على مدار عدة أعوام، ظلت مكتبات البوسنة هدفًا عسكريًا بالنسبة للقوات الصربية خلال فترة التسعينيات، إذ لم تتوان الأخيرة عن حرق وتدمير آلاف الكتب والمخطوطات والوثائق والأبحاث، ومثلما ظهرت بطولات البوسنيين في الدفاع عن حياتهم، كذلك ظهرت بطولاتهم في الدفاع عن تراثهم، والحفاظ على الذاكرة المجتمعية للأمة.
وفي هذا المقال سوف نسرد قصة رجل خاطرَ مع رفاقه بحياتهم وسط الرصاص والقنابل، من أجل عزمهم على إنقاذ إرث الكنوز الثقافية والعلمية لمكتبة الغازي خسرو، والتي لا يمكن تعويضها.
صناديق الموز
في وسط ما شهدته مكتبات البوسنة من إبادة مرعبة، واستهداف الصرب بشكل متعمّد للأمناء والعاملين في المكتبات، كان هناك ثلة من الشجعان بقيادة المدير السابق لمكتبة الغازي خسرو، الدكتور مصطفى ياهيتش، والذي ظلَّ طوال سنوات الحرب والحصار قلقًا على الكتب والمخطوطات، حيث يقول: “حماية مكتبة ليست بالمهمة السهلة، خاصة في زمن الحرب”.
لقد أدرك ياهيتش منذ البداية أن هذه الحرب التي شنّها الصرب على البوسنة هي بالأساس حربًا على الهوية، وأن من الأهداف الرئيسية للصرب تدمير ذاكرة الشعب البوسني المتمثلة في مكتباته، ومحو الوجود الحضاري الإسلامي في البلقان، لذا شعرَ ياهيتش أن عليه التحرك سريعًا لإنقاذ ذكريات الأجيال خلال الأعوام الماضية، والمتمثلة في مكتبة الغازي خسرو.
فمنذ أن رأى حرق الصرب للمكتبة الوطنية بالكامل، ثم قصف المعهد الشرقي، ما أدّى إلى تدمير مخطوطات لا تقدَّر بثمن، شعر ياهيتش أن الدور قادم على مكتبته المتبقية من المحرقة في سراييفو، وأنها سوف تلقى نفس مصير المكتبات الأخرى لا محالة، ولم يَخِب ظنّ الرجل، فقد تعرضت مكتبة الغازي خسرو للقصف عام 1992.
كان والد ياهيتش يتمنّى أن يدرس ابنه العلوم الإسلامية، وأن يعيش محاطًا بالكتب، ولذلك أدرك ياهيتش منذ صغره أن حماية الكتب والمخطوطات واجب لا يقلّ أهمية عن واجب حماية الوطن وحياة الناس، صحيح أن المخاطرة بالحياة من أجل كومة من الكتب والمخطوطات القديمة مفهوم ومعنى غريبان لدى الكثير من الناس، ولذلك يقول ياهيتش: “مقارنة الكتب والمجلدات بالناس قد تبدو غريبة، ولكن يمكن القول إن الكتب هي ماضينا وجذورنا، ومن دون الماضي سنفقد هويتنا، ولن يكون لنا حاضر أو مستقبل”.
اعتبرَ ياهيتش أن الحفاظ على التراث الثقافي والعلمي أهم من الحفاظ على الحياة، لأننا إذا متنا سيأتي من بعدنا آخرون، أما إذا تمَّ تدمير التراث فلن نستطيع أن نعوّضه، وبالتالي كان ياهيتش على استعداد لتحمّل المخاطر من أجل الحفاظ على التراث الثقافي المتبقي، حيث رأى أن حفظ كتاب واحد أصبح بمثابة إنقاذ حياة بشرية، ويعقب ياهيتش: “إن موت شخص أو أكثر هو بلا شك أمر جَلَل، لكنه بالتأكيد أهون من تدمير الهوية، والتي تعني موت الشعب بأكمله”.
