مرة أخرى تحاول دولة قطر التأكيد على دبلوماسيتها الخارجية الفاعلة، فبعد نجاحها في اختبار اتفاق السلام بين الولايات المتحدة وحركة طالبان في فبراير/ شباط 2020، تعود من جديد إلى واجهة الدبلوماسية العالمية، لتحتضن حوارًا غير مباشر بين الولايات المتحدة وإيران لحل القضايا العالقة بينهما، والتوصُّل إلى تفاهم حول الاتفاق النووي الذي عجزت 8 جولات تفاوضية بين إيران والقوى الكبرى على حلّها في فيينا.
حيث ذكرت وكالة “تسنيم” التابعة للحرس الثوري أن الجولة الأولى من المحادثات غير المباشرة بين الولايات المتحدة وإيران في الدوحة انتهت دون أن تسفر عن نتائج، في حين ذكرت وكالة “إرنا” الرسمية الإيرانية أن المنسّق الأوروبي لمحادثات فيينا، إنريكي مورا، يواصل تبادل الرسائل في الحوار بين الجانبَين.
وقالت الوكالة إن “الإصرار الأمريكي على مشروع مقترح في سابع جولات محادثات فيينا، تسبّب في عدم توصل المحادثات إلى نتيجة في هذه الجولة”، وأضافت: “لا يشمل (المقترح) ضمانات للمزايا الاقتصادية للاتفاق النووي الذي عُقد في أبريل/ نيسان 2015”.
ورغم البيان الذي أصدرته وكالة “تسنيم”، إلا أن رئيس الوفد التفاوضي الإيراني، علي باقري كني، قد نشر تغريدة على تويتر، أظهر فيه تناقضًا مع بيان الوكالة، وأشار إلى أن محادثات الدوحة لا تزال جارية، ورغم أنه كان من المقرَّر أن تنتهي الليلة، إلا أن وزارة الخارجية قررت أن عليها إبقاء المحادثات مستمرة لأطول فترة ممكنة، وقد يكون لـ”تسنيم” أولويات مختلفة.
رؤية قطرية لعمق الأزمة
تدرك قطر أهمية التوصُّل إلى تفاهم أمريكي إيراني قبل زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للشرق الأوسط في منتصف شهر يوليو/ تموز المقبل، خشية أن ترافق هذه الزيارة ردود أفعال إيرانية غير متوقعة، فقد تكون المحادثات الجارية في الدوحة هي الفرصة الأخيرة للأطراف للتوصُّل إلى اتفاق قبل أن يصبح الاتفاق النووي غير ذي صلة، حيث اتخذت إيران في الآونة الأخيرة خطوات لتعزيز برنامجها النووي، والحدّ من عمل مفتّشي الأمم المتحدة.
وفي سياق ما تقدّم، أشار الوفد التفاوضي الأمريكي إلى أن الولايات المتحدة رفضت إعطاء إيران “ضمانات بشأن الفوائد الاقتصادية لإيران” من الصفقة، على اعتبار أن هناك عقوبات مفروضة على إيران لا علاقة لها بالاتفاق النووي، كما أن إيران في الوقت الذي تتفاوض فيه مع الوفد التفاوضي الأمريكي برئاسة المبعوث الأمريكي لشؤون إيران، روبرت مالي، لا تظهر أي بوادر حسن نية بشأن مستويات تخصيب اليورانيوم أو التصاعد الكبير في أجهزة الطرد المركزي.
وعقب انتهاء الجولة الأولى للمحادثات، أصدرت الخارجية الأمريكية بيانًا أوضحت فيه أن المحادثات “مستمرة”، وقالت: “كما أوضحنا نحن وحلفاؤنا الأوروبيون، نحن على استعداد لإبرام وتنفيذ الاتفاق الذي تفاوضنا عليه في فيينا على الفور، من أجل العودة المتبادلة إلى التنفيذ الكامل للاتفاق النووي”، لكن من أجل ذلك تحتاج إيران إلى أن تقرر التخلي عن مطالبها الإضافية التي تتجاوز الاتفاق.
