ترجمة وتحرير: نون بوست
قبالة ميناء مدينة فيراكروز المكسيكية في خليج المكسيك تمثال ضخم مكرّس لـ “المهاجر اللبناني”. ويمثّل هذا النصب البرونزي شهادة على الدور المهم الذي لعبه عشرات الآلاف من العرب في تشكيل المكسيك الحديثة عندما بدأ المهاجرون، الذين يقدر عددهم بين 400 ألف ومليونين، بالتوافد على المدينة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بحثًا عن حياة أفضل.
قالت عائدة جوري دي سعد خلال مقابلة مع “ميدل إيست آي” في منزلها: “تنقسم أرواحنا إلى قسمين”، وعلى الرغم من نشأتها في ولاية ميتشواكان، فقد زارت لبنان عدة مرات. تجسد قصة عائدة، وهي من الجيل الثالث من العرب المكسيكيين، حياة العديد من المهاجرين وتعتبر نفسها وريثة فخورة للتقاليد اللبنانية في البلاد.
عندما تدخل منزل عائدة في إحدى ضواحي مدينة مكسيكو، تشعر أنك قد زرت جبال لبنان حيث أن المدخل مزين ببلاط كتب عليه “أهلا وسهلا”، والتصميم الداخلي مليئ بالأعمال الفنية التي تعكس أجيالا من التواصل مع ثقافة الشرق الأوسط التي عززتها عائلتها.
الإبحار للقاء “البايسانوس”
قدم غالبية العرب إلى المكسيك من محافظة جبل لبنان، الذي شهد انهيار صناعة الحرير بعد افتتاح قناة السويس سنة 1869، التي ربطت الأسواق الأوروبية بمنافسين من الشرق الأقصى. وفي العقود التي تلت ذلك، بدأ عشرات الآلاف من المهاجرين من سوريا وفلسطين والأردن والعراق ومصر الهجرة إلى المكسيك أيضا، كما أدت الحرب العالمية الأولى إلى موجة جديدة من الهجرة، بعد أن دمّر نقص الغذاء والمجاعة بلاد الشام.
ولد خوسيه جوري، جد عائدة، سنة 1878 في قرية بزبدين في جبل لبنان، وبعد انهيار صناعة الحرير التي تمثّل قطاع التشغيل الرئيسي في القرية قرر خوسيه الانتقال إلى الأمريكتين. أخبرت عائدة ميدل إيست آي أن جدّها “كان يستلف المال من أقاربه، ليرة من هنا وليرتان من هناك، حتى تمكّن من شراء تذكرة لفيراكروز وأبحر حاملا معه حقيبة سفر واحدة فقط”.
عند وصوله، توجه خوسيه إلى القنصل الفخري العثماني الذي كان قد وصل قبله بفترة قليلة. بعد ذلك، ساعد خوسيه في توجيه المهاجرين إلى المدن التي يمكنهم العثور فيها على أشخاص من أوطانه يطلق عليهم اسم “بايسانوس”، وهي كلمة إسبانية تعني مواطنين ولا يزال يستخدمها المكسيكيون العرب اليوم للإشارة إلى بعضهم البعض. وبمساعدة هؤلاء “البايسانوس”، أنشأ خوسيه مصنعا للجوارب في مدينة موريليا، لكن الوضع لم يستمر طويلا.
بعد اندلاع الحرب الأهلية المكسيكية في عشرينيات القرن الماضي، عانت البلاد من حملات مناهضة للأجانب، بما في ذلك مذابح لسكان شرق آسيا وعمليات القتل المستهدف للعرب. وحظر قانون صدر سنة 1927 الهجرة من الشرق الأوسط وجعل أولئك الموجودين بالفعل في المكسيك عرضة للترحيل، وسرعان ما وجد خوسيه نفسه في حالة من الهستيريا العارمة.
قالت عائدة لموقع ميدل إيست آي: “في أواخر عشرينيات القرن الماضي، بعد كل تلك السنوات من العمل الشاق، صادرت الحكومة مصنعه، وأُجبر على البدء من جديد، وبيع الحلي على الطريق لكسب لقمة العيش”.
قطعة بلاط كتب عليها “أهلا وسهلا”، للترحيب بالزوار في منزل عائدة جوري دي سعد.
رغم عدم إتقانهم اللغة الإسبانية، أصبح العديد من المهاجرين بائعين جوالين وتجارا، وأوصلوا السلع إلى المدن والمجتمعات المعزولة، وأصبح “التوركو المتنقل”، وهو الاسم الذي كان يُطلق على القادمين من الشرق الأوسط، شخصية معروفة، وازدهر العرب نتيجة لدورهم الحاسم في الاقتصاد. لكن سرعان ما سئم خوسيه من حياة البائع المتجول.