كانت مكتبة الغازي خسرو هي المنزل الأساسي للدكتور مصطفى ياهيتش، والذي شغل منصب مديرها منذ عام 1983، ثم في بداية الحرب كان ياهيتش يبلغ من العمر 38 عامًا، ولحفظ المكتبة من أن تلاقي مصير المكتبات الأخرى، عملَ أولًا على تشكيل فريق من الأشخاص الجديرين بالثقة، وأيضًا القادرين على الاختباء والجري السريع تحت رصاص القناصة.
وكان الفريق الذي شكّله ياهيتش صغيرًا جدًّا، لا يتعدّى الـ 10 أشخاص، مكوّن بالأساس من بعض العاملين في المكتبة، من ضمنهم جوهرة دودو عاملة النظافة، وعباس لوتومبا الحارس الليلي من الكونغو، والذي اعتبر أن الموت مع الكتب أفضل من العيش من دونها.
ثم كانت خطة ياهيتش في العمل على نقل الكتب الهامة والمخطوطات القديمة أولًا إلى أماكن أخرى عديدة أكثر أمانًا، وخوفًا من أن يكشف الصرب أمر نقل الكتب والمخطوطات، حيث لم تكن هناك وسيلة آمنة لنقل الكتب، إذ كان الصرب يستهدفون الكتب والمكتبات كأهداف عسكرية، عندها فكّر ياهيتش في تخبئة الكتب في صناديق الموز خوفًا من أن يكشف أمرها الصرب ويحرقوها، وأصبحت بعد ذلك طريقة شائعة لتخزين الكتب ونقلها في معرض الكتاب في الهواء الطلق في سراييفو.
لكن أثناء عملية النقل جذبت صناديق الموز انتباه بعض سكان المدينة الجياع، حيث ظنَّ البعض أن العاملين في المكتبة يقومون بتهريب الموز في الوقت الذي لم يجدوا هم فيه الخبز، ويعقب ياهيتش: “أثناء نقل الكتب في صناديق الموز استوقفنا شباب من الشوارع، وقالوا لنا: “معكم موز ونحن ليس لدينا حتى الخبز”، فأرادوا سرقتها منا، ولكنهم أصيبوا بخيبة أمل عندما رأوا أن الصناديق مليئة بالكتب القديمة”.
كانت عملية نقل الكتب نفسها محفوفة بالمخاطر، فالجيش الصربي والجواسيس يبحثون عنهم في جميع أنحاء المدينة، إضافة إلى استمرار القصف الروتيني اليومي لجميع أنحاء البوسنة، وأيضًا نيران القناصة المنتظرين عبور المارّة لاصطيادهم.
وبسبب ذلك كان ياهيتش يتحيّن فرصة الهدوء النسبي وقت المغرب أو الليل أو الفجر لنقل الكتب والمخطوطات، منحنيًا في الطرقات، معانقًا صندوق الكتب، وماشيًا لمسافات طويلة دون أي وسائل نقل، وقد استطاع مع فريقه نقل الكتب والمخطوطات الأكثر قيمة على 8 مرات، ومن مخبأ إلى مخبأ، كان يتمّ تغيير مكان الكتب باستمرار كل 6 أشهر طوال سنوات الحرب والحصار، تجنّبًا لخطر معرفة مكانها ثم استهدافها.
ونقل ياهيتش مع رفاقه أثمن المخطوطات، مثل الغزالي والمخطوطات النادرة الأخرى، إلى قبو بنك بريفريدنا وسط المدينة، حيث وضع فيه أكثر من 500 مخطوطة، أما بقية المخطوطات فقد تبدّل مكانها بين قبو مسجد السلطان محمد الفاتح، ومدرسة كرسوملي على الجانب الآخر من النهر، ثم غرفة تبديل الملابس في المسرح الوطني، ثم إلى الفصول الدراسية في مدرسة البنات غير البعيدة عن مكان إدارة الإطفاء، وفي أماكن أخرى، ويعقب ياهيتش: “كان عبور الجسر لنقل الكتب أمرًا خطيرًا للغاية، فخلف الجسر يقع جبل شاهق يتمركز عليه قناصة الصرب، لذا كنا نعبر الجسر بأسرع ما يمكننا، ولم نعبره سويًا أبدًا، بل واحد تلو الآخر”.
