عندما سئل أحد القادة العسكريين الأتراك عن تطبيع العلاقات التركية مع السعودية والإمارات ومصر، قال حينها إن “اليونان ستصاب بسكتة قلبية جرّاء ذلك”. ورغم أن اليونان ليست طرفًا مباشرًا في التقارب التركي الخليجي العربي، لكنها في الوقت ذاته عامل مهم وحسّاس في الإسراع بهذا المسار إلى مراحله النهائية من التطبيع شبه الكامل بعد سنوات من التوتر، وذلك فضلًا عن كونها لاعبًا محوريًّا في توتير الأجواء بين أنقرة من جانب والرياض والقاهرة من جانب آخر فيما سبق.
وعلى مدار السنوات العشر الأخيرة تحديدًا، تحولت اليونان، الخصم التقليدي والتاريخي لتركيا منذ استقلالها عن الإمبراطورية العثمانية عام 1832، إلى الحاضر الغائب في كافة التحركات التركية، فالأمر لم يتوقف عند الماضي المظلم حين خاضَ البلدان 4 حروب كبرى في أعوام 1897 و1912 و1914-1918 و1919-1922، بل تجاوز ذلك إلى إحياء الخلافات القديمة المتجددة والمتوقع أن تطيل أمد الخصومة والعداء، حيث الصراع داخل حلف الناتو وحول جزيرة قبرص وبحر إيجة تُوِّج بالنزاع حول حقوق التنقيب عن مصادر الطاقة في المتوسط.
ونجحت أثينا خلال الأعوام الخمس الماضية في تحقيق العديد من المكاسب، مستفيدة من حالة الخصومة التركية مع بعض القوى الإقليمية، لكن مع التغيُّرات الطارئة في سياسة أنقرة الخارجية وتبنّي استراتيجية تصفير المشاكل مع الجيران والحلفاء القدماء، لا شكّ أن الخارطة ستتغير بشكل جوهري، بعدما فقدت اليونان سلاحها الوحيد المتمثل في توتر العلاقات بين تركيا والعرب.
التقارب اليوناني العربي
بداية لا بدَّ من الإشارة إلى أن اليونان ما كانت ولن تكون يومًا ما هدفًا استراتيجيًّا لدول الخليج ومصر، فالبلد الذي يعاني من اقتصاد متدهور واضطرابات داخلية وندرة واضحة في الموارد، لا يملك ما يغري به قوى المنطقة من أجل التقارب والتحالف معه، لكن الأمر في مجمله كان “نكاية” بتركيا.
وحاولت أثينا لعب دور بديل لأنقرة في المنطقة، ونجحت في تقديم أوراق اعتمادها للرياض والقاهرة، كحليف جاهز يمكن الاستعانة به لـ”مناكفة” الخصم التركي العنيد الذي لم يتوقف عن التصعيد مع تلك القوى عبر عدد من الملفات والأوراق السياسية والحقوقية، والتي كان لها صداها الكبير في تشويه سمعة وصورة النظامَين عالميًّا.
نشر المغرّد الشهير “مجتهد”، في 28 أغسطس/ آب 2020، وثيقة صادرة عن جهاز الاستخبارات السعودي وموقّعة من العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبد العزيز، وموجّهة إلى وزارة الخارجية، تقول إن التقارب مع اليونان “يستهدف توحيد المواقف بين البلدَين حيال التدخلات التركية في ليبيا وسوريا، والتصدي لتلك التدخلات، وتضييق الخناق على الخيارات السياسية للحكومة التركية”.
كما أوضحت الوثيقة ضرورة استغلال التوترات الإقليمية بين اليونان وتركيا لتعزيز نفوذ المملكة داخل اليونان في مجالات الطاقة، مناشدة الخارجية السعودية اتخاذ الإجراءات اللازمة والضرورية لدعم التعاون مع أثينا في كافة المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتجارية والزراعية والتعليمية والسياحية.
