كشف الرئيس التونسي، أخيرًا، عن مسودة الدستور الجديد الذي بشر به قبل أشهر، مسودة حملت معها تغييرات كبرى مقارنة بدستور سنة 2014، منها المتعلق بنظام الحكم ومدنية الدولة، فضلًا عن الحقوق والحريات، ما جعل مواقف الرفض تتوالى، فحتى أقرب المقربين لسعيد انفض عنه.
رفض واسع
عكست اللحظات التي أعقبت المصادقة النهائية على دستور الثورة في ساعة متأخرة من مساء يوم 26 يناير/كانون الثاني 2014 وحدة التونسيين وتوافقهم على صياغة دستور يعبّر عن هويتهم الوطنية الجامعة وخصوصياتهم الثقافية والجغرافية والفكرية والسياسية.
وعكست الأجواء الاحتفالية داخل المجلس الوطني التأسيسي، حالة الارتياح عقب إنجاز أحد أهم استحقاقات الثورة التونسية التي أنهت أكثر من ستة عقود من حكم الحزب الواحد في 14 يناير/كانون الثاني 2011، فهو الدستور الجامع رغم بعض الاختلالات التي حملها.
أستاذ القانون العام بالجامعة التونسية كمال بن مسعود: “مشروع الدستور الذي تمّ نشره مساء أمس بالرائد الرسمي هو دستور الرئيس قيس سعيّد قدّ على مقاسه ولا يمكن أن يكون دستور التونسيين أو أن يعبّر عن إرادتهم”#تونس#لتونس_جديدة pic.twitter.com/kuQnER5PIO
— لتونس جديدة (@anewtunisia) July 1, 2022
هذا الدستور لم يرُق للرئيس قيس سعيد رغم أنه جاء إلى كرسي الحكم عن طريقه، فقد انقلب عليه وجمّد العمل به بعد أن تعسف على أغلب فصوله خدمة لمشروعه الذي يُريد تنزيله أرض الواقع مهما كلّفه الأمر، وبعد ذلك صاغ مشروع دستور ليحل محله.
تمّ عرض المشروع الجديد للدستور، لكن هذه المرة لم نشهد ذلك الترحيب والاحتفاء، بالعكس وجدنا مظاهر الرفض والاستنكار والسخرية في بعض الأحيان، فمشروع الدستور قُدّ على مقاس الرئيس قيس سعيد رغم ادعائه التشارك في صياغته.
العديد من الدول لا تريد التورط وإعلان موقفها من مشروع الدستور الجديد خاصة بعد الموقف الذي صدر قبل أشهر عن لجنة البندقية
ما إن تم الإعلان عن الصياغة النهائية لهذا المشروع حتى تسارعت مواقف الرفض، نبدأ بالأمين العام لحزب العمال اليساري حمة الهمامي الذي قال إن مشروع الدستور أعطى قيس سعيد “الصلاحيات الإمبراطورية” بعد أن استحوذ على السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية.
واعتبر الهمامي في تصريحات لإذاعة محلية أن الهدف من مشروع الدستور المعلن إرساء نظام استبدادي، مصرحًا بأنه ينبغي إسقاط الاستفتاء المنتظر والعمل على إسقاط مشروع قيس سعيد ومنظومته وقيس سعيد نفسه.
كراس شروط ضيعة سعدون ‼️ معادش دستور هههه
مزروب سيدنا يحب يدفو ليه ليه#دستور_قيس_سعيد#يسقط_الانقلاب_في_تونس pic.twitter.com/lSRkaZrPAz
— Nizar Tabac (@nizar_tabac) June 30, 2022
من جهته، وصف الأمين العام للتيار الديمقراطي غازي الشواشي مسودة الدستور بأنها “دستور أنا ربكم الأعلى…،” وأوضح الشواشي في موضع آخر أن الدستور الجديد يُكرّس لجماهيرية مثلما عاشتها ليبيا في عهد القذافي، وسبق أن أعلن التيار الديمقراطي مساندته انقلاب قيس سعيد من البداية وكان من أشد الداعمين له، لكن غير موقفه فيما بعد نتيجة تيقنه من النهج التسلطي الذي ينتهجه سعيد.
