كشفت دراسة أجرتها مؤسسة “متروبول” التركية للأبحاث والدراسات تحت عنوان “توقعات السياحة الداخلية لعام 2022” أن 70% من الأتراك لن يقضوا عطلة هذا العام خارج مناطق سكنهم، بينما أفاد 10% منهم نيتهم قضاء العطلة من خلال السفر إلى مسقط رأسهم، مقابل 12.8% قد يذهبون إلى بلدان ساحلية قريبة منهم، فيما قرر 1.6% السفر خارج البلاد، أما نصف المشاركين في الدراسة فلم يحددوا بعد المكان المقرر أن يذهبوا له لقضاء العطلة.
الدراسة قدمت تصورًا عامًا عن الميزانيات التي تخصصها الأسر التركية لقضاء العطلة هذا الموسم، في إشارة إلى حجم الانخفاض مقارنة بما كانت عليه في السنوات الماضية، إذ أفاد 23% أن ميزانيتهم لن تتخطى 4 آلاف ليرة مقابل 10 آلاف ليرة حددها 27% من العينة، بينما تترواح بين 4-6 آلاف ليرة لدى 16.5% من المشاركين مقارنة بـ8 آلاف ليرة لـ24.7% ممن شملتهم الدراسة.
وتمثل السياحة أحد أضلاع الاقتصاد التركي الرئيسية التي تعتمد عليها البلاد لإنعاش الخزانة من العملات الأجنبية وإحداث حالة من الحراك والسيولة الاقتصادية على المستوى الداخلي، غير أن هذا المورد تعرض مؤخرًا لضربة قاسية بسبب جائحة كورونا وما تلاها من الحرب الروسية الأوكرانية التي أفقدت البلاد الشريحة الكبرى من سائحيها الأجانب.
بدأ انهيار عائدات القطاع السياحي التركي عام 2020 حين حققت البلاد 12 مليار دولار، مقارنة بـ34.5 مليار دولار حققتها عام 2019، و29.5 مليار دولار في 2018، وفقًا لمؤسسة الإحصاء التركية “TÜIK”، فيما تتصاعد مخاوف انهيار السياحة الداخلية التي يعول عليها في تعويض عجز السياحة الخارجية، لكنه التعويل الذي يصطدم بالتضخم والمستوى المعيشي المتدني الذي ربما يُفقد تركيا مصدرًا آخر من مصادر العملة الأجنبية والإنعاش الاقتصادي التي طالما ارتكزت عليه في خطط التنمية التي تبنتها منذ 2003 وحتى اليوم.
التضخم والأسعار
تواجه تركيا مستويات من التضخم هي الأعلى منذ عقدين من الزمن، فوفق البيانات الصادرة عن معهد الإحصاء التركي مايو/آيار الماضي قفز معدل التضخم في البلاد في أبريل/نيسان 2022 إلى نحو 70%، مرتفعًا عما كان عليه في مارس/آذار بقرابة 9% حين بلغ 61.14%.
من المتوقع أن تتأثر حجم المدخرات السنوية للمواطنين الأتراك بشكل ملحوظ
وأرجع البنك المركزي ومؤسسات التحليل الاقتصادي هذا الارتفاع إلى الحرب الروسية الأوكرانية التي كانت لها تبعات مؤثرة على الاقتصاد العالمي، فضلًا عن الهزات العنيفة التي شهدتها أسواق الطاقة التي عانت من ارتفاعات جنونية في الأسعار، ما انعكس على حجم موازنة البلاد التي تحتل فيها بنود دعم الطاقة مساحة ليست بالقليلة.
وقبل الحرب الحاليّة شهدت تركيا موجات قاسية من التضخم بسبب جائحة كورونا على مدار عامين كاملين، بجانب التحديات التي تواجهها على المستوى الداخلي والخارجي التي كان لها دورها البارز في انهيار العملة المحلية “الليرة”، ما كان له أثره السلبي على المستويات المعيشية للمواطن التركي لا سيما شريحتي محدودي ومتوسطي الدخول.
الموجة العاتية من ارتفاع أسعار السلع الأساسية رفعت عتبة الفقر في تركيا من 4250 ليرة قبل 3 أعوام إلى 14978 ليرة حاليًّا، ما يعني قفزة بلغت ثلاثة أضعاف ونصف تقريبًا، بحسب مركز أبحاث المعادن التركية، وهو ما زاد من توقعات خبراء الاقتصاد بشأن معدلات الفقر التي من المرجح زيادتها من 10.2% عام 2019 إلى 12.2% في 2021، وصولًا إلى أكثر من 13% العام الحاليّ، فيما يرى البعض أن الرقم أكبر مما هو معلن بكثير.
