ترجمة وتحرير: نون بوست
منذ الأيام الأولى للغزو الروسي لأوكرانيا؛ سرعان ما أصبح أحد أهداف موسكو الإستراتيجية الأولى واضحًا؛ حيث تقدمت صفوفها المدرعة على طول الساحل في محاولة للاستيلاء على الساحل الأوكراني وعزله عن البحر، فالاستيلاء على موانئ أوكرانيا من شأنه أن يخنق البلاد اقتصاديًّا في وقت تحتاج أوكرانيا فيه إلى الأموال لصد روسيا.
ولعدة أشهر؛ كانت روسيا متفوقة جزئيًّا، فقد تم الاستيلاء على اثنين من الموانئ التجارية الخمسة الرئيسية في أوكرانيا؛ وهما بيرديانسك، وماريوبول التي تم الاستيلاء على ما تبقى منه بعد حصار وحشي، ويقع كلاهما في الشمال الشرقي للبحر الأسود.
إن الملاحة التجارية التي تبحر من البحر الأسود في وضع جيد، ولها إمكانية الوصول الفوري إلى كل من البلدان المطلة على البحر الأبيض المتوسط وقناة السويس والأسواق خارجها.
وتمثل أوكرانيا 9 بالمئة من إنتاج القمح العالمي و15 بالمئة من إنتاج الذرة و44 بالمئة من صادرات زيت عباد الشمس العالمية، وربع القمح في بنغلاديش ومصر وإندونيسيا وباكستان يأتي من أوكرانيا.
لا يزال ميناء أوديسا الرئيسي للبلاد في أيدي الأوكرانيين، كما هو الحال في ميكولايف؛ حيث كان الميناءان يصدران 80 بالمئة من صادرات الحبوب الأوكرانية قبل الحرب، وفشلت محاولات روسيا للاستيلاء على هذه المراكز التجارية المهمة والأراضي المحيطة بها وتعثر تقدمها، وتواجه الوحدات الروسية الآن مقاومة متزايدة حيث شنت الوحدات الأوكرانية هجومًا مضادًا حادًا على القوات الروسية داخل وحول خيرسون وميكولايف؛ حيث تسعى كييف للاحتفاظ بالسيطرة على هذا القطاع الساحلي الجنوبي الحيوي.
لا تزال أوديسا وميكولايف وتشرنومورسك تعمل كموانئ لكن روسيا فرضت حصارًا لضمان عدم خروج الحبوب من البلاد؛ فقد تم تحذير الملاحة التجارية، وتم نشر ألغام بحرية في المياه المؤدية إلى الميناء، وتقوم السفن الحربية والطائرات المقاتلة الروسية بدوريات مستمرة في منطقة البحر الأسود.
جزيرة الثعبان
وبقي مفتاح هذا الحصار هو جزيرة الثعبان، وهي جزيرة صغيرة تقع على بعد 48 كيلومترًا قبالة سواحل أوكرانيا ورومانيا، وقد استولت عليها روسيا في الأيام الأولى للحرب. ومن الناحية الإستراتيجية، فإنها تتحكم في مياه الاقتراب إلى آخر ثلاثة موانئ تجارية متبقية في أوكرانيا، ويتم تسليحها بشدة من قبل روسيا.
لا توجد بحرية أوكرانية تقريبًا، وفي بداية الصراع كانت السفن الحربية الروسية تعمل بحصانة شبه كاملة، ولكن تغير كل ذلك عندما غرقت طراد الصواريخ الروسية الثقيلة موسكفا في 14 نيسان/أبريل؛ حيث تعرضت السفينة الحربية القوية – والتي كانت تعتبر فخر البحرية الروسية – للضرب والغرق بصاروخين من طراز نبتون مضادان للسفن على بعد 96 كيلومترًا (60 ميلًا) من أوديسا، وصاروخ نبتون مصنوع محليًا ويعتمد على تصميم روسي سابق، مع مدى يصل إلى 280 كم (174 ميلاً)، وتم تصميمه لينخفض إلى ما بين 3 أمتار و10 أمتار (10-33 قدمًا) فوق سطح البحر مع اقترابه من هدفه، مما يجعل من الصعب اكتشافه، زتم تصميم رأسه الحربي البالغ 145 كجم (320 رطلاً) لإغراق سفن تصل حمولتها إلى 5000 طن، لكن ضربتين على موسكفا تسببا في أضرار جسيمة لدرجة أنها غرقت في النهاية، مما أثار قلق البحرية الروسية التي سحبت سفنها الحربية من السواحل الأوكرانية؛ ومنذ ذلك الحين اكتسبت جزيرة الثعبان أهمية أكبر وتم تحصينها بشدة باستخدام أسلحة متطورة.