وما أن توترت العلاقات التركية العربية حتى ظهرت اليونان كفرس رهان جديد، يهرول إليه القادة العرب، ورغم أن العلاقات اليونانية العربية لم تتجاوز يومًا ما حاجز الدبلوماسية الباردة، حيث ندرة الزيارات وقلّة مسارات التعاون في ظل عدم تماسّ الملفات بينهما، إلا أن الوضع تغيّرَ سريعًا خلال العامَين الماضيَين.
نجحت اليونان بالفعل في توظيف ورقة توتر العلاقات التركية العربية في تحقيق حزمة من المكاسب، فعززت اقتصادها بعشرات الاتفاقيات مع العرب
ففي سبتمبر/ أيلول 2019 عيّنت الرياض أول سفير مقيم لها في قبرص اليونانية، ثم تمّت زيارة نادرة لوزير الخارجية السابق إبراهيم العساف إلى نيقوسيا، وفي نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه كان وزير الدولة للشؤون الخارجية، عادل الجبير، في اليونان وسط استقبال حافل، حينها غرّد الجبير قائلًا: “نتشارك معًا ذات الأهداف لصون الأمن وتعزيز الاستقرار”، وهي التغريدة التي فسّرها البعض حينها بأنها رسالة نكاية إلى أنقرة.
وبعد سلسلة من الزيارات المتبادلة توجّه رئيس الوزراء اليوناني، كيرياكوس ميتسوتاكيس، إلى الرياض في 3 فبراير/ شباط 2020، حيث التقى ولي العهد محمد بن سلمان، وأبرما حزمة اتفاقيات تعاون شملت العديد من المجالات، في المقدمة منها التعاون العسكري، حيث تبادُل التسليح والمناورات المشتركة.
لم يختلف الوضع كثيرًا مع أبوظبي التي استغلت خصومة أنقرة وأثينا لتعزّز علاقتها مع الأخير بشكل غير مسبوق، بل استهدفت المجالات التي تقلق الأتراك وتثير حفيظتهم وتقزّم دورهم الإقليمي، وكان من أبرزها الإسراع في إنشاء خط أنابيب ينقل الغاز من قبرص و”إسرائيل” إلى أوروبا دون المرور بتركيا، ما يُفقد الأتراك نفوذهم الجيوسياسي والاقتصادي في هذا الملف.
الموقف ذاته تبنّته القاهرة التي عزّزت من علاقتها مع أثينا ونيقوسيا بشكل لم تشهده العلاقات بين الطرفَين على مرّ التاريخ، وتُوِّج هذا التقارب بتوقيع مصر واليونان في 6 أغسطس/ آب 2020 اتفاقية المنطقة الاقتصادية الخالصة (ترسيم الحدود البحرية)، والتي رفضها الجانب التركي لما تنطوي عليه من انتهاك حقوقه في مصادر الطاقة في شرق المتوسط.
تجاوزَ الأمر المكاسب المباشرة عبر تعزيز العلاقات مع قوى المنطقة إلى مناكفة تركيا في مناطق التماسّ البعيدة، إذ سعت أثينا لإيجاد موضع قدم لها في الملف الليبي، في الاتجاه المعاكس بطبيعة الحال للمسار التركي، حيث زار وزير الخارجية اليوناني، نيكوس دندياس، بنغازي (شرق) وبحث مع مسؤولين ليبيين محسوبين على السعودية والإمارات ومصر موضوعَ ترسيم الحدود البحرية.
ويمكن القول إن اليونان نجحت بالفعل في توظيف ورقة توتر العلاقات التركية العربية في تحقيق حزمة من المكاسب، فعززت اقتصادها بعشرات الاتفاقيات مع العرب وضخّت المليارات الخليجية في سوقها الداخلي، كما استعادت جزءًا من نفوذها الإقليمي المفقود في ملف شرق المتوسط، وفوق كل هذا مواجهة الخطر التركي المتصاعد والذي يمثّل العقدة التاريخية لليونانيين.