من جهتها انتقدت القيادية في حركة النهضة يمينة الزغلامي نص المسودة قائلة “لا مدنية الدولة، لا حقوق المرأة، لا مساواة لا سلط، لا هيئات لا لا لا…” وأضافت في تدوينة أخرى “كدارسة للتاريخ وتحت أنظار أساتذتي الأجلاء أطالب بعدم مقارنة هذه الوثيقة بما كتب سابقًا منذ دستور1857 ثم عهد الأمان: شكلًا: لغة ومصطلحات ومضمونًا سامحوني إنه نص غريب وعجيب”.
أستاذ القانون الدستوري في #تونس جوهر بن مبارك يصف مشروع دستور #قيس_سعيد بالـ «الهذيان الشاهق»، قائلا إنه نسخة حرفية عن دستور الرئيس الأسبق زين العابدين #بن_علي
— الناشطة التونسية (@tunsia70) July 1, 2022
بدوره علّق أستاذ القانون الدستوري أمين محفوظ وعضو الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة على هذا المشروع بطريقته الخاصة، إذ شارك أغنية بعنوان آغاتا على حسابه بموقع فيسبوك تقول كلماتها: “آغاتا لا تكذبي عليّ.. إنّه ليس ابني” في إشارة إلى تبرّؤه من النسخة المنشورة بالرائد الرسمي التي يبدو أنها مختلفة كثيرًا عن النسخة التي قدمتها اللجنة الاستشارية لرئيس الجمهورية قيس سعيد.
أما أستاذة القانون الدستوري سلسبيل القليبي، فقد رأت في مشروع الدستور الجديد “أكثر من خذلان للتونسيين”، واعتبر القليبي في حديث إذاعي أن الدستور الجديد “لا يقدم أي بوادر حلول”، وقالت القليبي إن المسار الحاليّ كاملًا بُني على سردية أن دستور 2014 هو دستور النهضة وما سيأتي مكانه حتمًا سيكون أفضل، في حين أن دستور 2014 وقع افتكاكه من أيادي النهضة، حسب تعبيرها.
كما عبرت العضو في اللجنة الاستشارية فاطمة المسدي التي تعد من أشد مساندي الرئيس عن “تفاجئهم من طرح مسائل في مشروع الدستور الجديد لم يتم التفاهم ولا الاتفاق حولها خلال اجتماعاتهم، من ذلك غياب الباب الاقتصادي رغم الاتفاق حول التنصيص عليه والتنصيص على بعث مجالس الجهات والأقاليم رغم أنه لم يتم التداول حولها”.
كما عدّ أستاذ القانون العام صغير الزكرواوي، وهو أيضًا أحد أبرز أنصار سعيد، مشروع الدستور الجديد “خيبة وكتب بعجل وجعل من رئيس الجمهورية قطب الرحى وحجر الزاوية”، وأقر الزكراوي أن “مشروع الدستور الجديد سيتم تمريره لعدم وجود عتبة وسيمرر حتى بـ100 ألف ناخب”، قائلًا: “هذا الدستور سيمر بالقوة لأن تمشي رئيس الجمهورية المرور بقوة”.
صمت خارجي
هذه بعض المواقف الداخلية فيما يتعلق بمسودة الدستور الجديد الذي يعتزم نظام قيس سعيد القيام باستفتاء شعبي بخصوصه يوم 25 يوليو/تموز المقبل، ومن المنتظر أن يتم المصادقة عليه إذ لم يتم تحديد أي عتبة لتمريره، يعني ذلك أن صوتًا واحدًا بالموافقة يمكن أن يجعله دستورًا نهائيًا.
على عكس دستور سنة 2014، لم ترحب القوى الأجنبية ذات العلاقة بما يجري في تونس بمسودة الدستور الجديد، فالأمم المتحدة مثلًا أعلنت أمس الجمعة، ضرورة استناد الإصلاح الدستوري في تونس إلى “سيادة القانون”، وأكدت أهمية الحوار لحل الخلافات السياسية بالبلاد.