وكنتيجة اقتصادية حتمية لتلك الأرقام فمن المتوقع أن تتأثر حجم المدخرات السنوية للمواطنين الأتراك بشكل ملحوظ، فكل النصائح والتعليمات الصادرة عن المؤسسات الاقتصادية الدولية تحث على التخلي تدريجيًا عن الكماليات مع الاكتفاء بالضروريات (المأكل والمشرب والملبس والمسكن)، وعليه وفي ظل تلك الوضعية تعتبر الجولات السياحية مسألة رفاهية لكثير من متوسطي الدخول خاصة مع غياب أي مؤشرات إيجابية بشأن المستقبل القريب.
السياحة الداخلية
الكاتبة الصحفية التركية سيفيلاي يلمان في مقال لها بصحيفة “haberturk” جاء تحت عنوان “كم منا سيذهب هذا الصيف في إجازة” أشارت إلى أنها لم تتفاجأ بنتائج مؤسسة “متروبول” للأبحاث، لافتة إلى أن العديد من المؤشرات كانت تقود إلى تلك النتيجة، فالتضخم والأسعار المرتفعة لا شك أنها ستؤثر على الممارسات الحياتية للسواد الأعظم من الأتراك.
وأوضحت يلمان أنه ومن خلال الاتصالات التي أجرتها مع دوائرها المقربة في مدينة أنطاليا التي تسكن فيها، لاحظت أن النسبة الكبرى قررت عدم قضاء العطلة هذا العام مقارنة بالسنوات الماضية على سبيل المثال، مؤكدة أن المشكلة ليست أنطاليا وحدها لكنها أزمة عامة تهدد كل المدن التركية وتلوح بمنعطف قاس للسياحة الداخلية.
معدلات السياحة الداخلية ارتفعت بنسبة 68.6% في الفترة من أبريل/نيسان إلى يونيو/حزيران 2021
المقال نوه أنه رغم أن أزمة الأسعار والتضخم عالمية وليست تركية، لا بد أن تكون هناك حلول عاجلة لعبور تلك المرحلة الحرجة التي تهدد واحدة من ثوابت الاقتصاد الوطني التركي، مناشدة الحكومة بالعمل على تبني خطط وإستراتيجيات عاجلة لجذب السياحة العالمية، كاشفة عن إحدى نتائج الدراسات التي أجريت في أمريكا مؤخرًا وأشارت إلى أن 49% من الأمريكيين ينوون قضاء العطلة خارج بلادهم، قائلة “دعونا نصلي من أجل إدراج تركيا في خطط العطلات الخاصة بهؤلاء الـ49% “.
التخوفات ذاتها عبر عنها رئيس جمعية مديري وكالات السفر التركية، محمد جيم، حين لفت إلى تعرض الفنادق والمنتجعات التي تستضيف رواد السياحة الثقافية لخسائر فادحة، بعضها قد يضطر للانغلاق بسبب الأسعار المرتفعة التي أثرت على حجم هذا النوع من السياحة الذي يشكل قرابة 50% من حجم السياحة الداخلية.
وأوضح جيم أن وكالات السياحة الثقافية الداخلية اضطرت لزيادة أسعار رحلاتها أكثر من مرة وبنسب تقترب من 100% لمواكبة القفزات الكبيرة في أسعار السلع والخدمات، منوهًا أن الوقود زاد بنسبة 274%، فيما زادت بقية مصادر الطاقة بـ174%، أما السلع والمواد الغذائية فزادت بنسبة 180% في مقابل 84% زيادة في نسبة الموظفين.
وحذر رئيس جمعية مديري وكالات السفر التركية من تداعيات غلق الرحلات الثقافية، لافتًا أن تداعياتها أكبر بكثير من الخسائر المادية، قائلًا: “يكافح ما يقرب من مئة ألف موظف بوكالة السفر السياحي والمرشدين ومشغلي الحافلات والفنادق التي تستضيف الضيوف والمنشآت السياحية من أجل البقاء، سيصبح الجمال الفريد لبلدنا يتيمًا قريبًا إذا لم تقم الحكومة بتخفيضات ضريبية عاجلة”.
يذكر أن معدلات السياحة الداخلية ارتفعت بنسبة 68.6% في الفترة من أبريل/نيسان إلى يونيو/حزيران 2021، على أساس سنوي لتقترب من 9 ملايين زائر أنفقوا تقريبًا 10.7 مليار ليرة تركية (1.3 مليار دولار)، بزيادة 203.2% عن الفترة نفسها من العام الماضي، بحسب بيانات هيئة الإحصاء التركية.
