ترجمة نون بوست
في أثناء تجديفه ناحية العوامة الفيروزية المبهجة على النيل، حيّى الصياد سيدة ذات شعر أبيض تقف على سطحها، قال الصياد للسيدة إخلاص حلمي – 88 عامًا -: “كيف تتماسكين؟”، فأجابت “لعل الله يخلصنا من الظالمين”.
ربما يكون هذا الأسبوع هو الأخير لها في تلك البقعة من النيل وسط القاهرة، حيث اصطفت تلك العوامات السكنية الخشبية على النيل منذ القرن الـ19 لتصبح بمثابة تقاليد حية، هذا الشهر أصدرت الحكومة قرارًا بإزالة عوامة السيدة حلمي و31 عوامة أخرى قائلة إنهم غير آمنين وغير مرخصين.
دُمر بالفعل نصف هذا العدد من العوامات المرتبطة ببر القاهرة من خلال حدائق خصبة على ضفة النهر، أو سُحبت بعيدًا كخردة، فقد اختفى 14 منها في يوم الثلاثاء وحده، ومن المتوقع أن يُسحب البقية ومن بينهم عوامة السيدة حلمي في أوائل يوليو/تموز.
برحيلهم سيختفي التاريخ اللامع، فعلى إحداهن كتب نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل إحدى رواياته، وفي أخرى صُورت أحداث فيلم شهير.
على ضفة النهر كانت الحياة هادئة وناسمة وخاصة، لا تشبه العاصمة المغبرة الهائجة في شيء، والتي استحوذت المنازل العائمة على خيالها لفترة طويلة.
تقول السيدة حلمي من عوامتها التي بنتها مع زوجها قبل 20 عامًا: “لقد وُلدت في إحدى العوامات ولا يمكنني الابتعاد عن النيل”، نشأت السيدة حلمي في عدة عوامات ثم انتقلت فترة قصيرة إلى شقة سكنية حيث تزوجت لكنها عادت سريعًا إلى النهر.
مضيفة “سأموت إذا اضطررت أن أعيش في شقة حقيقية، كيف يمكنكم أن تسجنونني بين 4 جدران؟”.
رغم أن الحكومة لم تقدم الكثير من المعلومات عن خطتها لضفة النهر، فإن السكان يقولون إن السلطات تتجه في السنوات الأخيرة لاستبدال العوامات السكنية بمطاعم ومقاه عائمة، يتماشى ذلك مع خطط الحكومة لتجديد وتحقيق دخل من معظم القاهرة بتسليمها إلى القطاع الخاص أو الجيش، فقد أزالت عدة أحياة تاريخية لبناء عمارات شاهقة وطرق وكباري.
لكن حتى في تلك البلاد التي تُسقط الدولة قبضتها القوية على المواطنين دون تحذير، اختفت تلك العوامات بسرعة مثيرة للقلق، حاول حكام مصر السابقين لعقود نقل تلك العوامات لكن أصحابها تمكنوا من التفاوض مع السلطات.
خلال الخمس سنوات الماضية رفعت الحكومة الرسوم وغيرت اللوائح عدة مرات حسب أقوال السكان، وفي النهاية توقفت عن تجديد أو إصدار تراخيص جديدة قبل عامين.
وصل خطاب للسكان العام الماضي يشير إلى أن الحكومة ستصدر تراخيص جديدة للعوامات التجارية فقط، ومع ذلك كان السكان يأملون في تأجلّ الأمر وفقًا لتجاربهم السابقة، والآن يستخدم المسؤولون حجة عدم وجود تراخيص لتبرير الهدم، رغم أن السكان أكدوا أن السطات هي من رفضت تجديد التراخيص.
قال أيمن أنور رئيس الإدارة المركزية لحماية النيل في مكالمة تليفزيونية: “إنهم يجلسون هناك دون نظام حماية”، محذرًا من أن هذه العوامات قد تغرق أو تصطدم بشيء وتقتل السكان، وأضاف “إنهم لا يملكون أي رخصة من حتى جهة حكومية واحدة”.
كما أشار إلى أن إحدى السكان تنتمى لحركة معارضة سياسية، وهو ما وصفه السكان بمحاولة لتخفيف التعاطف الشعبي، تقول السيدة أهداف سويف – الروائية التي تنتمي إلى أسرة مصرية بارزة تضم العديد من المثقفين والمعارضين – “إنه أمر مدبر، لكنني لم أتوقع أبدًا أن يحدث في الحقيقة”، وأضافت سويف أنها تلقت الأسبوع الماضي طلبًا بدفع رسوم ترخيص متأخرة قدرها 50 ألف دولار بالإضافة إلى أمر الهدم.
تقول السيدة سويف: “لقد سارت الأمور في نفس الاتجاه منذ 40 عامًا، والآن يقولون فجأة إنها غير قانونية”، اشترت سويف عوامتها كريمية اللون وأصلحتها قبل عقد من الزمان معتقدة أنها ستكون بيتها الأخير.
تضيف السيدة سويف “إنهم مثل حلم رومانسي، فهم جزء من تراث القاهرة، وكان غريبًا أن يخبرني أحدهم أنني أستطيع أن أشتري إحداهن يومًا ما”.