ذكرت عائدة أن جدّها “قرر الذهاب إلى مدينة مكسيكو لإقناع الممثلين والممثلات بالحضور وتقديم عروض مسرحية”، وتمكّن جدها من إحضار أول جهاز لعرض الأفلام إلى المنطقة، وأسس في النهاية أول قاعة سينما في المنطقة. كان نجاحه يشبه نجاح العديد من المهاجرين العرب، الذين تمكنوا من الانضمام إلى الطبقات الوسطى المكسيكية المتنقلة رغم التحيز والعداء المنتشر على نطاق واسع. وفي خضم كل ذلك، لم تتخلى العائلة عن جذورها أبدا.
صرّحت عائدة لميدل إيست آي: “لقد افتقدت والدتي قريتها كثيرا لدرجة أنها حرصت خلال زيارتها الأخيرة إلى هناك، على رسم بزبدين، ثمّ علقت تلك اللوحة في منزلنا وكبرنا على رؤيتها دائما”.
الحفاظ على العلاقات مع الوطن
منذ ذلك الحين، لعبت عائدة دورا نشطا في تعزيز العلاقات مع العالم العربي، فهي إحدى مؤسسي نادي “الفنان” للفنانين من أصل لبناني ومقره في مدينة مكسيكو. تأسس النادي لأول مرة في سنة 1957، وهو واحد من بين العديد من المراكز في جميع أنحاء المكسيك التي تلبي احتياجات المكسيكيين من أصل عربي وهي رمز للنجاح الذي حققه المهاجرون العرب.
وبينما يشكل المسيحيون القطاع الأبرز والأكثر وضوحا في المجتمع المكسيكي العربي، فإن اليهود والدروز والمسلمين وغيرهم من الطوائف الأخرى يمثلون طيفا واسعا من التنوع الديني.
يعدّ اللبنانيون الجالية العربية الأكثر بروزا، لكن غالبية أسلافهم وصلوا إلى الشواطئ المكسيكية قبل وقت طويل من ظهور دولة تسمى لبنان، التي أصبحت رسميا دولة تحت الانتداب الفرنسي في عشرينيات القرن الماضي. إلى جانب ذلك، نسبة كبيرة المهاجرين من أجزاء أخرى من العالم العربي، مثل سوريا وفلسطين والعراق والأردن ومصر.
تمثال القديس شربل يقف فوق المصلين في الكاتدرائية المارونية في وسط مدينة مكسيكو.
يمكن رؤية تأثير الثقافة العربية في العديد من جوانب الحياة المكسيكية، ولكن بشكل واضح في المطبخ. ويمكن لأي شخص زار أحد أشهر الأطعمة في الشوارع، الذي يعرف باسم تاكو الباستور، أن يلاحظ أوجه التشابه بين الشاورما العربية أو الشاورما التركية. يتم تتبيل اللحم بتوابل أناتو الأصلية التي تشوى في أسياخ لساعات، بعد ذلك يتم تقطيعها وتناولها على تورتيلا ذرة مغطاة بالأناناس والكزبرة والبصل.
تشتهر شبه جزيرة يوكاتان باللحوم المفرومة وفطائر البرغل التي تسمى الكبة – وهو أيضًا اسم طبق شامي. حتى الكاثوليكية المكسيكية لم تسلم من التأثير العربي. ففي قلب مدينة مكسيكو التاريخية، توجد الكنيسة الباروكية للسيدة فالفانيرا، المعروفة باسم الكاتدرائية المارونية.
وتعتبر الكاتدرائية المركز الوطني للقديس شربل والقديسة رفقا، القديسين اللبنانيين المارونيين اللذين أصبحا محوريين في الطقوس والحج هنا. وغالبية الذين يزورون الكاتدرائية مكسيكيون غير لبنانيين، ينجذبون إلى الإيمان القوي ببركة القديسين لقبول صلاة المؤمنين.
لبناني أم عربي؟
لاحظت تيريزا ألفارو فيلكامب، باحثة في شؤون الهجرة في الشرق الأوسط ومؤلفة كتاب “بعيد عن الله، قريب جدًا من المكسيك”، أن التمييز دفع المهاجرين الناجحين إلى الارتباط بشكل متزايد بلبنان. وتقول فيلكامب إن “التاريخ القائم يميل إلى تجاهل تنوع أدوار المهاجرين في التاريخ المكسيكي”. وتضيف “لقد طغت فكرة أن اللبنانيين سرعان ما تثاقفوا وسيطروا اقتصاديًا على تنوع المهاجرين واستقبالهم المختلف في المكسيك”.
أصبحت القصة اللبنانية تلقي بظلالها على العديد من روايات المهاجرين العرب المختلفة. وكان رد فعل الكثيرين على التمييز الاندماج في المجتمع المكسيكي – وهو أمر سهل للغاية بالنظر إلى سماتهم الجسدية المتشابهة – في حين اندمج العديد من المسلمين أو الدروز في المجتمع الكاثوليكي.