مستجدات غيّرت قواعد اللعبة
لم يهنأ اليونانيون كثيرًا بتلك الوضعية التي حقّقوا منها أقصى استفادة ممكنة، إذ شهدت الساحة الدولية والإقليمية عددًا من المستجدات والأحداث كان لها صداها الكبير في إعادة ترتيب الأوراق، حيث وجدت القوى الإقليمية نفسها منساقة نحو ترتيبات لم يمهَّد لها، ولو على حساب مواقفها الراهنة.
وكان التغيُّر الذي شهدته الإدارة الأمريكية، حيث الإطاحة بإدارة دونالد ترامب (الداعم الأكبر لهذا التحول الدراماتيكي في قواعد اللعبة في الشرق الأوسط)، ومجيء الإدارة الديمقراطية بقيادة جو بايدن في انتخابات 2020، على رأس تلك التغيرات المؤثرة.
فسيّد البيت الأبيض الجديد له مواقف إزاء الخليج مغايرة تمامًا لما كانت عليه تحت ولاية ترامب، فضلًا عن استراتيجية الانسحابات من المنطقة ورفع غطاء الضمانات الأمنية الذي كانت توفّره واشنطن لحلفائها في دول الخليج، بجانب ميلها النسبي نحو الحوار مع طهران وإعادة الاتفاق النووي لطاولة المفاوضات مرة أخرى.
أعقبت ذلك الحرب الروسية الأوكرانية التي انطلقت في 24 فبراير/شباط الماضي، والتي ألقت بظلالها القاتمة على الخارطة الدولية بأكملها، فقادت إلى تغيرات واضحة في خارطة التحالفات وأحدثت سيولة كبيرة في معادلات التوازن الإقليمية، بجانب الهزّة الكبيرة التي شهدها سوق الطاقة الذي يتلامس مع مصالح دول الشرق الأوسط جميعها، الحلفاء والخصوم.
وهنا وجدت القوى الإقليمية نفسها في مأزق لا تُحسد عليه، أزمات اقتصادية واضطرابات داخلية، وحرب ضروس لا يُعرف متى تنتهي، وسياسة أمريكية غامضة إزاء دول المنطقة، وتمدُّد النفوذ الإيراني ومعه الإسرائيلي، كل ذلك دفع الجميع للعودة خطوة للوراء لإعادة النظر إلى المشهد بصورة بانورامية أوسع وأكثر شمولًا، ومن ثم كان القرار نحو تبنّي سياسة “تصفير الأزمات” وتنحية الخلافات جانبًا، من أجل بناء وبلورة موقف إقليمي واحد في مواجهة تلك التحديات التي لا يمكن لقوة واحدة مواجهتها بمعزل عن البقية.
سياسة تصفير الأزمات
أيقنت تركيا ودول الخليج ومصر أنه لا رابح في استمرار حالة العداء، وأن التطورات الأخيرة تتطلب توحيد الرؤى والجهود لعبور المرحلة الحرجة التي تفرض نفسها على الشرق الأوسط، والتي يتوقع أن يكون لها تأثير قوي في إعادة التموضُعات الإقليمية والدولية مستقبلًا.
وبمنطق براغماتي بحت، بدأت قنوات الاتصال تُفتح بين أنقرة والرياض وأبوظبي والقاهرة، البداية كانت مع استقبال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لرئيس مجلس الأمن الوطني الإماراتي، طحنون بن زايد، في أنقرة في أغسطس/ آب 2021، سبقتها عدة اتصالات هاتفية تُوّجت بزيارة محمد بن زايد إلى تركيا في نوفمبر/ تشرين الثاني العام الماضي، ليردَّ عليها الرئيس التركي بزيارة إلى أبوظبي في فبراير/ شباط 2022.