لقد كان ياهيتش دائم القلق على محبوبَين في حياته، عائلته والمخطوطات، ورغم أن بيته الذي يسكن فيه في منطقة كوبلا غلاوة كان قريبًا جدًّا من خطوط العدو بحوالي 500 متر، وكانت عائلته تضطر للاختباء في القبو معظم الوقت، إلا أن ياهيتش كان يودّع عائلته يوميًا ويخاطر بحياته من أجل الكتب، فقد كان يشقّ طريقه يوميًا -نحو 7 كيلومترات- ذهابًا وإيابًا على قدمَيه إلى مكان الكتب كي يطمئنّ عليها من القصف والحرق، وكان يسلك طرقًا صعبة ويتسلل إلى المقابر ليحتمي بشواهدها من خطوط النار.
كما يذكر أنه كان لا يحتمي خلف شواهد قبور المسلمين لأنها نحيفة، وبدلًا من ذلك كان يحتمي خلف شواهد القبور المسيحية العريضة والمسطحة لساعات، والتي وفّرت له غطاءً من وابل رصاص القناصة نحوه، حيث يحكي أنه في كل مرة يعبر فيها كان يستهدفه أحد القناصة من التلال التي تمركزوا فيها، ويعقب: “قبور المسلمين لا تستخدم كثيرًا للاختباء خلفها عندما يطلق القناصة النار، فهي نحيفة للغاية وبيضاء، لذلك كنت أركض باتجاه الأجزاء الأرثوذكسية والكاثوليكية من المقبرة، تلك القبور أنقذت حياتي”.
صاحب همّة مبصِر
حين شعر ياهيتش أنه فعلَ ما بوسعه، ظلَّ يدعو الله يوميًّا أن يحافظ على المخطوطات، ويعقب: “حين تدرك أنه لا شيء أخر يمكنك فعله، كل ما يتبقى لك هو الدعاء لطلب المساعدة من الله”.
ومع كل هذا التدابير التي اتّخذها ياهيتش، إلا أنه كان دائم القلق على المخطوطات المخبّئة بسبب قصف الصرب لأي مبنى في المدينة، فأثناء الحرب كان القصف العشوائي يأتي على مختلف المناطق، ولم يكن هناك أي مكان في مأمن من القذائف الصربية، ولذلك فكّر ياهيتش في تصوير المخطوطات وقت الحرب، ولكنه اصطدم بأن البوسنة لا توجد فيها معدّات حقيقية مناسبة، فضلًا عن أنها لم تكن تملك ساعتها جهاز ميكروفيلم.
إلا أن ياهيتش لم يستسلم، وتمكّن بمساعدة من الجيش البوسني من تهريب معدّات وجهاز تصوير ميكروفيلم، تمَّ تهريبه عبر “نفق الحياة” الذي حفره المدافعون عن المدينة أسفل مطار سراييفو لنقل الطعام والإمدادات إلى سكان العاصمة المحاصرين، وبلغ طول النفق 700 متر وارتفاعه 1.60 مترًا.
وبمساعدة فني ميكروفيلم وطاقم المكتبة، بدأ ياهيتش بتصوير المخطوطات خلال الحرب، ورغم كل الصعوبات التي واجهته من الانقطاع المتكرر للكهرباء الذي كان يستمر لأيام، إلا أن ياهيش الذي لم يعدم الحيلة فكّر في استخدام بطاريات السيارات لتوليد الطاقة كلما انقطعت الكهرباء، ويعقب: “خلال فترة الحرب، كنت أحاول إنقاذ عائلتي والمكتبة… لقد أصبحت أحب الكتب كثيرًا، ومن الصعب أن أتحدث عنها الآن من دون عاطفة كبيرة”.
وعندما انتهت الحرب عام 1995، واصل ياهيتش العمل على رقمنة وفهرسة كل موضوعات مكتبة الغازي خسرو، وتمَّ الانتهاء من مشروع فهرسة المخطوطات الشرقية والإسلامية، وقد بلغت 18 مجلدًا من الفهارس، كما تمَّ تصوير جميع محتويات المكتبة على ميكروفيلم و”سي دي” عن طريق التصوير الرقمي.