قطر والتحولات الإقليمية الجديدة
تنظر دولة قطر إلى أن التحولات الإقليمية الجديدة التي تشهدها المنطقة قد تنعكس سلبًا على الأمن والاستقرار فيها، فهناك عملية إعادة تموضع إقليمي للعديد من القوى الإقليمية، كالسعودية ومصر والأردن وتركيا، وهي تموضعات بدأت تجدُ طريقها بشكل أو آخر بالضدّ من إيران وحلفائها.
وعلى ما يبدو إن السعي القطري لإيجاد حل سريع لأزمة الاتفاق النووي بين الولايات المتحدة وإيران، يمكن أن يسهم بطريقة أخرى في إعادة تعريف إيران في المنظور العربي والإقليمي، وإمكانية تحولها لطرف غير مهدِّد لدول الخليج على أقل تقدير.
وتحاول قطر من جهة أخرى ألّا تعطي لمشروع التطبيع العربي مع “إسرائيل” أكثر من مسوغ، من منطلق العداء مع إيران، إذ كان من الواضح منذ الجولة الأولى للمحادثات أن الولايات المتحدة لن تصل إلى نتيجة، بل يمكن القول إن الولايات المتحدة تريد أن تعطي تصوّرًا واضحًا لدول الخليج المترددة من مشروع التطبيع أو الشراكة الأمنية مع “إسرائيل”.
كما تريد الولايات المتحدة أن تعطي مبررات قوية قبل زيارة بايدن وقمة الرياض المرتقبة، بأن رؤية بايدن بتشكيل مظلة أمنية تجمع “إسرائيل” ودول الخليج هو الحل الوحيد لردع ايران، وأن الدبلوماسية لن تؤدي إلا إلى هدر مزيد من الوقت والجهود.
ترفض إيران تقديم ضمانات بخفض أنشطتها الإقليمية، كما ترفض التراجع عن تهديدات الثأر لقاسم سليماني، ما يجعل مستقبل المحادثات بين الطرفَين في الدوحة تكتنفها درجة كبيرة من عدم اليقين
تسعى قطر، التي تتمتّع بعلاقات أفضل مع طهران من معظم الدول الخليجية، إلى أن تكون مركزًا دبلوماسيًّا رئيسيًّا في حال استمرَّ توقف المحادثات في فيينا، فعلى ما يبدو إن القراءة القطرية نابعة بالأساس من أن أصل المشكلة هو بين الولايات المتحدة وإيران، أكثر من كونها مشكلة بين إيران والمجتمع الدولي، إذ إن معظم العقوبات المفروضة على إيران هي أمريكية.
كما أن التهديد الوحيد الذي تشعر به إيران هو من الوجود الأمريكي في المنطقة، وبصورة مقابلة فإن معظم الاستهدافات التي تتعرض لها المصالح الدولية في المنطقة هي أمريكية، وعلى هذا الأساس جاءت القناعة القطرية بأن التوصُّل إلى حلّ مباشر بين الجانبَين الأمريكي والإيراني، يمكن أن يشكّل مدخلًا للحل بين إيران والمجتمع الدولي.
المشكلة الأكثر تعقيدًا هي أن مسألة غياب الثقة بين الطرفَين يمكن أن تعقّد أي جهد دبلوماسي على حل المعضلة بينهما، ففي الوقت الذي ترفض فيه الإدارة الأمريكية منح ضمانات للجانب الإيراني بعدم تكرار الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي مرة أخرى، إذا ما تولّى أحد الجمهوريين الرئاسة في الانتخابات الرئاسية المقبلة، فإنه بالمقابل ترفض إيران تقديم ضمانات بخفض أنشطتها الإقليمية، كما ترفض التراجع عن تهديدات الثأر لقاسم سليماني، ما يجعل مستقبل المحادثات بينهما في الدوحة تكتنفها درجة كبيرة من عدم اليقين.