لا أحد متأكد من العدد الإجمالي للمكسيكيين العرب جزئيًا لأن العديد من المكسيكيين لا يعرفون أقاربهن الأكبر سنًا – الذين تغيرت أسماء العديد منهم باللاتينية – الذين ينحدرون في الأصل من الشرق الأوسط.
تقوم الهوية الوطنية المكسيكية حول فكرة “الميستيثو أو الممزوجين”، وهو مفهوم يصف الثقافة المكسيكية على أنها نتاج اختلاط الشعوب الأصلية لقارة أمريكا الجنوبية والإسبانية، وبالتالي تستبعد الدور الذي لعبه المهاجرون وكذلك المكسيكيين الأفارقة.
ونتيجة لذلك، صورت العديد من مجموعات المهاجرين أنفسهم على أنهم أجانب ناجحون رغم أنهم لم يندمجوا في الثقافة المكسيكية. إنهم يتصرفون كمجموعات اجتماعية غنية نسبيًا – ومنعزلة نسبيًا – لا تختلط كثيرًا خارج مجتمعها ومؤسساتها.
“نحن أكثر ارتباطا بثقافة العالم العربي مقارنة بالمكسيك”
تعد المكسيك اليوم موطن ما بين 40 ألف و65 ألف يهودي، ينتمي حوالي ثلثهم أو نصفهم إلى العالم العربي، ونحو خمسهم من السفارديم الذين لهم جذور في تركيا والبلقان.
من بين هذه الجالية ليندا بوكاي، وهي عالمة نفس يهودية ولدت ونشأت في مدينة مكسيكو، عائلة والدتها من حلب ووالدها من دمشق، مع بعض الجذور البيروتية. تفضل جدتها – التي ولدت وترعرعت في المكسيك – التحدث باللغة العربية، وترعرعت بوكاي وهي تمزج لغتها الإسبانية بعبارات عربية مثل الله معاك وكيش بارا ( يعني أخرجها من عقلك).
ذكرت بوكاي في حوار مع موقع ميدل إيست آي: “أعتقد أننا أكثر ارتباطا بثقافة العالم العربي مقارنة بالمكسيك”، مشيرة إلى أن لديهم الكثير من الأطعمة والعادات المشتركة مع السوريين. وأضافت “عاشت عائلتي في سوريا لأجيال قبل المجيء إلى هنا في الثلاثينيات، لذلك من المنطقي أننا ما زلنا مرتبطين بهذه الثقافة”.
بائع في مكسيكو سيتي وهو يقطع اللحم من أجل سندويشات التاكو، وهو طبق يُعتقد أنه مشتق من كباب الشاورما، الذي جلبه المهاجرون اللبنانيون في أوائل القرن العشرين.
قالت بوكاي إن علاقتها بالجالية اللبنانية تكاد تكون منعدمة. ومع أن المسيحيين اندمجوا بشكل عام في المجتمع المكسيكي الكاثوليكي إلى حد ما، إلا أن التجربة بالنسبة لليهود كانت مختلفة نوعًا ما.
وتجدر الإشارة إلى أن التعصب التاريخي المعادي للعرب أو المهاجرين يتفاقم جراء معاداة السامية، التي غالبًا ما تكون مسترشدة بميول كاثوليكية. حتى سنة 1821، كان من غير القانوني أن تكون يهوديًا في المكسيك بسبب محاكم التفتيش الكاثوليكية. وحتى اليوم، لا تزال الصعوبات قائمة. وتتذكر بوكاي إحدى صديقاتها الكاثوليك القليلات عندما اتهمها أحدهم وهو غاضب بالضلوع في قتل يسوع المسيح.
تضحك بوكاي عندما تتذكر الحادث، مضيفة: “أود أن أعتقد أنني فعلت شيئًا مهمًا للغاية! أنا مكسيكية وأحب هذا البلد، لكنني لا أشعر بأنني جزء من ثقافة هذا البلد. لا أشعر بالسعادة أو بالحزن، أشعر فقط أني مختلفة”.
أشعر بأني في بيتي
بينما يحتفظ المجتمع اللبناني بدور مرئي كمجتمع أجنبي ومحلي على حد سواء، ينغلق العرب الآخرون حول هوياتهم الدينية، ولا يتوانون عن زيارة المعابد والمساجد والمراكز الدينية حيث تنتشر رؤية مختلفة للحياة العربية المكسيكية.
وبالنسبة لمئات الآلاف الذين اندمجوا في مجتمع المستيثو الأوسع، هناك دائمًا فرصة أن يجدوا أنفسهم يومًا ما يأكلون تاكو الباستور بجانب الكاتدرائية الماورية في مكان ما في المكسيك معتقدين أن المشهد بأكمله يبدو مشابها تقريبا لموطنهم.
المصدر: ميدل إيست آي