لقد نجح ياهيتش ورفاقه في الحفاظ على إرث مكتبة الغازي خسرو وذاكرة البوسنة، كما أن ياهيتش لم ينقذ مخطوطات البوسنة فقط، بل حفظ جزءًا من تاريخ وتراث الثقافة الإسلامية والعربية، حيث يوجد بالمكتبة حوالي 60% من المخطوطات باللغة العربية، و30% باللغة التركية، والباقي باللغة الفارسية والبوسنية المكتوبة بالأبجدية العربية.
لكن الأهم من كل ذلك أن ياهيتش عملَ على ضمان إمكانية وصول الطلبة والباحثين إلى محتوى مكتبة الغازي خسرو على مستوى العالم، حيث إن جميع مقتنيات المكتبة مفهرسة في شكل إلكتروني، ومتاحة للبحث والاستخدام، دون أن يضطر الباحثون والطلبة الحضور شخصيًّا إلى المكتبة.
وتقديرًا للمجهودات التي قام بها ياهيتش، وبالأخص ما قام به في فهرسة المخطوطات العربية والتركية والبوسنية والفارسية، فقد تمَّ تكريمه في يناير/ كانون الثاني 2002 من قبل مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، كما نالَ في يناير/ كانون الثاني 2004 جائزة من وزارة الثقافة البوسنية لمساهمته في الحفاظ على التراث الثقافي للبوسنة والهرسك، إضافة إلى جائزة العمل المتميز في مجال المخطوطات الإسلامية.
من الحزن والخوف إلى الفرح والعزّة
يعتبر ياهيتش أنه من المهم العودة إلى التراث الثقافي من أجل بناء مستقبل حيوي وأكثر إشراقًا، لذلك رأى ياهيتش أنه من المهم توسعة المكتبة بعد أن دمّرَ الصرب المبنى القديم أثناء الحرب، حيث قامت المشيخة الإسلامية بالبوسنة، وبتمويل من دولة قطر التي ساهمت بمبلغ 9 ملايين دولار، ببناء مبنى جديد لمكتبة الغازي خسرو بك، استغرق بناؤه 10 سنوات، وهو موجود بالقرب من مبنى المكتبة الأصلي التي أنشأها المؤسس.
وبعد الذكريات المؤلمة، تمَّ افتتاح مبنى مكتبة الغازي خسرو الجديد في يناير/ كانون الثاني 2014 في حضور جمع من المثقفين البارزين في البوسنة، والعديد من المفكرين والممثلين الدوليين.
ويمتدّ المبنى الجديد على مساحة 7 آلاف متر مربع في 3 طوابق، كما تحتوي على معمل لحفظ الكتب والمخطوطات وأجهزة لصيانة وترميم المخطوطات، ومتحف يضمّ مقتنيات تاريخية، وقاعات كبيرة للقرّاء وللمحاضرات، وكذلك موقع على شبكة الإنترنت فيه نسخ رقمية من المقتنيات، وبالتالي أصبحت مكتبة الغازي خسرو واحدة من أفضل المكتبات المتكاملة في أوروبا، وفي اجتماع الجمعية العامة لليونسكو في 30 أكتوبر/ تشرين الأول 2017 تمَّ إدخال مجموعة مخطوطات مكتبة الغازي خسرو بك في سراييفو في سجلّ “ذاكرة العالم”.
بدأت القصة عام 1537 وما زالت مستمرة إلى اليوم، حيث يأتي الطلاب والباحثين وعشّاق الكتب للاستفادة من محتويات المكتبة النفيسة، ومثلما لعبت المكتبة دورًا هامًّا في تعليم أهل البوسنة والهرسك لعدة قرون، فإنها تستمر اليوم رغم كل ما مرّت به للعب الدور القديم نفسه، حيث إنها تعدّ اليوم مصدرًا لا غنى عنه للبحث في تاريخ وتراث البوسنة الثقافي، ويعقب ياهيتش: “هذه المكتبة هي وقف ديني، هذه الأشياء أُعطيت باسم الله لمنفعة الجميع”.