حقق الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في قمة الناتو المنعقدة في العاصمة الإسبانية مدريد، انتصارًا سياسيًا، حيث توصّلت أنقرة إلى اتفاق مع السويد وفنلندا بعد أن رفعت الفيتو القاضي بدخول الدولتَين إلى الناتو. وخلال أسابيع مضت أصرّت تركيا على موقفها الرافض لانخراط الدولتَين في حلف الشمال الأطلسي، قبل أن تحقّقا بعض الشروط لتركيا منها التوقف عن دعم “الإرهاب” المتمثل بحزب العمال الكردستاني.
وأعلن أردوغان سابقًا أن بلاده “لا تعتبر احتمال انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو إيجابيًّا، لأن الدول الإسكندنافية هي بيت ضيافة للمنظمات الإرهابية”، في إشارة إلى علاقة البلدين بالميليشيات الكردية المتمثلة بأكثر من فصيل على رأسها قوات سوريا الديمقراطية وحزب بي كي كي.
وأوضحت تركيا أنها تريد ضمانات أمنية من فنلندا والسويد في حال أرادتا تذليل العقبات أمام دخولهما إلى الناتو، وبالفعل هذا ما حصل، أعطت هلسنكي وستوكهولم ضمانات لأنقرة من أجل البدء بإجراءات الانضمام إلى حلف الناتو.
انتصار تركي
في التفاصيل، وقّعت تركيا مذكرة تفاهم مع السويد وفنلندا في مدريد، وذلك من أجل تعزيز التعاون بين تركيا والدولتَين الأوروبيتَين لمنع “أنشطة التنظيمات الإرهابية”، وقال بيان صادر عن الدول الثلاث إن “فنلندا والسويد ستتعاملان بسرعة مع طلبات ترحيل أو تسليم أشخاص مشتبه فيهم بتهم الإرهاب”، وذكر البيان أن “السويد وفنلندا ستبدآن التحقيق في أنشطة جمع الأموال وتجنيد مقاتلين لحزب العمال الكردستاني”.
وبحسب المذكرة التي وقّعت عليها الدول الثلاث، فإن فنلندا والسويد “ستلتزم بمنع أنشطة حزب العمال الكردستاني وكل المنظمات الإرهابية الأخرى وامتداداتها، وكذلك أنشطة الأفراد المرتبطين بتلك المنظمات الإرهابية”.
إضافة إلى ذلك تعهّدت هلسنكي وستوكهولم برفع حظر الأسلحة المفروض على تركيا، وكانت الدولتان قد حظرتا تصدير السلاح لتركيا إثر قيام الأخيرة بعمليات عسكرية ضد المسلحين الأكراد في سوريا خلال الأعوام الماضية.
ولم تقتصر المكاسب التركية على السويد وفنلندا، حيث أعلنت الإدارة الأمريكية دعمها لصفقة محتملة لبيع طائرات إف-16 للجيش التركي، بعد رفع أنقرة حق النقض “الفيتو” عن عضوية البلدَين في حلف “الناتو”، وقالت واشنطن إن “الولايات المتحدة تدعم تحديث تركيا لأسطولها من الطائرات المقاتلة، لأن في ذلك إسهامًا في أمن الأطلسي وبالتالي الأمن الأميركي”.
إثر الاتفاق، قال الأمين العام للناتو، ينس ستولتنبرغ، إن “السويد وفنلندا التزمتا بالتجاوب مع المخاوف الأمنية التركية، وجاهزتان للعمل مع أنقرة لتسليم الأفراد المشتبه فيهم بتهم الإرهاب”، مضيفًا أن “قادة الناتو سيدعون الدولتين للانضمام إلى عضوية الحلف”، وأشار ستولتنبرغ إلى أن “الباب أصبح مفتوحًا أمام انضمام فنلندا والسويد إلى الحلف، ووصف انضمامهما بأنه مهم للناتو برمّته”.
وقد أصدرت الولايات المتحدة الأمريكية بيانًا أبدت فيها تأييدها لما حصل من اتفاق بين الدول الثلاثة، وقالت إن “تركيا حصلت على ما تريده من المحادثات مع السويد وفنلندا”، وأضافت أن “واشنطن ترى أن الضوء الأخضر التركي لانضمام السويد وفنلندا إلى الحلف يعطي دفعًا قويًا للوحدة الغربية”، وأعلنت واشنطن أنها “تعمل مع الجانب التركي لتوضيح موقفه حيال عملية انضمام فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي”.
وفي إطار المكاسب التي حققتها تركيا من الدول الأوروبية، يقول الباحث في العلاقات الدولية محمود علوش لـ”نون بوست” إن “المكاسب التركية متعددة الأوجه، منها ما هو مرتبط بالتعهّدات التي قدمها البلدان بخصوص التعاون مع أنقرة في مكافحة الإرهاب ورفع القيود على صادرات الأسلحة، وأخرى مرتبطة بانتزاع إقرار من الغرب بأن الدعم الغربي لتنظيمات تصنفها أنقرة إرهابية بات مشكلة في العلاقات، في السابق كان الغربيون يتجاهلون هذه المظالم التركية ويعتقدون أن العلاقة يُمكن أن تمضي بأية حال، لكنّ الظروف تتغير الآن”.