وتعتبر الجزيرة “قاهرة لا تقهر” حسب بعض المحللين، وتعج برادارات البحث، على الأقل خمسة أنظمة تور واثنان من أنظمة مكافحة الطائرات “بانتسير” ومخازن الوقود والذخيرة، وهي محمية بالخنادق والسدادات، وهو ما يجعلها الآن هدفًا يصعب جدًّا على الجيش الأوكراني تدميره.
العديد من الهجمات التي شنتها طائرات بدون طيار المسلحة الأوكرانية “تي بي 2” تسببت في أضرار ولكن تم أيضًا إسقاط العديد من هذه الأسلحة القيمة في هذه العملية، وأصبحت القوات الروسية المدججة بالسلاح في الجزيرة قادرة بشكل متزايد على صد الهجمات.
إنّ الوصول المتوقع لنُظم الأسلحة الهجومية مثل المدفعية بعيدة المدى ووحدات الدفاع الجوي من طراز إس -400 سيُمكّن روسيا من السيطرة على المجال الجوي فوق جنوب أوكرانيا، إضافة إلى الجزء الشمالي الغربي من البحر الأسود، وإنَّ إضافة سلاح المدفعية سيُمكّن الجزيرة أيضًا من العمل كقاعدة نارية يمكن من خلالها مهاجمة الأهداف البرية وتدميرها.
ومن خلال إدراكه التام لأهمية الموقع الاستراتيجي لجزيرة الأفعى، واصل الجيش الأوكراني هجماته التي ساهمت في إضعاف الوجود العسكري الروسي هناك، فقد تم إسقاط طائرة إمداد قوات مروحية وإعطاب موقع رادار واحد على الأقل، كذلك تم استهداف وإغراق قارب إمداد ينقل القوات والطعام وأنظمة دفاع جوي إلى الثكنة بواسطة صاروخ غربي من طراز “هاربون” وصل حديثًا، في محاولة لطرد القوات الروسية من الجزيرة.
لا تزال روسيا تسيطر على جزيرة الأفعى؛ حيث إن موقعها ودفاعاتها الثقيلة لا تزال شوكة في وجه أوكرانيا، وقد احتدمت المعركة بين الجانبين حيث تحاول أوكرانيا استعادة السيطرة على الجزيرة مع ضرب أهداف أخرى من أجل إخراج القوات الروسية.
التغييرات في التكتيكات البحرية
في يوم 20 حزيران / يونيو، تعرضت منصة نفطية بحرية روسية لأضرار بالغة جراء غارات جوية – عن طريق مدفعية صاروخية أمريكية الصنع، حسبما أفادت القوات الروسية. والمنصة؛ الواقعة قبالة ساحل شبه جزيرة القرم، هي أحدث الأهداف التي حددتها أوكرانيا في سعيها نحو زيادة عدد الأهداف التي تضربها، على أمل أن تنتشر القوات والدفاعات الروسية على مساحات واسعة مما يؤدي إلى إضعافها واستنزاف الاحتياطيات الكبيرة لروسيا من المعدات العسكرية ويُقال الآن إن جسر جسر القرم الذي يربط شبه جزيرة القرم مع البر الرئيسي قد أصبح هدفًا مما يُلزم الجيش الروسي استهلاك المزيد من الموارد للدفاع عنه.
في الوقت الذي تسارعت فيه وتيرة الهجمات؛ بدأت روسيا في استخدام أسلحة أكثر دقة في محاولة لضمان عدم دفع قطاع النقل المدني لمواجهتها لا سيما أن استخدام الموانئ التجارية لا يزال تحت السيطرة الأوكرانية، وقد تم وضع ألغام بحرية في مداخل هذه الموانئ خصوصًا في مدينة أوديسا.