البيانات فندت ميزانية الإنفاق للسياحة الداخلية خلال تلك الفترة على النحو التالي: 92.1% نفقات فردية مقابل 7.9% على شكل رحلات سياحية وبرامج ممنهجة، فيما بلغ متوسط الإنفاق لكل رحلة 1008 ليرات تركية (120 دولارًا أمريكيًا) خلال الفترة محل الدراسة (3 أشهر من أبريل/نيسان حتى يونيو/حزيران)، يتصدرها الطعام بنسبة 28.9% يليها قطاعا النقل بنسبة 27.6% والإقامة 16.6%.
وكان المعهد وغيره من المؤسسات الأخرى المعنية بالسياحة قد توقعت حدوث طفرة جديدة في معدلات السياحة الداخلية بعد إزالة القيود الخاصة بالجائحة، غير أن الحرب الروسية الأوكرانية وموجة التضخم العالمية والانهيار الذي تعاني منه الليرة والتحديات المعيشية للمواطن التركي التي أثرت على خريطة سلوكياته الإنفاقية على مدار العام، كلها عوامل يرجح أن تؤثر على السياحة الداخلية وتثير القلق والمخاوف من خسائر بالجملة قد تتعرض لها هذا الموسم.
خسائر متوقعة
يتوقع مسؤولون أتراك أن المستجدات الأخيرة ستتسبب في خسائر بقطاع السياحة التركي تتراوح بين 5-10 مليارات دولار هذا العام، فبحسب رئيس اتحاد أصحاب الفنادق والمرافق السياحية في جنوب بحر إيجة، بولنت بلبل أوغلو، فإن القطاع برمته سيتلقى خسائر لا تقل عن 5 مليارات دولار، مقارنة بـ10 مليارات بحسب رئيس اتحاد المرافق السياحية في منطقة إيجة (غرب)، محمد إيشلار، الذي يرجع هذا التأثير إلى ارتباط قطاع السياحة بـ54 قطاعًا فرعيًا.
وحذر الخبراء من أن غالبية المنشآت السياحية الداخلية – كغيرها من المؤسسات العاملة في شتى المجالات – ستغلق أبوابها إذا استمر الوضع على ما هو عليه، فيما سيسرح عشرات آلاف العاملين بها، هذا في الوقت الذي ربما تقف فيه الحكومة عاجزة عن التعامل مع تلك الأزمة بخطط عاجلة بسبب العجز المالي الذي تواجهه جراء تراجع قيمة العملة المحلية ونقص العملات الأجنبية.
الكثير من الفنادق التي كانت تبلغ نسب الإشغال بها في السابق 100% ستباع بالمزاد العلني بعدما فقد ملاكها القدرة على سداد ديونهم
وأمام تلك الوضعية الصعبة ناشدت شركات السياحة التركية حكومة بلادها بتقديم الدعم لها لمواجهة الخسائر الناجمة عن الحرب والتضخم وتراجع السياحة الداخلية، ففي تصريحات لصحيفة “جمهوريت” التركية قال رئيس جمعية مديري الفنادق في منتجع بودروم، سيردار كارجيلي أوغلو: “في العام الماضي، جلب قطاع السياحة 24 مليار دولار للاقتصاد التركي، وسيحتاج هذا العام إلى ما لا يقل عن 10 مليارات دولار لتغطية الديون والنفقات الأخرى”.
وأكد أوغلو أن الكثير من الفنادق التي كانت تبلغ نسب الإشغال بها في السابق 100% ستباع بالمزاد العلني بعدما فقد ملاكها القدرة على سداد ديونهم، فيما قال الكاتب التركي المتخصص في مجال السياحة، فهمي كوفتي: “البنوك التركية باعت بالفعل 271 فندقًا للوفاء بالديون غير المسددة لأصحابها السابقين خلال جائحة كورونا”.
وفي المحصلة ورغم أن الأرقام الصادرة عن وزارة الثقافة والسياحة تشير إلى استقبال البلاد نحو 8.88 مليون زائر (معظمهم من دول غرب أوروبا) خلال الأشهر الأربع الأولى من هذا العام، بزيادة تقدر بنحو 172.5% على أساس سنوي، فإن هذا النمو لا يرتقي بعد لمستوى طموحات ما قبل الجائحة حين بلغ عدد الزوار 52 مليون سائح، أنعشوا ميزانية البلاد بنحو 34.5 مليار دولار، فيما تزداد المخاوف من تلقي السياحة الداخلية ضربات مؤثرة هذا العام تزيد من تفاقم الأزمة.