فقد السيطرة على العالم مع دخول الغزو الروسي مرحلة جديدة قاتمة من حرب الاستنزاف. في الأثناء، تحتاج أوكرانيا بشكل عاجل إلى الذخيرة وقطع المدفعية الغربية بعيدة المدى والأساطيل المدرعة. لكن بالنظر إلى أن مخزونات الناتو قد نفذت وعفا عليها الزمن، فإن تقديم مساعدة حاسمة سيتطلب استثمارات وإرادة جادّة – وهو أمر لا يبدو أن الغرب قادرعلى القيام به. والسبب وراء ذلك قاتم، ذلك أن النخب الأوروبية مهتمة حاليًا بالسعي وراء مصالح ضيقة أكثر من اهتمامها بالصالح العام.
فوّتت ألمانيا أفضل فرصها لتأكيد استعدادها أخيرًا للوفاء بالتزاماتها القيادية على المسرح العالمي. فمع انعقاد قمة مجموعة السبع على أراضي بلده، كانت أمام المستشار أولاف شولتز فرصة ممتازة لتجاوز النزعة المركنتيلية الكئيبة التي شكلت السياسة الخارجية لبرلين، والنأي بعيدا عن مشروع نورد ستريم 2. لكنه بدلاً من ذلك، ظل أثناء حديثه في المؤتمر غامضًا حول “الدعم” الذي على ألمانيا تقديمه لأوكرانيا في ظل ما تتعرض له من انتقادات بسبب ترددها في إرسال الأسلحة لها.
في غضون ذلك، لا يزال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون متمسكًا بالوهم المزعج بأن أوروبا يمكن أن تستخدم روسيا كحاجز ضد الهيمنة الأمريكية – وهو تفكير غير منطقي بالنظر إلى أن الكرملين منبوذ على المستوى العالمي. مع ذلك، تتمثل الحقيقة في أن باريس تتوق منذ فترة طويلة إلى التحالف مع ألمانيا وروسيا ما من شأنه الحد من هيمنة الولايات المتحدة وتشكيل عالم متعدد الأقطاب.
عولمة السوق الحرة قابلة للاستدامة فقط بدعم ديمقراطي
لا يبدو أن الولايات المتحدة لديها الطاقة للحشد من أجل هذه القضية. وفي مجموعة السبع، لم يتمكن جو بايدن حتى من التوصل إلى إجماع حول حظر واردات الذهب الروسي. نتيجة لذلك، يسير الغرب نحو الهاوية دون أن يدرك ذلك. باتت فكرة النظام العالمي الخاضع للسيطرة الليبرالية مشكوكًا فيها، وستصبح مثيرة للسخرية مع سقوط أوكرانيا. ستصبح الهيمنة الأمريكية على المحك، بينما ستتلاشى فكرة أن الناتو كيان يحافظ على السلام في القارة. في أحسن الأحوال، سيتعرض الاتحاد الأوروبي للتهميش بصفته كيانا اقتصاديا غير مهم في عصر يتسم بنزعة عسكرية مطلقة. وفي أسوأ الأحوال، سينهار من الداخل بمجرد أن تدرك دول أوروبا الشرقية أن برلين تخاطر بأمنها من أجل خدمة مصالحها التجارية. كل ذلك سيساهم في تعزيز نفوذ الصين حتى أنها قد تنتهز تلك الفرصة للاستيلاء على تايوان.
لابد من تجنّب هذا السيناريو بأي ثمن. لكن السؤال الحاسم هو: لماذا يفشل التكنوقراط الغربيون في إثبات قضية النظام العالمي الليبرالي؟ هل هو فشل قيادي عالمي – انعكاس للغباء الموجه بالكامل الذي تعاني منه الإدارة التكنوقراطية اليوم؟ جزئيًا نعم، لكننا نحتاج أيضًا إلى مراعاة التدهور السريع لليبرالية الجديدة على مدار العقد الماضي.