لكن التراث الذي تمثله تلك العوامات ليس التراث الذي تود الحكومة الإعلان عنه، وهو ما يفسر تبرير السلطات لعمليات الهدم التي استهدفت العوامات قائلة إنها تُستخدم لأغراض غير أخلاقية.
منذ بداية القرن الـ19، قيل إن المسؤولين العثمانيين الكبار الأغنياء الملقبين بالباشاوات استخدموا تلك العوامات للقاء عشيقاتهم، كانت العوامات تشع بنوع من السحر الآثم.
ولابتعادها عن صخب القاهرة، كانت العوامات أماكن خاصة تطفو على سطح المياه العذبة، لتوفر لبعض سكان القاهرة ملاذًا يمكنهم تناول المخدرات فيه والاختلاط بحرية في قلب المدينة المحافظة.
ألقى الغرباء نظرة خاطفة على تلك العوامات في روايات نجيب محفوظ الذي كان يملك واحدة قرب شقته، ففي رواية “ثرثرة فوق النيل”، يجتمع القاهريون الساخطون في إحدى العوامات يدخنون الحشيش ويناقشون نفاق العصر، وفي رواية “ثلاثية القاهرة” الشهيرة، يقضي رب الأسرة الصارم أمسياته مع أصدقائه في عوامة ويتمتعون برفقة المغنيات الخياليات جليلة وزبيدة وزنوبة.
بحسب التقاليد المحلية، كانت اجتماعات مجلس الوزارء تتم في إحدى العوامات التي تملكها المغنية الشهيرة منيرة المهدية في العشرينيات، كما قيل إن عوامة المغنية بديعة مصابني كانت شهيرة بين نخبة القاهرة، حتى إن الشائعات تقول إن الحكومة شُكلت على متنها في هذا الوقت.
في ذلك الوقت، كان هنا على الأقل 200 عوامة على سطح النيل، وفي عهد الرئيس جمال عبد الناصر نُقل بعضها لإفساح المجال للرياضات المائية وفقًا لما قاله وائل وكيل – 58 عامًا – الذي وُلد ونشأ في العوامة التي يعيش فيها حتى اليوم.
رست نحو 40 عوامة حينها حيث تقف الآن بجوار حي الكيت كات، الذي سُمي على اسم ملهى ليلي اشتهر في الحرب العالمية الثانية بين جنود الحلفاء.
في أثناء الحرب، صادر الضباط البريطانيون العديد من تلك العوامات، وفي فيلم “المريض الإنجليزي” قام مكتشف الصحراء المجري الكونت لازلو ألماسي بزرع جاسوسين ألمانيين في إحدى عوامات تلك المنطقة بمساعدة راقصة شرقية.
عبر السنين، تحولت المزيد من العوامات السكنية إلى أعمال تجارية، وأصبحت ضفة النيل التي كانت مفتوحة أمام العامة، مزدحمة بالنوادي الخاصة والمقاهي.
أوضحت السطات تمامًا أنها تريد المزيد من ذلك، فقد قال أصحاب العوامات إنهم أخبروهم أن بإمكانهم دفع 6500 دولار للرسو في مكان آخر مؤقتًا مع تقديم رخصة تجارية لافتتاح مقهى أو مطعم في منازلهم السابقة، لكنهم يقولون إنه خيار غير عادل.
تقول نعيمة محسن – مدرسّة مسرح، 50 عامًا – التي عاشت في إحدى تلك العوامات 3 عقود: “إنهم يدمرون الماضي، ويدمرون الحاضر والمستقبل أيضًا، أرى ما يحدث جريمة ولا يمكن لأحد إيقافها، إنهم يسلبون حياتنا كما لو كنا مجرمين أو إرهابيين”.
اليوم، يملك بعض هذه العوامات سياسيون ورجال أعمال وبعض البوهيميين، بينما لا يزال بعضها مملوكًا لمصريين من الطبقة المتوسطة الذين لا يعرفون حياة أخرى غيرها.
يقول السيد وكيل إن أسرته انتقلت إلى العوامة عام 1961، ويتذكر أنه نشأ وهو يصطاد من فوق سطحها، وعندما تسقط لعبته في النهر، كان يقول سينقذها أحد المراكبية العابرين، والآن يحزم السيد وكيل – مدير مالي متقاعد – أمتعته ويستعد للانتقال إلى شقة تملكها زوجته في الصحراء، يقول: “لا شيء سيعوضنا عن ذلك”.
من داخل مكانها المفضل في العوامة – غرفة الملابس – حيث يستحم أحفادها، يمكن للسيدة سويف أن ترى شجرة المانجو في الحديقة على ضفة النهر التي لم تثمر منذ 4 أعوام، لكنها أنتجت هذا العام فجأة ما يبدو محصولًا وفيرًا.
لكن هذا النوع من المانجو لا يمكن قطفه قبل منتصف يوليو/تموز، وفي هذا الوقت، إذا لم يتغير أي شيء، ستكون قد رحلت هي وعوامتها.
المصدر: نيويورك تايمز