وفي حين أنه قد تم دفع هذه السفن لتقديم تساؤلات لروسيا “المخادعة” بشأن ما إذا كانت ستتعرض لإطلاق نار عن طريق أنظمة الأسلحة التقليدية، إلا أن اكتُشف أن الألغام أوتوماتيكية وسوف تنفجر بغض النظر عن جنسية السفينة التي تصطدم بها.
وأحد مخاطر الألغام العائمة هو أنها ستنجرف في النهاية؛ حيث تم إصدار تحذيرات لحركة المرور البحري في البحر الأسود وتم رصد ألغام في أقصى الجنوب حتى مضيق البوسفور، وقد تمكن الجيش التركي من إبطال مفعولها، وطالب – إلى جانب مجموعة من الدول الأخرى – بإيجاد حل سريع؛ حيث تسيطر تركيا على جزء كبير من البحر الأسود، والذي تعتبره مصلحة حيوية للبلاد، كما أنها تسيطر – وهي الحارس – على الممر المائي الوحيد الذي يمتد من البحر الأبيض المتوسط إلى البحر الأسود مما يجعلها لاعبًا إستراتيجيًّا في المنطقة.
من المقرر أن يزور وفد عسكري تركي موسكو للتفاوض بشأن المرور الآمن للشحن التجاري إلى الموانئ التجارية الأوكرانية، في مسعى لاستئناف صادرات الحبوب المتوقفة التي تعتبر حيوية لإنتاج الغذاء في البلدان حول العالم، كما أن هناك مخاوف من أن أزمة الغذاء المتزايدة – التي تفاقمت بسبب أنماط المناخ العالمي التي تؤثر على المحاصيل والتباطؤ العام في سلسلة التوريد العالمية – قد تبدأ في إحداث تبعات خطيرة على الاستقرار الإقليمي إذا لم تبدأ هذه السلع الحيوية في التدفق بكميات كبيرة. وفي تلك الأثناء؛ تواصل الصواريخ الروسية ضرب البنية التحتية الاقتصادية لأوكرانيا، وقد تضررت صوامع الحبوب في مدينة ميكولايف بدرجة كبيرة مما أعاق قدرة أوكرانيا على تأمين الكميات الضخمة المطلوبة.
إن الحرب البحرية في أوكرانيا ووضع الألغام أمام موانئها والهجمات على الأهداف الإستراتيجية؛ هي محاولة روسية لخنق أوكرانيا اقتصاديًا وحرمانها من المواد الخام والأموال اللازمة لخوض حرب صناعية، وقد بلغت صادرات أوكرانيا في سنة 2020 حوالي 52.7 مليار دولار وهي بحاجة ماسة الآن إلى المال حيث إنه من المرجح أن يطول أمد الحرب.
من المقرر حصاد المحاصيل الحيوية في أوكرانيا في غضون أسابيع قليلة، مما زاد من الشعور بالإلحاح، ورغم النظر في طرق بديلة لصادراتها مثل الطريق إلى موانئ البلطيق، إلا أن معظمها بري وليس لديها القدرة على تصدير هذه السلع بالكميات المطلوبة، حيث تعادل سفينة الحاويات الواحدة حمولة 50 قطارًا من الحبوب، وعلى اعتبار أن ما نسبته 80 في المئة على الأقل من جميع التجارة العالمية يمر عن طريق البحر، فإن السيطرة على موانئ البحر الأسود هذه يعد أمرًا حيويًّا.
لا تظهر قبضة روسيا على الشرايين التجارية الحيوية لأوكرانيا أي علامة على التخفيف رغم الضغوط الدولية، ولا يقتصر تأثير الحصار على أوكرانيا فحسب، بل يمتد لجميع أنحاء العالم في الوقت الذي يستمر الطلب على المواد الغذائية الأساسية وأسعارها في الارتفاع. ومع اقتراب موسم الحصاد في أوكرانيا؛ أصبح معظم سكانها الأصحاء عالقين في القتال والهجمات المستمرة على البنية التحتية الزراعية في البلاد، وقد بدأت تتلاشى احتمالية أن تتمكن أوكرانيا من تصدير الكميات التي تحتاجها للحفاظ على حربها مع روسيا وهو بالتحديد ما تأمله روسيا.
المصدر: الجزيرة