كانت الليبرالية الجديدة، رغم ما يشوبها من عيوبها، مذهب الحرية الذي وحّد ذات مرة القوى الغربية وكان له اتجاهان مهمان: أولها أن رفاهية الإنسان تتقدم بشكل أفضل من خلال حرية ريادة الأعمال التي لا يمكن ضمانها إلا من خلال هياكل السوق الحرة؛ وثانيًا أن انتشار الأسواق الحرة سيؤدي بصورة طبيعية إلى الديمقراطية الليبرالية، مما يخلق حقبة جديدة من الانسجام الذي لا نظير له.
لكن هذه الأفكار أصبحت محل تشكيك ليس فقط من دول مثل روسيا والصين، وإنما أيضًا بين صفوف المحافظين واليساريين من داخل الغرب. ومع فقدان أيديولوجيتها التوجيهية للحرية، تواجه النخب الغربية أزمة ثقة. تعد بعض الانتقادات الموجهة لليبرالية الجديدة مبررة من بينها أنها ليست مرنة مثلها مثل جميع نظريات الشيوعية، فهي قائمة على تصور أنها ترياق الاشتراكية الشعبوية في السبعينيات. كما أنها لا تخلو من شكوك سامة ومتأصلة من الديمقراطية السيادية، التي تجادل بأهمية وجود روابط محكمة حتى لا تتعارض مع قضية السوق العالمية الحرة. وقد أطلق فريدريك حايك على السيادة الشعبية مصطلح “الأفكار الفارغة”؛ بينما وصف ميلتون فريدمان الأغلبية بأنها “تهديد جوهري للحرية”.
في الحقيقة، إن عولمة السوق الحرة قابلة للاستدامة فقط بدعم ديمقراطي. لكن هذا الخطأ الفكري الذي وقعت فيه العقول التي نحسبها نيّرة هو الذي أدى في النهاية إلى تصدع الليبرالية الجديدة أمام الانهيار المالي وما نتج عنه من صعود الشعبوية. وزوال الليبرالية الجديدة خلق معضلة كبيرة، وهي أن الغرب فقد كل ثقته في قدسية الحرية، وينطبق الأمر ذاته على باقي العالم. لقد أصبح عدد البلدان “الأكثر استبدادية” ثلاثة أضعاف عدد البلدان التي تتجه للديمقراطية، مما يعكس صعود الحمائية في جميع أنحاء العالم.
لو تخلت دول مثل بريطانيا عن التسعيرات الجمركية ذات الأهداف الشعبوية، مثل التعريفات المفروضة على الصلب، لكان لذلك نتيجة أفضل في ضم الدول النامية إلى صف العالم الحرّ
كل ذلك يجعل رسالة ترسيخ أهمية الحرية أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. هناك الكثير من الأدلة التجريبية على أن الدول الأكثر حرية تميل إلى أن تكون أكثر ثراء، وأن التجارة الحرة هي قوة من أجل الخير.
لا يمكن إنكار حقيقة أن حجم المخاطرة العالمية بقضية الحرية بات أعلى من أي وقت مضى. وبدلاً من ضخ المليارات في مشروع منافس لمشروع الحزام والطريق الصيني، كما أُعلن عنه في قمة مجموعة السبع، يجب على الغرب إظهار التزامه بتشجيع التجارة الحرة لتعزيز الازدهار.
لو تخلت دول مثل بريطانيا عن التسعيرات الجمركية ذات الأهداف الشعبوية، مثل التعريفات المفروضة على الصلب، لكان لذلك نتيجة أفضل في ضم الدول النامية إلى صف العالم الحرّ.
في الواقع، تكمن المشكلة في أن العالم أصبح نسخة مشوهة من الليبرالية الجديدة، التي تآكلت كل أفكارها عن قدسية الحرية الفردية والتجارة الحرة وكل ما بقي هو طبقة حاكمة متمسكة بالإدارة التنكنوقراطية المجردة من المبادئ التوجيهية، ليصبح السادة هم النخب وليس الأسواق. إنه عبء مصيري نلقيه على المواطن العادي الذي يوشك على الانهيار تحت أي ضغط.
المصدر: التيلغراف