اليونان ستكون الخاسر الأكبر من وراء التقارب التركي العربي، لكن ليس معنى ذلك إحداث القطيعة الكاملة بين أثينا والرياض وأبوظبي والقاهرة
وبالتوازي مع التقارب التركي الإماراتي، فتحَت أنقرة خط اتصال دبلوماسي مع الرياض، حيث زار أردوغان المملكة في أبريل/ نيسان 2022، قوبلت بزيارة ولي العهد، محمد بن سلمان، لتركيا في 22 يونيو/ حزيران الجاري، ليفتح البلدان صفحة جديدة من العلاقات تطوي الصفحة القديمة التي تلطّخت بالعديد من الملفات الشائكة وساهمت في توتير الأجواء بين البلدَين، أبرزها ملف المعارض السعودي جمال خاشقجي الذي قُتل في إسطنبول في أكتوبر/ تشرين الأول 2018.
وفي السياق ذاته، خطت أنقرة خطوات إيجابية متقدمة نحو تطبيع العلاقات مع القاهرة، وهي العلاقات التي دخلت نفقًا مظلمًا من التوتير منذ ثورة يناير/ كانون الثاني 2011، حيث ارتأى الجانبان تنحية الخلافات السياسية جانبًا والتعويل على الاقتصاد كأرضية مشترَكة بجانب التنسيق المتبادل في العديد من الملفات، ورغم أن العلاقات لم تصل بعد لمستوى التطبيع الكامل لكنها تسير في هذا الاتجاه، وإن كان بصورة بطيئة نسبيًّا عمّا هي عليه مع الرياض وأبوظبي.
هل تدفع اليونان ثمن التطبيع التركي العربي؟
يقينًا، إن التطبيع التركي العربي سيُفقد اليونان مرتكزها الأساسي نحو تقاربها مع الخليج ومصر، ومن ثم إن العلاقات بينهما ما قبل التطبيع لن تكون كما بعده، وهو ما سينعكس ترجيحًا على نفوذها وثقلها الإقليمي والمكتسبات التي حقّقتها خلال السنوات الخمس الماضية.
ويرى مركز الفكر الاستراتيجي (مستقل)، الذي يتخذ من إسطنبول مقرًّا له، في دراسة له، أن موقف الخليج من التقارب مع اليونان ينطلق من خلال محورَين اثنين، الأول خاص بالتنافس بين تلك الدول وتركيا ورغبتها في ممارسة دور إقليمي أكثر نفوذًا، والثاني يتمحور حول الرغبة في تنويع خارطة التحالفات في المنطقة، ومن ثم إن المحورَين فقدا جزءًا كبيرًا من ثقلهما بعد تطبيع العلاقات التركية الخليجية العربية.
وهنا يشير المركز إلى أن العلاقات اليونانية الخليجية ربما تكون مؤقّتة ببُعدَيها الأمني والسياسي، حيث تعزيز النفوذ ومناكفة تركيا إذا ما تطلب الأمر، لكنها ليست بالقوة ذاتها التي تؤهّلها للاستمرار، خاصة أن المضيّ قدمًا في مسارها الحالي الذي يتّخذ من خصومة تركيا مرتكزًا أساسيًّا لها، ربما يُفقد خطوات التقارب التركي العربي الكثير من جدواها، وهو ما يتجنّبه الطرفان في الوقت الراهن.
في ضوء ما سبق، ستكون اليونان الخاسر الأكبر من وراء التقارب التركي العربي، لكن ليس معنى ذلك إحداث القطيعة الكاملة بين أثينا والرياض وأبوظبي والقاهرة، فهناك العديد من المصالح المشتركة التي ربما تبقي على تلك العلاقة لكن في إطار أضيق نسبيًّا ممّا هي عليه الآن، وعلى كل حال ستكون ورقة جاهزة يمكن الاستعانة بها كلما زادت الهوّة بين تركيا ودول الخليج.