ويشير علوش إلى أن “التسوية ستفتح الباب أمام نقاش بين أنقرة والغرب حول سبل إعادة تشكيل العلاقات على قاعدة جديدة تلبّي مصالح الطرفَين، تركيا دولة مهمة في حلف الناتو ولديها مصلحة في أن يكون الناتو قويًا، وهذه القوة تأتي أولًا من معالجة الخلافات بين أعضاء الناتو قبل أي شيء”.
وعلى ما يبدو، استفادت أنقرة من الحرب الروسية في أوكرانيا، إذ إن تركيا تقف في خط الوسط بين روسيا والمعسكر الغربي بقيادة أمريكا وأوروبا، ومن خلال الصراع في أوكرانيا تستفيد أنقرة حاليًّا بتحقيق شروطها التي لم تكن لتتحقق لولا حاجة أوروبا إلى استمالة أنقرة في هذه الحالات، وأتى ملف فنلندا والسويد ليفتح الباب واسعًا أمام تركيا لتحقيق كلمتها وإثبات قوتها مجددًا في حلف الشمال الأطلسي “الناتو”، والجدير بالذكر أن أنقرة لطالما خاضت خلافات مع الحلف بشأن عدّة قضايا.
جدّية تطبيق الاتفاق
إلى ذلك، صدرت بعد توقيع المذكرة بين البلدان الثلاثة تصريحات من وزير العدل التركي، بكر بوزداغ، قال فيها إن بلاده ستطالب فنلندا والسويد بتسليم 33 شخصًا إلى سلطات أنقرة، وبحسب الوزير إن هؤلاء الأشخاص ينتمون إلى حزب العمال الكردستاني وجماعة فتح الله غولن.
وقال الوزير في تفصيل هذا الرقم إنه “في إطار الاتفاق الجديد سنطلب من فنلندا تسليم 6 عناصر من حزب العمال الكردستاني و6 من جماعة فتح الله غولن، ومن السويد تسليم 10 عناصر من أتباع غولن و11 من حزب العمال الكردستاني”.
بدورها قالت رئيسة الوزراء السويدية، ماغدالينا أندرسون، إن بلادها ستكون في “حوار وثيق مع تركيا فيما يخصّ تسليم المجرمين”، مضيفة أنها “ستوضح لتركيا كيفية كفاحها ضد الإرهاب في إطار القوانين الدولية”.
وأكّدت أندرسون إن بلادها لن تسلمّ أي مواطن سويدي، قائلة إن “تركيا تطلب تسليم المجرمين، ولكن كما في السابق نحن في السويد نتبع القانون السويدي والاتفاقيات الدولية عندما يتعلق الأمر بتسليم المجرمين، لقد صرّحت اليوم بوضوح شديد: لن نقوم أبدًا بتسليم أي مواطن سويدي. وإذا كانوا غير متورطين في أنشطة إرهابية، فلا داعي للقلق”.
وهنا يقول الباحث محمود علوش إن “قضية تسليم المطلوبين قد تواجه بعض العقبات القانونية لا سيما في السويد، رغم التعهّدات بالعمل على تعديل قوانين مكافحة الإرهاب، إلا أن هذه التعهّدات ستصطدم على الأرجح بمعارضة شديدة في البرلمان السويدي”.
ولكن هل يتحقق تسليم المطلوبين؟ أو هل يستمرّ الاتفاق بين هذه الدول طويلًا؟ حيث إن لأنقرة عدة تجارب من الاتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي لكن هذه الاتفاقيات لا تتم على أكمل وجه، ومثال ذلك اتفاقية اللاجئين التي تمَّ عقدها بين تركيا والاتحاد الأوروبي في آذار/ مارس 2016، حيث تتّهم أنقرة الاتحاد بعدم الوفاء بتعهّداته لتركيا، وعدم تقديم الدعم المتفق عليه من أجل منع الهجرة غير النظامية من الأراضي التركية إلى أوروبا.
وفي حال لم تلتزم فنلندا والسويد بما نصّت عليه المذكرة، فإن تركيا قد تعود لعرقلة انضمام الدولتَين إلى الحلف، إذ إن إجراءات الانضمام تحتاج إلى سنة على الأقل، وفي هذا الوقت تستطيع تركيا اختبار جدّية الاتفاق المبرم.
وفي هذا السياق يقول الباحث في العلاقات الدولية محمود علوش: “تدرك أنقرة على الأرجح أن كل هذه التعهّدات قد لا تتحقق، لكن ما تسعى إليه بالدرجة الأولى هو دفع الغرب إلى تبنّي نهج مختلف معها عندما يتعلق الأمر بمكافحة الإرهاب”، ويشير إلى أن “عملية انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو ستستغرق وقتًا وتستلزم مصادقة برلمانات الدول الأعضاء عليها، وسيشكّل ذلك عامل ضغط على البلدَين لإظهار جدّيتهما في تنفيذ التعهّدات”.