يرى سعيد ضرورة أن تكون كل السلطات بيد الرئيس حتى يُحسن الحكم دون أن يعارضه أحد حتى إن كان منتخبًا من الشعب
قال المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة ستيفان دوجاريك، في مؤتمر صحفي بالمقر الدائم للمنظمة الدولية في نيويورك: “نحن على دراية بالتقارير الخاصة بمشروع الدستور التونسي (..) نؤكد أهمية أن يكون الإصلاح الدستوري شاملًا وذا مصداقية ومستندًا إلى سيادة القانون”، وأضاف: “نؤكد أيضًا أهمية الحوار بين كل الأطراف التونسية لمعالجة الخلافات السياسية والمضي قدمًا نحو تأسيس دولة ديمقراطية ومزدهرة”.
بدوره، قال مدير منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في “اللجنة الدولية للحقوقيين” سعيد بن عربية، لوكالة الصحافة الفرنسية: “مشروع الدستور هذا يطيح بمبدأ الفصل بين السلطات”، ورأى بن عربية أن المشروع يؤسس “نظامًا رئاسيًا بلا ضوابط أو توازنات مع رئيس مطلق الصلاحيات وبرلمان عاجز وقضاء مقلّمة أظافره”.
باستثناء هذه المواقف الخجولة لم نسمع أي موقف من أي جهة أخرى، ذلك أن العديد من الدول لا تريد التورط وإعلان موقفها من مشروع الدستور الجديد خاصة بعد الموقف الذي صدر قبل أشهر عن لجنة البندقية.
وفي تقرير لها نهاية مايو/أيار الماضي، ردًا على طلب مستعجل من بعثة الاتحاد الأوروبي بتونس، عن مدى تطابق قرارات الرئيس قيس سعيد بخصوص تنظيم استفتاء وتنقيح القانون المحدث لهيئة الانتخابات مع الدستور والإطار التشريعي، اعتبرت الهيئة أن “إلغاء المرسوم عدد 22 لسنة 2022 المنقح لتركيبة هيئة الانتخابات، ضروري من أجل شرعية ومصداقية أي انتخابات أو استفتاء”.
سعيد يواصل نهجه
بغض النظر عن مواقف الرفض والاستنكار لا يبدو أن سعيد مكترث بأحد، فهو ماضٍ في نهجه بعد أن عبّد الطريق أمامه، مستغلًا ضعف الطبقة السياسية التي تعارضه وامتعاض التونسيين من الأحزاب السياسية التي حكمت البلاد في السنوات الأخيرة وحتى تلك التي كانت تدعي المعارضة.
هاو وين ماشي بيكم #قيس_سعيد ..#يسقط_الانقلاب_في_تونس#يسقط_خائن_القسم#قاطع_الاستفتاء#دستور_سعيّد_باطل #تونس ?? pic.twitter.com/xRso005pqT
— Clandestino (@Fuorilegge74) June 28, 2022
كما يستغل سعيد صمت القوى الأجنبية وعدم اهتمامها بما يجري في تونس بالكيفية المطلوبة، ذلك أن كل تركيزهم منصب على الحرب الروسية ضد أوكرانيا والتهديد الروسي للغرب، فحتى ليبيا التي وصلت مراحل حرجة من أزمتها تراجع الاهتمام الغربي بها.
يستغل الرئيس قيس سعيد كل ذلك، لفرض نظام الحكم الذي ينظر له منذ سنة 2012، فهو يرى ضرورة أن تكون كل السلطات بيد الرئيس حتى يُحسن الحكم دون أن يعارضه أحد حتى إن كان منتخبًا من الشعب.
لكن هذا التوجه يمكن أن يكون وبالًا على التونسيين، خاصة أن بعض نتائجه بدت واضحة للعيان، إذ تعددت المحاكمات العسكرية وتلفيق التهم وتسخير مكونات الدولة ومؤسساتها لخدمة مشروع الرئيس الشخصي.